هذا العالم الذي لا ينسى.. ولا يتعلم من فلسطين
تاريخ النشر: 11th, October 2023 GMT
لطالما ظل القانون الدولي أضعف حلقات قوة الإلزام التي يتخذها المجتمع الدولي، وبصورة تشكك حول الهوية العالمية للعدالة في ذلك المجتمع الذي متى ما عرفنا أنه أيضاً هو نتاج الحداثة السياسية للعالم وهي حداثة يحكمها منطق مادي صلب ومحكم عرفنا طبيعة ذلك الضعف الأصلي المقيم في طبيعة القانون الدولي.
لذلك درج في عادة الناس حيال كل حدث عالمي تقع فيه مظالم سياسية بحق كيان ما؛ التساؤل عما إذا كانت الأمم المتحدة قد أعربت عن قلقها أم لا؟
وإذا ما عرفنا أن الأمم المتحدة اليوم هي مصدر وواضعة القانون الدولي الحديث سندرك مدى ذلك الضعف الذي نراه واضحاً في تفاعل الأمم المتحدة مع الكثير من قضايا الحق الإنساني والضمير العالمي.
لكن ربما جاز لنا القول إن البيروقراطية التي تنطوي عليها آليات اتخاذ القرار في الأمم المتحدة، وقوة إسناد القرار الذي يمرر بضرورة اتفاق القوى العالمية الخمس الكبرى عليه (أمريكا ــ روسيا ــ الصين ــ فرنسا ــ بريطانيا) كل ذلك قد لا يجعل من قضايا الضمير العالمي مثل قضية فلسطين (التي أصدرت الأمم المتحدة قرارات واضحة تدين فيها إسرائيل) قابلة لأن تكون إحدى ممكنات تحقق عدالة القانون الدولي.
إن الامتناع الكامن في فصل القانون الدولي بين الحق والعدل في قراراته هو الأصل الذي تنبع منه كل الشرور التي لا تجعل من العالم الحديث نظاما يمكن أن تقوم فيه العدالة بسوية واحدة.
لذا من الطبيعي جداً أن تسمع عبارات تعاطف مؤثرة لقادة الدول الكبرى في العالم حيال ما يجري من مظالم بحق شعب ما مثلاً، من قبل نظام دولة ذلك الشعب، لكن في الوقت ذاته تجد رئيس الدولة العظمى الذي يعبر عن أسفه - حتى لو كان رئيس الولايات المتحدة - ممتنعاً - وهو القادر - عن اتخاذ أي قرار يحقق العدل الذي يقوم على الحق متى ما كان إجراء ذلك العدل يصطدم بسيادة متوهمة لدولة ما من دول العالم تجيز لنظامها قتل شعبه دون أن يتدخل العالم بسبب ضعف القانون الدولي من ناحية، وبسبب سردية انفصال القوة عن الحق في ذلك القانون، من ناحية ثانية، بما يسمح للظلم أن يقع على أي شعب باسم سيادة دولة ما على أراضيها.
لكن القانون الدولي على ما فيه من عجز وعلى ما قامت به الأمم المتحدة من إصدار لقرارات مناصرة للحق الفلسطيني، إلا أنه مع ذلك تبدو مشكلة فلسطين اليوم كآخر قضية ضمير عالمي - بعد جنوب إفريقيا التي تمت تسويتها - كما لو أنها مشكلة لا حل ممكنا لها مع كافة القرارات الأممية الداعية إلى ذلك الحل.
والحقيقة أن قضية احتلال فلسطين في أصلها قضية تتصل بنتائج إحدى قرارات الحرب العالمية الثانية الكبرى، التي جعلت من قيام إسرائيل خلاصا مزدوجا لأوروبا من تأنيب الضمير عن المحرقة النازية في تلك الحرب، من ناحية، ومن مشكلة عدم اندماج اليهود في الدولة الأوروبية الحديثة لأكثر من ألفي سنة؛ فقد أصبحت تلك القضية منذ قيام كيان إسرائيل عام 1948 سبباً لإسقاطات مضللة يتعمد فيها الغرب الأمريكي والأوروبي باستمرار استصحاباً لحالة تعاطف دولي غير مشروط مع إسرائيل في كل أحوالها انطلاقاً من قياس فاسد يتوهم أن أي مساس بإسرائيل هو بمثابة شروع محتمل لتجديد المحرقة النازية!
اليوم، ونتيجة لما حدث في 7 أكتوبر من نتائج عملية طوفان الأقصى والتداعيات التي نجمت عنها في مستوطنات غلاف غزة، نجد كل المجتمع الدولي فيما هو يدين تلك العملية إلا أننا لا نراه يدين إسرائيل وهي تفعل بأهل غزة كل تلك الجرائم المتلفزة أمام أنظار العالم؛ من تدمير للبيوت على ساكنيها، وازدياد الضحايا المدنيين على وقع قصف مستمر وقطع للكهرباء والمياه وحصار استمر 17 عاما بل وكذلك تهديد إسرائيل لمصر بضرب أي قافلة شاحنات إغاثية لأهل غزة المدنيين المنكوبين، العالم كله يرى ذلك فيما تفعل إسرائيل لكنه لا يكاد يرى في ما ترتكبه إسرائيل بحق أهل غزة المدنيين جرائم للأسف!
وطالما ظلت فلسطين قضية ضمير عالمي فلا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولا يمكن أن تنسى بفرض النسيان على ذاكرة العالم، ومن الأفضل للقوى الدولية فرض حل الدولتين على إسرائيل كأقصر طريق للسلام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القانون الدولی الأمم المتحدة
إقرأ أيضاً:
هل يجوز فرض العدالة حين تفشل الأمم المتحدة؟ قراءة قانونية في الضربات الإيرانية
في مساء الثالث عشر من حزيران/ يونيو 2025، دوّت انفجارات في عمق الأراضي الإيرانية، استهدفت منشآت عسكرية وصناعية حساسة، من بينها مراكز أبحاث نووية في أصفهان وتبريز. وعلى الفور، وجّهت طهران أصابع الاتهام إلى الكيان الصهيوني، معتبرة القصف عملا عدائيا وعدوانا صريحا، لترد في اليوم التالي بوابلٍ من الصواريخ والطائرات المسيّرة تجاوزت 350 قطعة، استهدفت قواعد عسكرية ومناطق حيوية داخل أراضي ذلك الكيان. أعادت هذه الجولة الصدامية الصراع إلى طاولة القانون الدولي، وطرحت أسئلة معقدة حول المشروعية والشرعية، ومواقف الدول من دعم المقاومة، ومعايير استخدام القوة في ظل العجز الأممي.
هل بدأت إيران الحرب أم مارست حق الدفاع الشرعي؟
يرتكز القانون الدولي في تحديد مشروعية استخدام القوة على المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر التهديد أو استخدام القوة ضد وحدة أراضي أي دولة. ومع ذلك، تفتح المادة (51) الباب أمام "الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس إذا وقع هجوم مسلح".
المبادرة باستخدام القوة جاءت من الكيان الصهيوني، الذي شنّ ضربة استباقية ضد أراضٍ إيرانية دون تفويض من مجلس الأمن أو تهديد وشيك مثبت. وبذلك، تستوفي إيران -من حيث المبدأ- شروط "الدفاع المشروع"
انطلاقا من الوقائع، فإن المبادرة باستخدام القوة جاءت من الكيان الصهيوني، الذي شنّ ضربة استباقية ضد أراضٍ إيرانية دون تفويض من مجلس الأمن أو تهديد وشيك مثبت. وبذلك، تستوفي إيران -من حيث المبدأ- شروط "الدفاع المشروع"، لا سيّما إذا كان الرد مباشرا ومتناسبا ومحدد الأهداف.
هل رد إيران يتوافق مع قواعد القانون الدولي الإنساني؟
حتى عندما يكون الرد العسكري مشروعا، يبقى خاضعا لثلاثة ضوابط أساسية في القانون الدولي الإنساني:
1. التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية؛
2. التناسب بين الفعل وردّ الفعل؛
3. اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتفادي الإضرار بالمدنيين.
واجهت إيران انتقادات قانونية بسبب سقوط عدد من صواريخها في مناطق مدنية خاضعة للكيان الصهيوني، رغم تصريحها بأن الهدف كان مواقع عسكرية. وهنا تبرز مسألة استخدام وسائل قتال تُعرف بانخفاض دقتها، خصوصا في بيئات حضرية مكتظة، وهو ما قد يُرتب مسؤولية قانونية دولية في حال عدم اتخاذ الاحتياطات الكافية.
هل يمكن اعتبار دعم إيران لغزة تدخلا مشروعا في القانون الدولي؟
تقول إيران إن تدخلها الصاروخي لا يأتي فقط ردا على العدوان ضد أراضيها، بل دفاعا عن الأطفال والنساء في غزة، الذين يُبادون بشكل ممنهج من قِبل الكيان الصهيوني، في ظل عجز أممي وازدواجية في تطبيق القانون.
وهنا تُطرح مسألة "الدفاع الجماعي عن المظلومين"، وهي نظرية لم تُكرّس بعد في القانون الدولي التقليدي، لكنها تلقى قبولا متناميا في سياق الأزمات التي تفشل فيها المنظومة الأممية في حماية المدنيين ووقف الجرائم الجماعية.
لقد استُند إلى هذه النظرية في حالات مشابهة، مثل تدخل الناتو في كوسوفو 1999، والتدخل في كردستان العراق ورواندا، دون تفويض من مجلس الأمن، ولكن بدعوى حماية السكان من الإبادة أو التطهير العرقي.
كيف يفسر القانون الدولي ازدواجية دعم الكيان الصهيوني مقابل إدانة إيران؟
من المدهش أن المجتمع الدولي يتسامح مع مئات الغارات التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة ولبنان وسوريا، تحت غطاء دبلوماسي وعسكري مباشر من الولايات المتحدة، في حين تُدان إيران لمجرد دعمها لحركات مقاومة ضد الاحتلال، أو ردها على قصف أراضيها.
ويطرح ذلك سؤالا أخلاقيا وقانونيا جوهريا: هل أصبح القانون الدولي أداة بيد الأقوياء؟ وهل تُقاس المشروعية بحجم النفوذ لا بحجم العدالة؟
إن هذا الواقع يؤكد أن تطبيق القانون لم يعد مرهونا بنصوص المواثيق، بل بمن يملك مفاتيح مجلس الأمن، وحق النقض، وآليات تسييس العدالة.
هل يمكن اعتبار المحكمة الجنائية الدولية ساحة فعّالة لمحاسبة الجناة؟
منظومة العدالة الدولية أصبحت رهينة الجغرافيا السياسية، وأن فشلها في ردع الاحتلال، وإيقاف المجازر، وفرض العقوبات، سيدفع الدول إلى تبنّي خيارات بديلة؛ منها الردع الإقليمي، والمقاومة غير المتماثلة، وفرض الأحكام الدولية بقوة الواقع
في ظل غياب إرادة دولية حقيقية، تبدو المحكمة الجنائية الدولية -رغم أهميتها- عاجزة عن مواجهة جرائم الكيان الصهيوني، بسبب انسحاب هذا الأخير من نظام روما الأساسي، وغياب التعاون من الدول الكبرى، وتهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على كل من يحقق في دعمها العسكري لتلك الجرائم.
ورغم تحرك جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بدعوى اتهام الكيان الصهيوني بخرق اتفاقية منع الإبادة الجماعية، إلا أن تنفيذ الأحكام الصادرة سيبقى رهن توازنات مجلس الأمن ورضا الدول النافذة، وهو ما يعمّق فجوة الثقة بين الشعوب والعدالة الدولية.
ما السبيل إذا لحماية الشعوب المظلومة؟
ليس القصد من هذا المقال تمجيد القوة أو تبرير التصعيد، بل تأكيد أن منظومة العدالة الدولية أصبحت رهينة الجغرافيا السياسية، وأن فشلها في ردع الاحتلال، وإيقاف المجازر، وفرض العقوبات، سيدفع الدول إلى تبنّي خيارات بديلة؛ منها الردع الإقليمي، والمقاومة غير المتماثلة، وفرض الأحكام الدولية بقوة الواقع.
إن معركة غزة، بما تحمله من صور المجازر الجماعية والانهيار الأخلاقي للمؤسسات، لن تُحسم بالصواريخ وحدها، بل بإرادة دول تُؤمن بأن الدفاع عن الإنسان، حيثما وُجد، مسؤولية تتجاوز الحدود والخرائط.