تحتفل سلطنة عمان في 20 نوفمبر من هذا العام بعيدها الوطني، ذكرى مرور 281 عاما على تأسيس الدولة البوسعيدية، في ظل مسيرة رسخت مكانة السلطنة وهويتها التي حافظت عليها عبر قرون من الزمن.
في استحضار ذكرى اليوم الوطني العماني، يدفعني للوقوف عند ملمح هام وطابع فريد تتميز به الدبلوماسية العمانية منذ زمن بعيد،
وربما هذا الاستدعاء لا يرتبط بمجموعة من المواقف الآنية، بل أرى أن الأمر نتاج “هندسة” متراكمة ومستدامة للتوازن، تمتد جذورها بعمق في التاريخ منذ تأسيس الدولة البوسعيدية على يد الإمام المؤسس السيد أحمد بن سعيد عام 1744م، والتي تواصل نهضتها حتى اليوم نحو مستقبل مشرق.
حين أدقق في السياسة الخارجية للسلطنة ومواقفها منذ زمن بعيد، أرى ذلك الإرث التاريخي الذي أرسى مبادئ ثابتة للحكم والعلاقات الدولية، والتي تقوم على الاستقلالية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وحل النزاعات بالطرق السلمية، وكذلك العقاب الجماعي، وربما هذا ما ساهم في نجاح السلطنة في عديد من الوساطات وطبع صورتها الذهنية لدى الجميع، وأصبحت مصدر ثقة لدى جميع الأطراف.
قد يكون التعامل مع قضايا المنطقة منذ عقود بحاجة لتحركات دقيقة ومغايرة، وهو ما نجده في الهندسة الدبلوماسية العمانية والتي لم تتأت من منطق الحياد الإيجابي فقط، بل نتاج عمل وجهد واتصال وتواصل دقيق " كالقابض على الجمر"، وهي التي منحت الدبلوماسية العمانية صفتها المميزة كـ “قوة توازن” في منطقة تتسم بالاستقطاب والتحالفات الحادة والتعقيدات غير الهينة التي كان يصعب معها التوازن أو الحفاظ على مسافة تراعي المصالح الوطنية والإقليمية مع توازن هام تجاه قضايا المنطقة باستثناء القضية الفلسطينية التي تعد أهم القضايا بالنسبة للسلطنة.
برزت الهندسة الدبلوماسية العمانية في عدد من المواقف والقضايا الإقليمية، يستحضرني منها إدارتها للعلاقات مع مصر في مرحلة توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م مع الاحتلال الإسرائيلي (والتي فرضتها طبيعة المرحلة، رغم أن هذا التطبيع لم ينتج عنه أي تطبيع شعبي بل اقتصر على وقف إطلاق النار) وفي ذلك الوقت أجمعت فيه الدول العربية، على مقاطعة مصر وعزلها ونقل مقر الجامعة العربية، في حين أن السلطنة اتخذت موقفاً مستقلاً ورافضاً لقطع العلاقات مع القاهرة حينها، وقد تبين بعد عقود صواب موقفها وعمق رؤيتها، الذي يستمد من ثقال تاريخها وحضارتها عبر قرون، حيث كانت ترى أن قطع العلاقات مع مصر سيضر أيضا بالقضية الفلسطينية والوحدة العربية، وظلت بمثابة جسر التواصل بين القاهرة والدول العربية الشقيقة.
لم يقتصر الأمر عند هذا الموقف مع القاهرة بل أن عبقرية السياسة الخارجية العمانية تكمن في قدرتها على التموضع خارج محاور الصراع، مما يمنحها مصداقية فريدة للوساطة النزيهة واتضح ذلك الدورفي أزمات إقليمية معاصرة مثل اليمن والعراق.
كان الحياد التام في الأزمة اليمنية ورفض المشاركة في العمليات العسكرية للتحالف هناك دوره فيما بعد حيث استثمرت السلطنة علاقاتها الهادئة مع كافة الأطراف، بما في ذلك جماعة الحوثي والحكومة الشرعية، لتصبح القناة الدبلوماسية الرئيسية للتفاوض وتبادل الأسرى وقد نجحت في هذا الدور بامتياز، حيث ساهمت في التخفيف من حدة الصراع، وتسهيل المباحثات غير المباشرة، والعمل على إيجاد حل سياسي شامل ومستدام.
وفي العراق أسهمت العلاقة المتوازنة في دعم جهود المصالحة الوطنية، كما كانت نقطة التقاء دبلوماسية بين العراق وجيرانه، خاصة في أوقات الأزمات، مما يعزز دورها كعامل استقرار إقليمي.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فإن عمان ضربت مثالا فريدا، فهي التي تمسكت بموقفها تجاه الحق الفلسطيني دون مواربة أو خضوع لأي مغريات ولا ضغوط، وحافظت كذلك على صورتها وعلاقاتها مع أطراف غربية كانت داعمة لإسرائيل وأصبحت مؤيدة للحق الفلسطيني، وهو جهد يتطابق مع الجهد المصري وذات الرؤية التي جمعت بين البلدين منذ سنوات.
في المجمل يمكنك أن نرى نتاج الهندسة الدبلوماسية للسياسة الخارجية لعمان في كل علاقاتها مع دول الإقليم والعالم، وشخصيا أرى ذلك في كل تفاصيل الحياة في الداخل العماني، في التعاملات مع الزملاء الإعلاميين مع المسؤولين في الوزارات والهيئات، أرى أن النهج العام للدولة هو ذاته الذي ينتهجه الشعب العماني الذي يتسم بالهدوء الإيجابي مع فعاليته وعمله الدؤوب وتطلع للمستقبل.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الدبلوماسیة العمانیة
إقرأ أيضاً: