الثورات العربية هل هي ثورات حقيقية؟.. مشاتل التغيير (45)
تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT
حديث الثورات العربية ضمن مشاتل التغيير هي الزاوية الأخرى في منهج النظر لهذا التركيب المهم للفعل الحضاري الذي يرتبط بالمشاتل الحضارية؛ فإذا كنا قد ابتدرنا هذه السلسلة بمشاتل التغيير الفكرية والمعرفية والثقافية والأطر المفاهيمية المتعلقة بها والمتفاعلة معها، فإن الاهتمام بالخبرات الثورية التي بدت تلوح في كانون الأول/ ديسمبر 2010 يعد جانبا مهما في استكمال الصورة الكلية بالمشاتل الخبروية؛ إذ تشكل الخبرات الثورية فيها، خاصة خبرة الثورات العربية، أهم ما يمكن أن تعرض له في هذا المقام.
قد ينازعنا البعض حينما يحاول أن يُظهر جانبا من الصورة فيما آلت إليه الثورات في البلاد التي كانت ساحة لها، ليؤكد على فشل الظاهرة الثورية وجدب مشاتلها فصارت أرضا بورا، أو على الأقل فقد حوصرت فتوارت وانحسرت؛ ولكن هؤلاء الذين قادوا هذا الفعل من المضادين للثورات لا يزالون في حالة رعب من أن يعود الفعل الثوري الى سابق عهده، ويتحسبون من كل طريق بقبضة حديدية حتى لا يتكرر ما كان. وهذا في حد ذاته بيت القصيد في حديث الثورات؛ من أن الشعوب لا يمكنها أن تعود إلى ما قبل الثورات، فأبواب التغيير فُتحت بفعل تلك الثورات ولن تغلق، وأنها مشرعة لاحتمالات التغيير في المستقبل.
ومن الأمور المقدرة والأحداث المتلاحقة للثورات ذلك الاختلاف الذي حدث لوصف وتسمية تلك الثورات، وإلحاقها بأوصاف كثيرة، اختلفت كلها وتنوعت في الوصف لأسباب أو أخرى، ولكنها اجتمعت على أن هذه الأحداث لم تكن مصادفة أو عفو الخاطر، خاصة مع تكرارها وامتداداتها والموجات التي أعقبتها، ومع حال صعودها وبزوغها، وكذلك مع حال محاصرتها وتطويقها والمحاولات التي ابتدعها المضادون للثورة في محاولة سرقة هذا الفعل الثوري، بل وحرفه من لصوص التغيير ضمن عملية إحلال متعمدة لعسكرة الثورات والحروب الداخلية، وأيا كانت تلك الأوصاف. فإننا لا يمكن أن ننكر أن لتلك الأحداث تاريخا وزمنا وحجم تأثيرها على الحال والمجال، وكذلك في المآل والاستقبال، التأثير الذي كان ملحوظا وباديا حتى من ردود فعل المضادين للثورات الذين قاموا ببناء استراتيجية محاصرة وتطويق وعمليات تشويه متعمدة في النظر إلى تلك الثورات وكذلك التطبيق.
لعله من أكبر التحديات التي لا يماري فيها أحد في علاقتنا بظاهرة الثورة؛ هو كونها لم تأت على نسقٍ سابق. جاءت هذه الثورات كاشفة ومربكة للجميع؛ للحركات الإسلامية بطيفها الواسع، وللشباب الثوري، وللأكاديميين أنفسهم، بل لعلنا لا نبعد عن الحقيقة إذا ما قلنا بأن هذه أحد أهم الثغرات الهائلة التي أوتينا من قِبلها. كثير من الدراسات التي صدرت لتحلل هذه الظاهرة في إرهاصاتها الأولى سقطت في شَرَك الأنساق الأكاديمية السائدة؛ فبعض الدراسات تعاملت مع ما يجري في بلادنا على أنه امتداد منطقي طبيعي لثورات أوروبا الشرقية أو الثورة الفرنسية الأم! وبعضهم ردّها إلى مقولات الثورة البلشفية! وبعضهم -للغرابة- أخذ يتعسف التأويل ليجعل لها نسبا في رحم الثورة الإيرانية.
ولعل منزع الغرابة الشديد يكمن في كون هذا التخبط يصدر عن أكاديميين يُفترض فيهم التخفف من النزعة الأيديولوجية، إذ لو صدر مثل هذا الاعتساف واللّيّ في تفسير الثورة عن نشطاء لقلنا إن هذا مفهوم وإن لم يكن مبررا. فالتساهل في خلع وصف الإسلامية على الثورة لكون أغلب تظاهراتها الحاشدة كانت تخرج من المساجد أو لأنها نادت في أحد شعاراتها بالكرامة الإنسانية؛ لا يختلف كثيرا عمّن يصفها بالليبرالية لكونها نادت في ذات الشعار بالحرية، وهما توأمان لذلك الذي ينْبِش عن حسٍ يساري فيها لكونها نادت بالعدالة الاجتماعية! لم يكن ذلك في حقيقة الأمر إلا تساهلا واختزالا لا يليق أبدا بظاهرة شديدة التركيب كالثورات، ولا يليق بتحليل الظاهرة الثورية في امتداداتها وتأثيراتها ومآلاتها.
والإشكال الأكبر هنا -في رأينا- أن هذا التهاون الأكاديمي لم يتوقف عند هذا الحد في تحليل الظاهرة، إذ حينما كَشّرَ المضادون للثورة عن أنيابهم باتت الثورة أو الربيع العربي -على ما في التسمية من نكهة استشراقية- يعاني خريفا وشتاء. عند التفكير بالثورات العربية تحدث البعض بأنه "بعد سنوات من تلك المسيرة المُحبطة لما سُمّي بـ"الربيع العربي"، تجاسر كثيرون، وبعضهم ممن سبق واحتفى بها إلى حدّ الهوس، فأطلقوا عليه الوصف الضد بالمقابل: "الخريف العربي"، على اعتبار أنه الفصل السياسي الذي لم يثمر في نظرهم إلا الحروب الأهلية والتمزق الاجتماعي والتناحر السياسي وسيادة منطق الفوضى، واستشراء كل ذلك في مكان تشرق فيه شمس هذا الخريف/ الربيع. راح الأكاديميون يتخلون بكل بساطة عن كونها أصلا ثورة، وراحوا يخلعون عليها أوصافا من قبيل هَبَّة أو تمرد أو احتجاجات واسعة وانتفاضة للتعبير عنها، هكذا تغيرت أوصافهم وكذا تحليلاتهم بتغير فصول السنة! ومَرَدُّ هذه الرؤية الاختزالية والآنية ابتداء وانتهاء يعود إلي فكرة التساهل والتسرع في إصدار الأحكام؛ ابتداء في تفسير الظاهرة الثورية في نسختها العربية وفق مقولات ونظريات الثورات التاريخية.
ولأن الظاهرة كانت لا تزال في طور التشكّل والتفاعل وفيها من القابلية للانفتاح على سيناريوهات متعددة، فقد آلت إلى حال غير التي بَشَّرت بها في بادئ أمرها، فأدى ذلك انتهاء -في التحليل الأخير- إلى وصمها بأنها أقل من ثورة أو أنها هَـبّة أو فورة لأنها لم توافق النماذج القديمة في مآلاتها؛ وكأنهم جعلوا من الثورات التي حدثت في الغرب نموذجا وربما معيارا لكل ثورات قادمة. وغني عن البيان أن كل ظاهرة هي بنت سياقها ولها خصوصياتها في الزمان والمكان، والثورة العربية كذلك بنت سياقها ووليدة مجتمعاتها؛ بل لعلنا لا نخطئ الرمية إذا ما قلنا بأن الثورة العربية لا تشبه غيرها من الثورات الكلاسيكية القديمة، فكل هذه الثورات تأسست على مجموعة من العناصر ربما غابت كلها أو بعضها في الحالة العربية!
هذا الإشكال المنهجي في دراسة الثورات سببٌ رئيس في النظر ببادي الرأي من دون عمق وتدقيق وتحقيق في الوصف والرصد، بل في التحليل والتفسير، ويؤثر بشكل كبير على كل الخلاصات والمتحصلات والنتائج التي ينتهي إليها ويجعلها محل شك ومُساءلة؛ إذ كيف تمتلك القدرة على الحديث من زاوية بناء تقديرات المواقف للحراك أو للثورة وأنت تعالج الظاهرة مستصحبا هذا الخلل المنهجي الخطير! أوجه القصور المختلفة تلك هي التي تفسد كل تصوراتنا عن الظاهرة، وهو ما يدعونا إلى ضرورة تأسيس رؤية منهجية واعدة وواعية لدراسة الظاهرة الثورية دراسة رصينة تمكننا من حسن فهمها والتنبؤ بسلوكها والتعاطي معها والتعرف على مآلاتها ومستقبلها.
وربما لا نغادر الحقيقة إن قلنا إن هذا التناول الاختزالي التابع لنماذج ونمذجة سابقة التجهيز كان أحد أهم الأسباب في النظر للثورات العربية باعتبارها حدثا عابرا لا يمكن أن نخلع عليه وصف "المنعطف التاريخي"، ولكن النظر إلى التحولات التي طرأت على بلاد الثورات من احتواء وانزواء في حقيقة الأمر أصاب الشارع العربي بمزيد من إحباط لما آلت إليه تلك الثورات العربية، وقدرة المضادين للثورة وحلف المستبدين من كيل الاتهامات لهذه الثورات وجعلها أحد أهم الأسباب في عدم الاستقرار في المنطقة. إلا أنه في حقيقة الأمر يمكننا أن نتوقع أو نتنبأ أن ذلك الاستيعاب لذلك الاحتواء إنما يبشر مع حدث آخر يتعلق بطوفان الأقصى، والذي أظهر تهافت الأنظمة العربية على نحو أو آخر لأن تصدر من قلب عالم الأحداث المتجدد طبعة أكثر تماسكا وأقوم نضجا لتجمع شتات تلك الثورات، والتي يمكن أن تسترد منه الأمة ثقة وعز وكرامة وإرادة، وربما إدارة لحالة ثورية محتملة تستعصي على عمليات الالتفاف والحصار.
هل هذه ثورات، أم انتفاضات أم احتجاجات؟ هل الظاهرة الثورية تولد مكتملة أم دائما أن فعل الثورات هو إيذان بالإعلان عن فتح أبواب التغيير مشرعة واسعة؟ بغض النظر عن المسمى، فقد كان الهدف هو عملية مواجهة الظاهرة الاستبدادية التي تمكنت من استشراف حالات من الحرية والنظم الشورية و"الانتقال الديمقراطي"، وهي عمليات معقدة بطبيعتها، تتداخل في تشكيل مساراتها ونتائجها عوامل عديدة، داخلية وخارجية. فقد تكون مصحوبة بمرحلة جديدة تتمثل في ترسيخ النظام الديمقراطي، وقد لا يترتب عليها قيام نظام ديمقراطي في مرحلة ما بعد الانتقال، وذلك في حال حدوث ردة أو انتكاسة تقود إلى نشوب صراع داخلي أو حرب أهلية أو ظهور نظام تسلطي جديد. كما أن مرحلة الانتقال قد تفضي إلى ظهور نظم سياسية هجينة، بمعنى أنها نظم لا تُعتبر غير ديمقراطية بالمعنى الكلاسيكي، شمولية أو تسلطية مغلقة، ولا تكون في الوقت نفسه ديمقراطية كاملة أو راسخة، أي تجمع بين بعض عناصر النظم غير الديمقراطية وبعض ملامح وعناصر الديمقراطية.
لكن هناك نقطتان هامتان تتعين الإشارة إليهما بخصوص دور العوامل الخارجية في دعم الانتقال الديمقراطي؛ الأولى أن درجة تأثير العوامل الخارجية في عملية الانتقال الديمقراطي تختلف من حالة إلى أخرى حسب اختلاف استراتيجيات الفاعلين الدوليين، وطبيعة الظروف والعوامل الداخلية في البلدان المستهدفة، والثانية أن بعض العوامل الخارجية لعبت دورا هاما في دعم وترسيخ النظم التسلطية وليس دعم الانتقال الديمقراطي.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه التغيير الثورة الربيع العربي ديمقراطية الربيع العربي ثورة ديمقراطية تغيير مقالات مقالات مقالات صحافة مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی الثورات العربیة یمکن أن ذلک فی
إقرأ أيضاً:
ميناء شرق بورسعيد وقناة السويس الاقتصادية.. خطوات حقيقية لجذب الاستثمارات العالمية
أكد الإعلامي أحمد موسى أهمية افتتاح ميناء شرق بورسعيد البحري اليوم على يد الرئيس عبد الفتاح السيسي، مشيرًا إلى أن الميناء أصبح الثالث عالميًا والأول إفريقيًا وفق تصنيف البنك الدولي، في حين دخل ميناء الإسكندرية قائمة أفضل 100 ميناء عالمي، رغم استمرار أعمال التطوير فيه.
وخلال تقديمه برنامج «على مسئوليتي» على قناة «صدى البلد»، أوضح موسى أن مصر بدأت جني ثمار 10 سنوات من تجهيز البنية التحتية لجذب الاستثمارات، لافتًا إلى توقع صادرات تتراوح بين 2.5 و3 مليارات دولار من القنطرة غرب خلال عام، مع ارتفاع حجم الاستثمارات إلى 800 مليون دولار خلال شهر واحد.
وأشار موسى إلى أن ميناء السخنة سيشهد تطويرًا غير مسبوق، مع إنشاء أرصفة بطول 18 كيلومترًا في مرحلة واحدة بتوجيه مباشر من الرئيس، لتقليل التكاليف المستقبلية وتحقيق الاستفادة القصوى.
وعن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، قال موسى إن القنطرة غرب تحولت من منطقة بلا مصانع إلى 46 مشروعًا في قطاع الغزل والنسيج والملابس، مشيرًا إلى أن المنطقة تستهدف جذب نحو 300 شركة جديدة وتضم اليوم 29 جنسية مختلفة وأكثر من 140 ألف فرصة عمل مباشرة.