النقد.. من الشخصية الهادئة إلى المثقف المربك
تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT
هل تكره المجتمعات النقد؟
نعم، تكرهه. حسنًا لماذا لا تحبه؟
يقبع خلف الحوار السابق لقاءات حدثت معي عندما سألني المذيع في إحدى دورات العروض المسرحية العربية عن انطباعي عن العرض، ثم بعد انتهاء الحوار سأل التالي: لماذا كلُّ العُمانيين هادئون ومحترمون في أجوبتهم؟
من النادر أن يُسأل المرء سؤالا فجَا مثل: لماذا أنتَ محترم؟ لكن المشهد الثقافي الغالب، يَظهر معه إجماع عام حول احترام الشخصية العُمانية التي لا تشبه غيرها من شخصيات المجتمعات الخليجية والعربية معًا.
هل يمكن أن نبحث عن إجابة السؤال، ونفترض مثلا أن الطبيعة الجغرافية لبلادنا جعلت العُمانيين يتمتعون بالهدوء والصمت وعدم التدخل في شؤون الآخرين؟ أو هل يمكن الاعتقاد بقدرة ما غرسه المذهب الإباضي في نفوس العُمانيين من فلسفة تقوم على مبدأ التُقية العام، لا بمعنى إظهار عكس ما يُبطن، وإنما بمعنى الهدوء والتحفّظ تجنبا للوقوع في زلات، أو أخطار، أو أخطاء لا تُحمد عقباها. أو قد تكون إجابة سؤال المذيع موجودة في التربية السياسية العُمانية التي أسّسها السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه.
لكن، في سياق مقابل، هذه الشخصية التي تستطيع أن تقول رأيها بهدوء وثقل واتزان، نراها في الشأن المحلي تنتقد شؤون البلاد كلها، ونجدها في مقام آخر لا تقبل أي نقد يوجه إليها. فلماذا لا تحب المجتمعات النقد؟
سأضرب مثالا على رأي أبديتُه في أداء إحدى الممثلات على المسرح، ثم شاهدتُها لاحقًا في عمل تلفزيوني، وكان رأيي منطقيًا، حيث أشرت فيه إلى قدرات الممثلة الأدائية، ولكن اشتغالها في أداء شخصية معينة لم يكن أفضل ما لديها؛ إذ كانت تحتاج إلى المزيد من التدريب، والخلل كما رأيته تمثّل في تقصير المخرج الذي لم يعمل على الشخصية كما يجب.
لم يستسغْ رأيي لا المخرجُ ولا الممثلةُ. وفي العمل الفني الجيد لا يجري الكلام عن المصادفة، ولا يُترك لأهواء الممثل ونزوعه الفني، بل يخضع لمعايير التمثيل المنهجية، وإلا ما جدوى النظريات التي وضعها ستانسلافسكي وميرخولد في فن الممثل؟
حاولت نقل السؤال إلى دوائر أخرى، قلتُ من المحتمل أن يكون الجواب موجودا لدى الأكاديميين بصورة أفضل، وهناك جرى ما لم يمكن تصوره، لقد تغيرت الأمور، حيث يتراشق النقاد فيما بينهم بأسلوب مبتذل، فأدركتُ أن تخصيص حصص أو بضعة من الكتب لإجابة سؤال: لماذا لا تحب المجتمعات النقد، يفترض إجابة عن سؤال آخر أكثر عمقا: ما الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع؟
إن علاقة المجتمعات وقلة احترام النقد تكشف ثقافيًا في مجالنا العربي عن مسار شديد التعقيد والالتباس، فالمجتمع لا يمكن له أن يُحدث تطورا في بناه الثقافية أو السياسية والاجتماعية ما لم يسمح بممارسة الفعل النقدي البناءَ على مستويات الحياة جميعها، ابتداءً بالعلاقة بين الأفراد في البيت والشارع والمدرسة والمسجد والجامعة والعمل وانتهاءً بالدولة.
إن المناخ الذي يَغيب عنه النقد، أو يُغيّب قسريا يحول منظومة العلاقات إلى عداء واستعداء، أو إنكار جماعي وتماد في العناد، فتنتج من ورائه، أو في محاضنه اتجاهات خطيرة وبيئات منغلقة لا تُرحب بالحوار، ولا تقدر أن تتفاعل معه إلا في أضيق الحدود، كذلك لا تستطيع قبول الاختلاف في الرأي إلا ولديها مسائل ملتبسة، تُساق إليها الأيديولوجيا، والتناقضات التي لا تخلو من تعارضات وأسلبة، فعلى سبيل المثل تشجيع انفتاح الدراما على تناول مشكلات المجتمع إلى أقاص بعيدة، لكن عليها ألا تقترب من قضايا الشباب المعاصرة! أو التشجيع على طرح الأفكار والرؤى الخلاّقة ونقد المرجعيات، ولكن يُمنع من توظيف ذلك كله في الدراما، ما يَنتج معه غموض في القرار المؤسسي والتباس في الفهم وإبهام في تصريحات الفنانين.
إن أظهر قضايا يشارك فيها أغلبية المجتمع ما يتعلّق بالسياسة الخارجية أو المحلية، وتنبري الأفواه في مواقع التواصل الافتراضي بإبداء الرأي في الشأن السياسي دون التفات إلى أن أي كلام أو ثرثرة أو صراخ في هذا الجانب لن يفتح باب التساهل لا في الداخل ولا في الخارج، ويأتي الجانب الفني في المرتبة الثانية من اجتهادات الجمهور في رفع قيمة لأحدهم أو تحجيمه وإقصائه، دون الاكتراث لرأيٍ موضوعيٍّ قيل، أو لتصوّراتٍ فنيةٍ طُرحت أثرت الساحة الفنية أو رؤى وأهداف قدمها تفتح شهية الاشتغال البحثي فيها، فإذا جاء دور النقد ليفتح باب الحوار وإنزال الأشياء إلى أماكنها المناسبة من أجل مناقشة الظواهر الملوثة، لا نجد الترحيب به أو استيعاب الممارسة النقدية، لأن المجتمعات رأت أنها فوق النقد كله، عندئذ يُختزل النقد في كلام تقليدي بائس.
عمدت الدراما تقديم صورة الباحث في النقد بهالة رومنسية لا أساس لها في المجتمعات، وبضغط من المدرسة الرومنسية ظهر الناقد أو الباحث في النقد إنسانا أشعث أو مهترئ الثياب أو مُدمنا ومهملا لبيته وأسرته، وفي أحسن الأحوال يظهر يتحدث بالفصحى، أو يتلفظ بمصطلحات المعاجم.
نجح تسويق هذا النموذج في الثقافة العربية بفعل من تأثير نموذج الشاعر البوهيمي الذي سوقته الرومنسية، وبفعل من العولمة على الصعيد العالمي.
خليجيا، لم يُسوَّق هذا النموذج على نحوٍ واسعٍ، فإذا عدنا إلى الدراما الخليجية في الستينيات وصولا إلى أواخر الثمانينيات جاء حضور المثقف إنسانا مختلفا عن المجتمع يعيش مع أحلامه وعصافيره المغردة، فما بالنا بصورة الناقد أو بحضور النقد؟ لكن الدراما الخليجية يمكن القول إنها نجحت في تكوين شخصية الإنسان المثقف الواعي الذي من خلال وعيه يوجه نقدا إلى المجتمع، تارة إلى الهوية الخليجية، وتارة إلى معنى الانتماء، وتارة ثالثة إلى المستقبل المنشود.
مرّر الفنانُ ذلك كلَّه عبر نقدِه للآلية التي يُعمَل بها في استثمار النفط. في هذا السياق يمكن الاستشهاد بلقاء مع الفنان الكويتي سعد الفرج نُشر في جريدة الجريدة تاريخ 28-06-2015م عندما سئل عن أول قضية سياسية طرحها أجاب قائلا: «فصل السياسة عن الدين في مسرحية الكويت سنة 2000، لفرقة المسرح العربي...»، من يشاهد المسرحية التي عُرضت عام 1965م سيشاهد كيف استطاعت شخصية (علاوي) إحداث الارتباك في سياق ثقافة اجتماعية تقليدية ترفض النقد، ولا تقبل الاختلاف أو الخروج عن سياق النسق الثقافي الهرمي في المجتمع.
هل تستطيع الدراما الخليجية اليوم مناقشة بعض أفكار تلك المسرحية؟ هل بإمكانها مقاربة شخصية علاوي لنقد الظواهر المعاصرة؟ أو هل الكتّاب الدراميون اليوم يستطيعون تقديم أعمال تخترق ضمانات الحاضر المبرمجة؟
إن الممارسة النقدية نشاط لا يقتصر على الأدب والفنون، بل عمل يتجاوز ذلك كله. يتجه الرأي إلى أن المثقف نفسه يعيش مرحلة انعزال وانسحاب من المشهد الثقافي، ويتطابق الرأي على وضع الباحث الناقد، الذي ينخرط في هموم كبيرة آخرها الفعل النقدي البناء، إذ يشعران بالتهميش، ويخرجان من زمرةِ من وصفهم برهان غليون بـ(الفاعلين الاجتماعيين الجمعيين)، «وعندما نتحدث عن فاعل اجتماعي، فنحن نشير إلى قوة محركة ودينامية اجتماعية لا إلى مبدع فكري-ص 86».
إذا كانت العولمة استطاعت أن تخلق نماذجها الثقافية، وتعممها (السينما الأمريكية مثلا)، فإنها بذلك أثرت في شعوب العالم الأخرى، الذين قلدوها في خلق نماذج في مجتمعاتهم المحلية، دون أن تغرس فيهم نماذجَ جديدة أو متفرّدة إلا على نحوٍ ظاهري.
والناظر اليوم إلى حال المسلسلات الخليجية بوجه عام يجدها في قطيعة مع ما طرحته دراما الستينيات من أسئلة وقضايا لم تُرصد ليجيب عنها بوعي ناقد، وليس أدل على ذلك اليوم من تكرار عبارات الأسف على دراما الماضي، ليس من باب الحنين، بل من وجود قلق كبير لغياب أو تغييب ثقافة النقد.
هذا الفعل يكشف عن قدرة المجتمعات على تهميش الأصوات الجادة التي لا تريد سماعها، فليس من السهولة أن نوجه النقد إلى الآخرين، ولا نقبل أن يتجه النقد إلينا! إن القول بأن المجتمع لا يُحب النقد، ليس توصيفا بريئا، بل تبرير لبقاء الخلل، والإنسان الذي يُنصب نفسه حكمًا، هو يهربُ من تعرية ذاته التي يُخفيها، فهل بعد هذا نسأل أنفسنا: لِمَ لا تُحبّ المجتمعات النقد؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
سلوم حداد يضع بصمته على حائط الشهرة في موسم الرياض
خلد الفنان السوري سلوم حداد مسيرته الفنية بوضع بصمته على حائط الشهرة ضمن فعاليات موسم الرياض، في تكريم مستحق يعبر عن تقدير الجماهير العربية والعالم الفني لعطائه الطويل ومساهماته المميزة في الدراما السورية والعربية.
طبع الفنان سلوم حداد اسمه بحروف من ذهب على حائط الشهرة خلال موسم الرياض، وجاء هذا التكريم تقديرًا لمشواره الغني بالأعمال التي أثرت الدراما العربية.
يعد سلوم حداد من أبرز الفنانين الذين جمعوا بين القوة في الأداء والصدق في التعبير، ليصبح علامة فنية فارقة في تاريخ الشاشة السورية والعربية.
وفي وقت سابق، أعرب سلوم حداد عن إعجابه بمسلسل الحشاشين بطولة الفنان كريم عبد العزيز، مؤكدًا في تصريحات صحفية أنه شاهد العمل الذي عُرض في رمضان 2024، وأشاد بإخراج بيتر ميمي الذي نجح في تقديم مسلسل بالعامية وصل صداه إلى كل الوطن العربي.
وعلى صعيد الأعمال الفنية، شارك سلوم حداد مؤخرًا في مسلسل سيوف العرب الذي جمع نخبة من نجوم الدراما مثل جمال سليمان، باسم ياخور، منذر رياحنة، ونضال نجم، حيث تناول العمل فترة ما بين الجاهلية وبداية الخلافة الأموية موثقًا تاريخ السيف العربي عبر العصور.
كما ينتظر الجمهور عرض مسلسل حبق، الذي يضم نخبة من الفنانين من بينهم نظلي الرواس، ختام اللحام، ترف التقي، محمد خاوندي، وتيسير إدريس، ليواصل سلوم حداد حضوره القوي في الدراما العربية بأدوار تُخلّد اسمه بين الكبار.