القول المأثور بين الأدب العربى والإنجليزى
تاريخ النشر: 7th, December 2025 GMT
منذ فجر التاريخ، والإنسان يسعى إلى تقطير التجربة فى عبارة واحدة ومن هنا ولد القول المأثور، ذلك الكائن اللغوى العجيب الذى يجمع بين عمق الفكرة وخفة العبارة، فيتجلى فى العربية بوصفه «حكمة» أو «مثلاً سائراً»، وفى الإنجليزية ضمن عائلة الـaphorism- adage proverb. وعلى اختلاف الأسماء، فإن الروح واحدة: أن يقال القليل ويفهم الكثير.
ارتبط القول المأثور فى التراث العربى بالشعر والخطابة، إذ رأى العرب أن البلاغة فى الإيجاز: «خير الكلام ما قل ودل». وتفيض كتب الميدانى والجاحظ وابن قتيبة بحكم صافية كالماء الزلال: «قيمة كل امرئ ما يحسن»، «من سكت سلم»، «من جد وجد». ولم تكن هذه الأقوال مجرد عبارات تردد، بل منظومة تربوية وذاكرة جمعية تختزن خبرة الأمة فى جملة يسهل أن تتناقلها الألسنة.
ومع أن الحكمة العربية تعنى بتهذيب النفس وتقوية العزيمة وترسيخ القيم، فإن الحكمة الغربية اتخذت طريقاً آخر؛ فهى مرآة لذكاء العقل وسخريته من ذاته. فمن بيكون صاحب «المعرفة قوة» إلى أوسكار وايلد ومارك توين، تحول الـaphorism فى الغرب إلى أداة لزعزعة المسلمات وكشف الأوهام، لا لتثبيت الأخلاق فقط بل لتحرير الفكر. ويكفى أن نقرأ لوايلد قوله: «أستطيع مقاومة كل شيء إلا الإغراء»، أو لمارك توين: «حين تجد نفسك فى صف الأغلبية، فقد آن الأوان أن تتوقف وتفكر»، لنعلم أن الحكمة هنا تمرين على الشك أكثر منها درساً فى اليقين.
ورغم هذا الاختلاف، يبقى القول المأثور فى الثقافتين شرارة صغيرة قادرة على إشعال غابة كاملة. غير أن الأقوال المأثورة فى أدبيات الغرب تميل إلى الخفة والمفارقة اللاذعة، بينما تصر شقيقتها العربية على إضفاء عطر البلاغة ووقار الحكمة. ولئن خرجت الحكمة العربية من أفواه الشعراء والحكماء، فإن نظيرتها الإنجليزية قد تولد فى نكتة عابرة أو جملة مسافرة بين كتاب وفيلم وحساب تويتر.
فى زمن الميمات memes ظهر للقول المأثور ابن مراهق متمرد صاخب، يسىء السلوك حيناً ويبرق بحكمة خاطفة حيناً آخر: قط يحدق فى الفراغ فيغدو فيلسوفاً، أو لافتة طريق تنقلب درساً فى التفكير. ولو أدرك الجاحظ هذا العصر لخصص له فصلاً بعنوان: «السخرية حين تنفلت من يد الحكمة».
ومهما تباعدت اللغات، يبقى سر الجملة القصيرة واحداً: نصغى إليها لأن العمر ممتد، أما الوقت فقصير. والحكمة لا تعنى بتصحيح المعرفة فقط، بل بهز يقيننا قليلاً وفتح كوة فى جدار المألوف.
وهكذا تتابع الكلمة البليغة رحلتها عبر العصور، معلنة أن الومضة الخاطفة كثيراً ما تغنى عن خطبة طويلة — فخير الكلام ما قل ودل.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فجر التاريخ
إقرأ أيضاً:
«سبوبة» منتديات الإعلام
تابعت فى الشهور الاربعة الماضية انعقاد أكثر من حدث وفاعلية تحت مسمى منتدى إعلامى فى كل مكان فى البلدان العربية وفى مصر أيضا.. هذه المنتديات والمؤتمرات من المفروض ان هدفها تطوير الاعلام بكل انواعه وان تضع حلولا للمشاكل التى تواجه الإعلام العربى.
وحاولت البحث عن أدبيات هذه المنتديات فوجدتها مجموعة من الكلمات والانطباعات للضيوف المشاركين فيها وللأسف هم انفسهم ضيوف كل المنتديات من المحيط للخليج والوجوه أنفسها والكلام نفسه والمكرمون أنفسهم والفائزون أنفسهم بالجوائز كلها «كوبى بيست من بعض».
وهذه المنتديات تحولت الى «مكلمخانة» او بالأصح سبوبة قاصرة على مجموعة من الذين يدعون انهم خبراء فى الإعلام والصحافة.. ولم تقدم هذه المنتديات على مدار السنوات الماضية أى إضافة في معايير وقيم الإعلام العربى والمصري بل أدت الى تراجع الأداء الإعلامى.
وأعتقد ان السبب في ظهور هوجة منتديات الاعلام غياب المؤسسات الشرعية الممثلة للإعلام وعلى رأسها اتحاد الصحفيين العرب ونقابات الصحفيين والإعلاميين التى تخلت عن دورها المهم هو العمل على تطوير المهنة والدفاع عن أعضائها ما أفقد الثقة فى أى نشاط تقوم به ويصاب بعزلة.
حتى المؤتمرات التى تنظمها بعيدا عن العلمية ولكنها مجرد أوراق إنشائية لا يوجد بها معلومات توضح الواقع الذى نعيشه وكيفية تطويره من خلال خطط تقوم بها هذه المؤسسات ولا تعتمد فيه على مساندة حكومية لأن الحكومات تريد هذا الوضع للإعلام العربى، صوت خافت لا يزعجها ويعبر عنها هى وحدها ويصور للمواطن أى عمل بأنه انجاز يصل الى حد الاعجاز وعاد الاعلام الى طبيعته الاولى اعلام الحشد والتأييد والتصفيق لكل المسئولين وتبرير أخطائه
فلم ارَ فى أى منتدى توصيات تدعو الى إطلاق حرية تملك وسائل الاعلام وإلى احترام التنوع الإعلامى وفتح الباب للأصوات المختلفة لتبدى رأيها بكل وضوح فى القضايا العامة بدون تخويف او ترهيب او تخوين..
وأعتقد ان الأساس الأول لتطوير الاعلام هو الحرية التى تتطلب تداولا حرا للمعلومات ومنح الإعلاميين الحق فى إبداء آرائهم وعرض المعلومات التى بحوزتهم بدون خوف ووقف الملاحقة القضائية والأمنية لكل من يبدى رأيا مخالفا للسلطة مهما كان حجم الشطط فيه وفتح المجال العام لكل الأصوات ان تعبر عن ارائها فى الاعلام المملوك للشعب.
هذا هو أساس تطوير الاعلام بكل انواعه ويأتى بعده تدريب وتأهيل الإعلاميين على الأدوات الجديدة ومنها أدوات الذكاء الاصطناعى والأجهزة المتقدمة ومهارات رصد وتوثيق المعلومات والتناول الإعلامى والكتابة الخالية من التجريم والحقوق والواجبات التى يجب ان يتمتع بها الإعلامى حتى يقوم برسالته ودوره ووظائفه التى يجب عليه القيام بها بدون هذه الخطوات لو عقدنا فى كل قرية فى الوطن العربى منتدى اعلاميا لن نصل الى شيء وسوف نعيد ونزيد فى الكلام الذى يقال فى الجلسات والتكريمات وغيرها من مظاهر الاحتفال التى نشهدها فى «سبوبة» المنتديات الاعلامية.