القارات تعيد رسم خطوط طولها وعرضها، لكن بألوان تفيض من آهات الجوع وارتعاشات الخوف. العالم اليوم في حروب عالمية متحركة. تعددت الأسلحة واختلفت أسماء المحاربين، وأسماء القادة السياسيين، ورُتَب ضباط الجيوش. قال نابليون: الجيوش تمشي على بطونها، فعلى أي شيء تمشي الشعوب؟!
بعد الحرب العالمية الثانية التي سقط فيها عشرات الملايين من البشر، ما بين جندي وجائع ومريض، أسَّست الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها حلفاؤها الأوروبيون، حلف شمال الأطلسي؛ تشكيل عسكري غير مسبوق في قدراته العسكرية، وانتشاره الواسع في دول غرب أوروبا.
في اليوم الذي أصدر فيه الرئيس الأمريكي هاري ترومان أوامره بإلقاء القنبلتين الذريتين فوق اليابان، اهتز شنب الزعيم السوفياتي ستالين، وضرب رأسه بقبضة يده. أدرك أن حليفه الذي ورث كرسي روزفلت هو مشروع زعيم حرب جديد، وبسلاح رهيب ما خطر على خيال بشر. صار همّ ستالين الأول هو امتلاك السلاح الجديد المرعب. ذلك ما كان بعد سنوات قليلة. في الوقت الذي كان فيه الكبار يركضون وراء السلاح الجديد، ويسخرون لصناعته العقول والمختبرات والمعامل، كان الملايين من البشر يموتون جوعاً ومرضاً، والأمية تعشعش في البلدان المستعمرة والفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. في مطلع خمسينات القرن الماضي اشتعلت حرب عالمية بمواصفات جديدة، أعطيت عنوان "الباردة"، لكنها سخنت في شبه الجزيرة الكورية، حيث تواجه حلفاء الأمس في حرب لا برودة فيها. كان التقسيم هو الحل. دخلت آسيا في صندوق النار الآيديولوجي والسياسي. مواجهة ثانية فوق أرضها بين الحلفاء الذين وحَّدهم هتلر وموسوليني وإمبراطور اليابان. حرب فيتنام كانت رسماً لخريطة جديدة للقارة على ورق متفجر. لم تكن المواجهة من أجل حقول الأرز، أو مساحات زراعة القمح والشعير والذرة، بل كل كانت صدام الخوف الآيديولوجي. رأسمالية غربية تريد أن تتسيَّد الدنيا بعد انتصارها على قوات المحور الفاشية النازية، وآيديولوجية شيوعية تعتقد أن العصر الإنساني الجديد الذي تتقدم فيه الصناعة يجعل من الطبقات العاملة في العالم مرتعاً خصباً لما تبشر به من سيطرة الطبقة العاملة. قوة هائلة هي الصين الشعبية الشيوعية، بما بها من قوة بشرية هي الأكبر في العالم، وتبنيها للآيديولوجيا الشيوعية، غيرت موازين السياسة والاقتصاد، والأخطر القدرات العسكرية. لقد هيمنت الولايات المتحدة على اليابان التي كانت القوة العسكرية الأكبر في آسيا، وهي التي أدخلت أمريكا في صف الحلفاء في الحرب العالمية، بعد هجومها على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر، لكن قوة آسيوية أكبر من اليابان وبآيديولوجيا شيوعية، هي الصين، بدأت تلعب دوراً مهدداً للغرب في آسيا، ومتحالفة مع صنوها الشيوعي (الاتحاد السوفياتي). فيتنام كانت ساحة الاختبار والصدام الأكبر بعد الحرب العالمية الثانية بين قوى عالمية قديمة وجديدة.
السلاح هو القلم الذي يكتب صحائف القوة، ويرسم خطوط خرائط العالم المتحرك.
في خضم ذلك الصراع العالمي، استمرت معاناة الشعوب المهمشة يعصرها الفقر والمرض والأمية، فيما ترفع القوى العظمى ميزانيات جيوشها، وتسخر قدراتها العلمية ومصانعها لإنتاج أسلحة جديدة معقدة. انقسم العالم إلى كتلتين، لكن من نوع آخر. كتلة غنية متخَمة تسخر المليارات من الدولارات لصناعة السلاح، وكتلة تهزها الفاقة والجوع. ولدت معادلة صامتة. غني يعبئ مقدراته للحرب، ينتج يومياً جبالاً من السلاح، وفقير معدم يحلم بحبات من القمح والأرز والذرة. هذه المعادلة الإنسانية التراجيدية، صار لها وجود مزمن على سطح هذا الكوكب.
العالم كله يتابع اليوم الحرب الروسية في أوكرانيا. صواريخ وقنابل وقتلى وأسلحة، وأصوات تهدد بتوسيع رقعة المواجهة، ودعم عسكري ومالي غربي لأوكرانيا، وتصريحات روسية ترفع وتيرة المواجهة. لكن الشعوب الفقيرة الجائعة، تتابع بقلق، بل وإحباط، أخبار ناقلات القمح الأوكراني والروسي التي تنتظرها بطون جائعة في بلدان لا حصر لها. الغذاء هو السلاح الذي يفعل فعله في معركة البشر مع الحياة. الحرب الروسية في أوكرانيا طالت العالم كله، بما فيه البلدان الغنية. التضخم وصل إلى جيوب الجميع شرقاً وغرباً، وأصبح القمح القنبلة الصامتة التي تدخل البيوت. روسيا عقدت قمة مع قادة أفريقيا، ووعدتهم بتقديم شحنات مساعدة من القمح إلى بعض الدول الأفريقية، لكن الطرق البحرية غير آمنة، وهناك تولد الذرائع. الولايات المتحدة عقدت هي أيضاً قمة مع الدول الأفريقية، ووعدت بتقديم 55 مليار دولار مساعدات واستثمارات في القارة الأفريقية، لكن حجم وسرعة المساعدات العسكرية والمالية الأمريكية لأوكرانيا ليست مثل تلك التي وعدت بها أمريكا قادة أفريقيا.
قصف موانئ تصدير الحبوب في الحرب الروسية - الأوكرانية، تضرب قنابله بطون الجائعين في أفريقيا التي تعاني من الفقر والجفاف والإرهاب والزلازل السياسية. حرب عالمية واسعة بين القمح والقنابل.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه القمح روسيا روسيا قمح اوكرانيا صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرب العالمیة
إقرأ أيضاً:
ماهي الأدوار المهمة التي يمكن أن يلعبها الإعلام في السودان في فترة ما بعد الحرب
يلعب الإعلام دوراً مفصليا في إعادة بناء المجتمع، وتحقيق السلام، والمساهمة في التنمية. إفماهي الأدوار المهمة التي يمكن أن يلعبها الإعلام في السودان في فترة ما بعد الحرب :
أولا : تعزيز السلام والمصالحة الوطنية
و لكي يتحقق ذلك يتوجب
أ. التزام وسائل الاعلام بتغطية إخبارية متوازنة وموضوعية لما يجري ، وتجنب الرسائل المتحيزة و خطابات التحريض على الكراهية..
ب. وسائل الإعلام عليها أن تعطي مساحة مقدرة لرسائل السلام والمصالحة، بالتركيز على مبادرات السلام وجهود المصالحة الوطنية النابعة من المجتمع نفسه، ذلك أن وسائل الاعلام كثيرا ما تعد رسائل تبدو و كأنها رغبة سلطوية رسمية مما يضعف التفاعل معها..
ج. على وسائل الإعلام توفير منصة للحوار حول القضايا المهمة، وإشراك جميع الأطراف بلا اقصاء لأحد.. بمشاركة متوازنة تقدم الرأي و الرأي الآخر الموضوعي بما يهدف للوصول للمشتركات في الأفكار و الأطروحات و الحلول
ثانيا . دعم إعادة الإعمار والتنمية. من خلال :
أ. تسليط الضوء على الاحتياجات الإنسانية والمجتمعية في المناطق المتأثرة بالحرب، والاسهام في توجيه جهود الإغاثة وإعادة الإعمار.
ب. متابعة المشاريع التنموية القائمة و المستحدثة في البلاد، وتسليط الضوء على الإيجابيات في هذه المشروعات..
ج. على وسائل الإعلام أن تشجع المشاركة المجتمعية في جهود إعادة الإعمار والتنمية، وإبراز قصص نجاح المواطنين و أدوارهَم في بناء مستقبل أفضل لهم و لوطنهم .
د. إحياء قيم العمل و احترام الوقت.. و تعزيز خطاب التوازن بين الحقوق و الواجبات في علاقة المواطنين و الدولة..
ذلك أنه و لفترة مضت ساد خطاب الحق على الواجب.. و آن الأوان لتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة حول موضوعات السلطة و الثروة، و كانت سببا في استمرار الصراع مما أضعف بنية الدولة و تسبب في تأخر جهود البناء و الاعمار و التقدم نحو الأفضل..
ثالثا : اعادة صياغة الخطاب الاعلامي السياسي و ضرورة تعزيز و نشر قيم الديمقراطية و الشورى، و حقوق الآخر و العناية و الدفاع عن حقوق الإنسان، وتسليط الضوء على الانتهاكات، والمطالبة بالعدالة .
ب. أن تضطلع وسائل الاعلام بدورها، في مراقبة الأداء الحكومي: و يجب عليها مراقبة أداء الحكومة ومؤسسات الدولة، وكشف الفساد وسوء الإدارة، والمساهمة في تعزيز الشفافية والمساءلة.
ج. توعية الجمهور بحقوقهم وواجباتهم، و الدور الذي يجب أن يقوموا به في بناء مجتمع قائم على احترام حقوق الإنسان.
رابعا؛ تعزيز خطاب اعلامي ينبني على الحقائق لا غيرها ومحاربة الشائعات و المعلومات المضللة والأخبار ذات الغرض..
أ. يجب على وسائل الإعلام التحقق من الحقائق قبل نشرها، والتأكد من مصداقية المصادر ، وتجنب نشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة.
ب. على وسائل الإعلام مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، وتعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين جميع مكونات المجتمع.
خامسا : بناء ثقافة السلام والتسامح.
أ. هنالك قصص كثيرة و إيجابية عن التعايش السلمي والتسامح، يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في نشرها وتسليط الضوء على المبادرات الفردية و الرسمية و الجهود المبذولة لتعزيز الوحدة الوطنية.
ب. حسن ادارة قضايا التنوع الثقافي و تشجيع الحوار بين الثقافات وتعزيز التفاهم المتبادل والاحترام بين جميع أفراد المجتمع.
خاتمة.. خلاصة القول أن ما نحتاجه لادارة اعلام ما بعد الحرب في السودان أننا نريده اعلاما مسؤولاً ومهنياً، تقوم رؤيته على بناء مجتمع متماسك و قوي مؤمن بوحدته و تنوعه الثقافي، يسوده السلام والعدل والمساواة.
أ. يس إبراهيم
خبير اعلامي