تخوض مصر منذ عقود معركة ممتدة ضد تهريب الآثار، وهي معركة لا تتعلق فقط باستعادة قطع أثرية منهوبة، بل بإحياء جزء من الذاكرة الوطنية وحماية ملامح حضارة من أقدم حضارات الإنسان. 


وفي السنوات الأخيرة، شهد هذا الملف تطورا كبيرا، سواء من ناحية حجم القطع المستردة أو آليات التعاون الدولي والقانوني التي تعتمد عليها مصر لضمان عودة ممتلكاتها الثقافية إلى موطنها الأصلي.


أحدث النجاحات المصرية في مجال جهود استرداد الآثار المهربة كان الأسبوع الماضي، حيث تسلمت وزارة السياحة والآثار من وزارة الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، قطعتين أثريتين من مملكة بلجيكا، والتي ثبت خروجها من البلاد بطريقة غير شرعية، وذلك في إطار التزام الدولة المصرية الثابت بالحفاظ على تراثها الثقافي بالتعاون والتنسيق الكامل مع وزارة الخارجية ومكتب النائب العام وكافة الجهات المعنية في بلجيكا.


وقال الدكتور محمد إسماعيل خالد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، أن قصة استرداد هاتين القطعتين تعود إلى عام 2016 عندما تحفظت السلطات البلجيكية على أربع قطع أثرية مصرية كانت معروضة في إحدى صالات العرض دون توافر أي مستندات قانونية تثبت ملكية الجهة العارضة لها.


وفي عام 2022.. نجحت مصر في استعادة قطعتين من هذه المجموعة، عبارة عن تمثالين من الخشب الأول لرجل واقف، والثاني أوشابتي صغير لشخص غير محدد هويته.


وقد استمرت السلطات المصرية في متابعة ملف القطعتين المتبقيتين عبر مسار دبلوماسي وقانوني استغرق عدة سنوات، إلى أن تكللت الجهود بالنجاح في استعادتهما، وهو ما يمثل انتصارًا جديدًا للدولة المصرية في مواجهة الاتجار غير المشروع بالآثار.
ويمكن القول أنه على مدار القرن الماضي تعرضت آثار مصر لواحدة من أكبر عمليات النهب المنظمة، سواء خلال فترات الاحتلال الأجنبي أو عبر شبكات التهريب الحديثة. 
هذا الواقع فرض على الدولة تبني سياسة تعتمد على توحيد الجهود بين وزارات الآثار والخارجية والعدل، إلى جانب التعاون مع النيابات العامة في الدول الأجنبية والمتاحف العالمية.


وتبدأ رحلة استرداد أي قطعة أثرية من نقطة حاسمة وهى إثبات ملكيتها لمصر؛ لذلك أولت الجهات المعنية اهتماما كبيرا بتوثيق القطع المسروقة عبر سجلات رقمية وصور أرشيفية، لتسهيل مهمة إثبات الأصل عند ظهور القطعة في مزاد أو معرض بالخارج، حيث أنشأت وزارة السياحة والآثار قاعدة بيانات موسعة تشمل القطع المسروقة منذ عام 2011 وما قبلها، وهو تطور ساهم في تسريع الإجراءات القانونية.


وبعد عملية التوثيق تبدأ مرحلة المفاوضات أو المسار القضائي.. وفي الدول التي تنص تشريعاتها على حماية التراث الثقافي، يكفي تقديم الأدلة لإيقاف بيع القطعة تمهيدا لإعادتها، أما في الحالات الأكثر تعقيدا، تلجأ مصر إلى الدعاوى القضائية، وهو ما حدث في قضايا بارزة بينها قضية مخزن مانهاتن بالولايات المتحدة، التي أدت إلى استعادة مئات القطع بعد تحقيقات موسعة شاركت فيها السلطات الأمريكية بالتعاون مع الجانب المصري.


شهد عام 2022 وحده استرداد ما يزيد عن 6 آلاف قطعة من إيطاليا، في واحدة من أكبر عمليات الاسترداد الجماعي للآثار في تاريخ مصر الحديث، حيث جاءت العملية بعد تنسيق دقيق بين النيابة العامة المصرية والسلطات الإيطالية، التي صادرت القطع من شحنة كانت معدة للتهريب عبر الموانئ.. ويعد نجاح هذه العملية رسالة واضحة بأن مصر ماضية في ملاحقة مهربي آثارها أينما كانوا.


وفي الولايات المتحدة، تمكنت مصر خلال السنوات الماضية من استعادة قطع شهيرة، أبرزها غطاء التابوت الذهبي للكاهن نجم عنخ، الذي كان معروضا في متحف المتروبوليتان بنيويورك، حيث أثبتت التحقيقات الأمريكية تزوير أوراق خروج التابوت من مصر، لتعود القطعة إلى القاهرة.
كما شهد عام 2023 استرداد عشرات القطع من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وألمانيا بعد إدانات متعددة لتجار آثار ومزادات عالمية.


وتلعب السفارات المصرية بالخارج دورا محوريا في هذا الملف، إذ تراقب المزادات الدولية وتتابع أي ظهور لقطع تحمل طابعا مصريا وتمت كثير من عمليات الإيقاف بعد أن رصد دبلوماسيون مصريون قطعا مشكوك في مصدرها، ليتم التواصل مباشرة مع الجهات المختصة وبدء الإجراءات، حيث أصبح هذا التنسيق الدبلوماسي ركنا أساسيا في منظومة مكافحة التهريب، خاصة مع توسع تجارة الآثار عبر الإنترنت.


كما تتابع السفارات المصرية بالخارج العمل مع وزارات الثقافة والعدل في الدول المضيفة، بهدف تدريب كوادر أجنبية على التعرف على القطع المصرية الأصيلة وتمييزها عن المقلدة وهو ما يقلل فرص تمرير القطع عبر المنافذ الحدودية أو بيعها في مزادات لا تدقق في مصدرها.


وعلى المستوى المحلي، تدرك الدولة أن حماية الآثار لا تبدأ عند الحدود، بل من مواقع التنقيب والقرى المحيطة بالمناطق الأثرية، لذلك توسعت وزارة الآثار في برامج التوعية التي تستهدف تنمية محيط المناطق الاثرية، مؤكدة أن الحفاظ على التراث مسؤولية جماعية. 
كما شددت العقوبات المتعلقة بالتنقيب غير المشروع والاتجار في الآثار، وهو ما انعكس على تراجع محاولات التهريب مقارنة بالسنوات التي أعقبت عام 2011.


وتعمل الدولة على تعزيز الرقابة باستخدام التكنولوجيا، من خلال تركيب كاميرات مراقبة، وتدريب فرق متخصصة لمتابعة المواقع الأثرية المعرضة للخطر، كما أُطلقت برامج تعاون مع الشرطة لرفع كفاءة مكافحة الجرائم المرتبطة بالتراث.


وتعكس النجاحات الكبيرة، في ملف استرداد الآثار رسالة نصية واضحة مفادها بأن كل قطعة خرجت بطريقة غير مشروعة ستظل موضع مطالبة، مهما طال الزمن أو تعقدت الإجراءات.
جهود مصر في هذا المجال تعكس إصرارا على حماية هوية عمرها آلاف السنين، فاستعادة قطعة أثرية ليست مجرد انتصارا قانونيا، بل خطوة لتصحيح سردية التاريخ وإعادة ما سرق من الذاكرة الجماعية إلى مكانه الطبيعي.
 

طباعة شارك الآثار الآثار المهربة وزارة السياحة الخارجية محمد إسماعيل خالد

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الآثار الآثار المهربة وزارة السياحة الخارجية محمد إسماعيل خالد وهو ما

إقرأ أيضاً:

«جنون العالم السري للتجسس».. كتاب جديد لـ حنان أبو الضياء عن دار كنوز

صدر مؤخرًا عن دار كنوز للنشر والتوزيع، كتاب جديد بعنوان «جنون العالم السري للتجسس» للكاتبة الصحفية حنان أبو الضياء.

ويسلط الكتاب الضوء على ما يدور في عالم التجسس، ويكشف كيف يعيش الجواسيس وطبيعة الأدوار المزدوجة التي يؤدونها من أجل النجاح في مهامهم.

ويوضح الكتاب أن عالم التجسس هو مرادف للخيانة والسرية، حيث يعيش الجواسيس في الظل بهويات مزيفة متنكرين دوما لجمع أسرار لا يجرؤ غيرهم على البحث عنها، ويشير إلى أن حياتهم سلسلة من الأدوار المزدوجة يتقنون الصبر وبناء الثقة حتى يتمكنوا من انتزاع المعلومة، وأن ما نراه في السينما لا يتجاوز المظاهر.

ويلفت الكتاب إلى أن الحقيقة أعمق بكثير وأشد قسوة، وكما قال جون ريس ديفيز: التجسس أشبه بلعبة الشطرنج أحياناً عليك الانسحاب، وأحيانا عليك التضحية بقطعة للفوز.

ومنذ يهوذا الاسخريوطي، أشهر الخونة في التاريخ، وحتى عمليات الحربين العالميتين، ظل التجسس حاضرا في صياغة مصير الأمر، ففي الستينيات أنفقت وكالة المخابرات المركزية ملايين الدولارات على مشروع القط الصوتي بزرع أجهزة تنصت في القطط، لكنه فشل لأن الحيوانات لم تبال بالسياسة. وفي الحرب العالمية الثانية استخدم الحمام المزود بكاميرات للتجسس على المواقع الألمانية، فيما بني الألمان أشجارا مزيفة بداخلها جنود، وظلت مخادعة للحلفاء سبعة أشهر كاملة.

ويؤكد الكتاب أن أغرب القصص تأتي من الأساطير، مثل حكاية القرد الذي نجا من سفينة فرنسية خلال حروب نابليون، فقبض عليه سكان هارتلبول بإنجلترا وشنقوه ظنا أنه جاسوس فرنسي، وفي الحرب العالمية الثانية، نفذت المخابرات البريطانية عملية اللحم المفروم الشهيرة، حيث استخدمت حجة مجهولة زرعت عليها وثائق مضللة لخداع الألمان، مما فتح الطريق أمام غزو صقلية بنجاح

وعالم الشفرات بدوره لا يقل مأساوية فآلان تورينغ، عبقري فك الشفرات وأحد أبطال الحرب وُجد ميتا عام 1954 بجوار تفاحة مسمومة بالسيانيد، قيل إنه انتحر، لكن نظريات أخرى ربطت موته بالتجارب الكيميائية التي كان يجربها، كما لم يخل التاريخ من من جواسيس أسطوريين مثل سيدني رايلي، الذي عمل لحساب أربع دول مختلفة وكان مصدر إلهام لشخصية جيمس بوند، قبل أن يُعدم في روسيا عام 1925.

ويشير الكتاب إلى أن التكنولوجيا خدمت التجسس بطرق مذهلة، فقد اعتمدت الأقمار الصناعية الأولى على كبسولات فيلم تسقط من الفضاء وتلتقطها الطائرات في الجو، وفي خمسينيات القرن الماضي، استغلت وكالة المخابرات المركزية بيوت الدعارة في تجارب سرية على عقار LSD ضمن ما عرف بـ عملية منتصف الليل.

ويخلص الكتاب إلى أن الدرس المستفاد من كل هذه الحكايات أن عالم التجسس يعلمنا أن ما يبدو ظاهرا قد يكون أكثر أهمية مما يخفى، وأن القوة الحقيقية لا تأتي فقط من المكر في الظلام، بل من القدرة على العمل العلني وإظهار الحق والخير.

اقرأ أيضاًمليئة بالعبر والدروس.. كتاب جديد يوثق مسيرة ملهم إمبراطورية هائل سعيد

«بريشة فنان وعين عالم».. إطلاق كتاب أجنحة ملوّنة لحماية الطيور المصرية

مقالات مشابهة

  • استرداد الآثار المهربة.. مصر تواصل معركتها لحماية ملامح أقدم حضارات الإنسان
  • الخارجية الأمريكية: مباحثات مستمرة بين واشنطن وكييف لإنهاء حرب أوكرانيا
  • بغداد: استعدادات لافتتاح المتحف العراقي الشهر المقبل
  • البسطرمة في كركوك.. نكهة خاصة لحرفة الأجداد وطعم موروث
  • مؤسسة زاهي حواس تستضيف الدماطي ووسيم لمناقشة الحضارة المصرية بين العلم والخيال
  • مصر تستعيد «قطع أثرية» مهربة من بلجيكا
  • حملات يومية لإزالة التعديات واسترداد حق الدولة في الشرقية
  • «شهادتي وذكرياتي زمن مبارك».. كتاب جديد لمصطفى بكري عن دار كنوز للنشر
  • «جنون العالم السري للتجسس».. كتاب جديد لـ حنان أبو الضياء عن دار كنوز