د. ذياب بن سالم العبري

 

ربما لم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي تغادر فيها كُل الخدمات الحكومية جدرانها لتسكن هواتف المواطنين، لكنّ التحول الرقمي يمهّد لهذا الحلم خطوةً بعد أخرى، حتى تُصبح المكاتب ذكرياتٍ من زمن الطوابير والملفات الورقية؛ فالتحول الرقمي لم يعد مجرد تحديث إداري أو تجميل تقني، بل تحول في فلسفة الدولة ذاتها، وفي طبيعة العلاقة بين المواطن ومؤسسته، حيث تصبح الخدمة أقرب، وأبسط، وأسرع، وأكثر عدلًا وشفافية.

في سلطنة عُمان، تمثل بوابة (www.gov.om) نافذة هذا التحول؛ إذ تجمع العديد من الخدمات الحكومية في منصة واحدة تُيسّر الوصول وتختصر الجهد، غير أن المرحلة القادمة تتطلب أن تنتقل الحكومة من موقع الزيارة إلى موقع المرافقة، ومن التفاعل المحدود إلى الخدمة الاستباقية التي تسبق طلب المواطن وتعرف حاجته قبل أن يعبّر عنها. فالحكومة الرقمية التي نطمح إليها هي تلك التي ترافقنا في يومنا دون أن نشعر بوجودها، لأنها ببساطة حاضرة في كل لحظة من خلال الهاتف، تعمل على مدار الساعة، ولا تربط توفر خدماتها بساعات الدوام أو حضور الموظفين، بل تبني عملها على ترابطٍ حكومي متكامل وإمكانات الذكاء الاصطناعي، بحيث لا يحدث تردد أو تأخير في تقديم الخدمة، ولا يُطلب من المواطن مستند أو بيانات أصلها محفوظ في جهة حكومية أخرى. إنها حكومة تعرف مواطنيها كما يعرفونها، وتخاطبهم بلغة واحدة تختصر الجهد وتمنح الطمأنينة.

لقد أثبتت التجارب العالمية أن الرقمنة ليست هدفًا بحد ذاتها؛ بل وسيلة لتبسيط حياة الناس. في إستونيا، لا يُطلب من المواطن وثيقة سبق أن قدّمها، لأنَّ أنظمة الدولة تتحدث مع بعضها بلغة واحدة. وفي الإمارات، تُبادر الحكومة بخدمة المُواطن قبل أن يتقدم بطلبها. تلك التجارب تعلّمنا أنَّ التقنية لا تُبدع إلا حين تُبنى على ثقافة مؤسسية تُؤمن بأن الوقت حق للمواطن، وأن الخدمة مسؤولية لا مِنَّة.

وفي هذا الإطار، يأتي الذكاء الاصطناعي وتقنيات الجيل الرابع كأدوات حاسمة في رفع كفاءة الأداء الحكومي. فالروبوتات البرمجية قادرة على إنجاز آلاف المعاملات في دقائق، والتحليل الذكي للبيانات يستطيع توجيه الموارد بدقة وفاعلية، والمحادثات الآلية تُجيب المواطن فورًا دون انتظار أو تعطيل. إنها تقنيات تنقل الحكومة من مرحلة الاستجابة إلى مرحلة المبادرة، وتجعل الخدمة أسرع وأكثر موثوقية وعدلًا.

ومع كل هذا التقدّم، يبقى التحدي الحقيقي في تبسيط الإجراءات وتوحيد البيانات وتكامل الأنظمة. فالتحول الرقمي يفقد جوهره إذا رقمنّا التعقيد ذاته، أو أبقينا على البيروقراطية في ثوبٍ جديد. الإصلاح يبدأ من إعادة تصميم الخدمات على أساس سهولة التجربة، لا على تكرار النموذج الورقي في صورة إلكترونية. الخدمة الناجحة هي تلك التي تُنجز في لحظتها، وتترك في نفس المواطن شعورًا بالاطمئنان والإنجاز.

إنَّ جعل الخدمات الحكومية في راحة يد المواطن ليس مشروعًا تقنيًا، بل وعدٌ اجتماعي يعكس ثقة الدولة بمواطنيها. فحين تُصبح الخدمات متاحة بلا قيود زمنية، وتُنجز بمعايير واحدة من أي مكان، نكون قد تجاوزنا مفهوم "الخدمة الإلكترونية" إلى مفهوم "الحكومة المرافقة" التي تعمل بلا توقف وتستبق الحاجة قبل أن تُسأل عنها. فالتحول الرقمي في جوهره ليس حكاية أجهزةٍ وأنظمة، بل حكاية إنسانٍ يبحث عن تجربةٍ أكثر كرامة وسهولة في التعامل مع دولته. وحين تُصبح (www.gov.om) بوابةً إلى حكومةٍ بعقل الذكاء الاصطناعي وقلب الإنسان، نكون قد بلغنا التحول الإنساني الرقمي؛ حيث تلتقي التقنية بالرحمة، والبيانات بالثقة، والمواطنة بالفعل لا بالقول.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

البرهان يزور مراكز نازحي الفاشر ويؤكد أولوية الحكومة لمعالجة قضاياهم

قام رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، عبدالفتاح البرهان، اليوم السبت، بزيارة ميدانية لمراكز إيواء نازحي الفاشر بمدينة الدبة في الولاية الشمالية، حيث تفقد مستوى الخدمات المقدمة لهم.

وأشار البرهان إلى روح التكافل الاجتماعي التي يتميز بها المجتمع السوداني، مؤكدًا اهتمام الدولة بمعالجة قضايا النازحين وتمكينهم من العيش الكريم، واعتبارها في سلم أولويات الحكومة.

كما وجه البرهان جميع الأجهزة الحكومية المعنية بالشأن الاجتماعي إلى توفير الخدمات الضرورية للنازحين والعمل على إزالة العقبات التي تعترض حياتهم اليومية. وأضاف أن الزيارة تأتي تقديراً لمعاناتهم والانتهاكات التي تعرضوا لها من قبل المليشيات الإرهابية في الفاشر.

يُذكر أن قوات الدعم السريع كانت قد أعلنت في 26 أكتوبر الماضي استيلاءها على مقر الفرقة السادسة مشاة من الجيش السوداني المتمركزة في الفاشر، بعد عام ونصف من القتال المستمر للسيطرة على المدينة، التي كانت أكبر معقل للقوات الحكومية في شمال دارفور.

مقالات مشابهة

  • محافظ كفر الشيخ يتابع البرنامج التدريبي المتخصص لترخيص المحال العامة ضمن جهود التحول الرقمي
  • الفيسبوك .. عين المواطن التي تراقب وتكشف وتُحاسب
  • "الموارد البشرية" تحقق المركز الأول في مؤشر قياس التحول الرقمي خلال ملتقى الحكومة الرقمية 2025
  • بعد إطلاق الخدمة رسميا.. كيفية استخراج تصاريح العمل خلال ساعة؟
  • في ختام أعماله.. ملتقى الحكومة الرقمية 2025 يؤكد ريادة المملكة في التحول الرقمي عالميًا
  • الاستلام خلال ساعة واحدة .. «تصاربح العمل» تقدّم خدمة الـ vip | صور
  • كارثة عالمية: 40 يوماً على إغلاق الحكومة
  • البرهان يزور مراكز نازحي الفاشر ويؤكد أولوية الحكومة لمعالجة قضاياهم
  • رحلة التحول الرقمي في الإمارات: خطوات بسيطة للاستعلام عن التأشيرات