بين خيبة أمل الشارع ومبادرة نظام الضامنين.. إليك الموقف التركي من طوفان الأقصى
تاريخ النشر: 18th, October 2023 GMT
أنقرة- أدت المجازر المتتالية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة وإعلان تشديد حصاره وحرمانه من الماء والكهرباء والوقود إلى تصعيد أنقرة نبرتها الدبلوماسية تجاه تل أبيب.
وفي تغريدة له على موقع "إكس" دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب مجزرة مستشفى المعمداني في غزة "الإنسانية جمعاء إلى اتخاذ إجراءات لوقف هذه الوحشية غير المسبوقة".
من جانبها، عبرت وزارة الخارجية عن شعورها بـ"غضب كبير" إزاء المجزرة، مؤكدة أنه "لا مفر من محاسبة العقلية التي تستهدف المدنيين بشكل مباشر وتهاجم المستشفيات والمدارس أمام القانون الدولي والضمير الإنساني".
قضية "أكبر من تركيا"
ويرى مؤيدو الحكومة التركية أن إدانتها الصريحة لإسرائيل ومجازرها في غزة ودعوتها إلى وضع حد لذلك بالتوازي مع حراك دبلوماسي مكثف تعدان شاهدا على موقفها الثابت بشأن دعم وتبني القضية الفلسطينية رغم أنها مقيدة بـ"حسابات وتوازنات سياسية".
ويرى رئيس مركز أورسام للدراسات في أنقرة البروفيسور أحمد أويصال أن أنقرة بشكل عام تعتبر القضية الفلسطينية أكبر من تركيا وحتى بعض الدول الفاعلة، وأن أي حل لها سيكون "حلا مشتركا".
ويقول أويصال للجزيرة نت إن تركيا تتواصل مع الشرق والغرب لتحقيق هذا الهدف، وتوصلت إلى رؤية وموقف موحد مع كل من مصر والسعودية، بالإضافة إلى باكستان وماليزيا ودول أخرى، لافتا إلى أن هذا يمكن أن يشكل "كتلة قوية تضغط على إسرائيل وداعميها".
وبحسب الأكاديمي التركي، فإن تركيا تحاول أن تقنع "الأطراف الداعمة" بسحب الدعم من إسرائيل أو الضغط عليها للتراجع عن أفعالها، مقرا بأن تفاقم الأمور يصعب المهمة رغم وجود فرصة للضغط الدبلوماسي وأيضا من خلال التحرك الجماهيري.
من جهته، يرى الكاتب والباحث القريب من الحكومة يوسف كاتب أوغلو أن الدبلوماسية التركية كانت منذ اللحظة الأولى سباقة إلى إدانة التصعيد الإسرائيلي والسعي لنزع شرارة الحرب، لكنها لا تريد لهذه الحرب أن تتسع إقليميا وتقول بوجوب إيقافها بشتى الوسائل السياسية والدبلوماسية، بالإضافة إلى تفعيل دور المنظمات الإنسانية لإدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر، وتطبيق القوانين الدولية، والتوصل إلى الحل السياسي الدولي.
وأشار كاتب أوغلو في حديثه للجزيرة نت إلى أن أردوغان -الذي أجرى قرابة 20 اتصالا مع معظم زعماء الدول الفاعلة في المشهد- لم يلب توقعات الشارع العربي والإسلامي الذي يرى أنه رمز إسلامي شعبي، لكن "الحسابات والتوازنات السياسية في الواقع هي التي تتحكم بالمشهد السياسي في العلاقات الدولية".
ويعتقد الباحث التركي أن أنقرة بالتالي لا تستطيع أن تتورط من خلال التدخل في حرب أو أن تدعم طرفا على حساب طرف، مبررا ذلك بأنه "يجب أن تكون هناك تحالفات وقرارات أممية، وأن تكون هناك قوة رادعة تحت مظلة دولية لإنهاء هذا الأمر وحله من جذوره".
لكن تصاعد المجازر المروعة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية -ولا سيما مع استهداف المستشفى المعمداني في غزة مساء أمس الثلاثاء- من المتوقع -كما يقول كاتب أوغلو- أن يؤدي إلى رد فعل تركي أقوى.
مبادرة الضامنينوكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد ذكر أن بلاده طرحت فكرة نظام يكون فيه ضامنون للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني من أجل إحلال السلام الدائم في الصراع المستمر في تصريحات للصحفيين في أنقرة أول أمس الاثنين، في خضم سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية التي أطلقتها أنقرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وردا على سؤال بشأن حصول بعض الدول على صفة الضامن للجانب الفلسطيني ودول أخرى للجانب الإسرائيلي، قال فيدان "نحن طرحنا الفكرة الرئيسية لمسألة الضمانة، ونقول إنه ينبغي مناقشة النظام أولا وبالتالي منهجيته بشكل منفصل".
ومنذ الهجوم الواسع الذي شنته كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس تحت اسم "طوفان الأقصى" على مستوطنات وثكنات عسكرية في غلاف غزة أدانت أنقرة سقوط المدنيين، وأعادت التأكيد على موقفها بشأن دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وهي مواقف اعتبرت مخيبة لتوقعات الشارع العربي والفلسطيني، بحسب محللين.
وبشأن مغزى الآلية التي طرحها الوزير التركي، يقول أنس يلمان الكاتب والباحث في السياسة والعلاقات الدولية إن الفكرة تقوم على التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار ثم الجلوس والتحدث بين الضامنين.
وأضاف يلمان للجزيرة نت أن مبدأ عمل آلية الضامنين هو الانطلاق من فكرة أن الأطراف ليست مستعدة للجلوس معا، ولا تريد أن تتفاوض وجها لوجه، مما يجعل فكرة التواصل بين الضامنين أقرب للقبول بين الأطراف.
وتريد تركيا من خلال ذلك -بحسب الباحث التركي- لعب دور وساطة، ولكن بجانب الفلسطينيين من خلال طرح نفسها كضامن لهم كما فعلت مع أتراك قبرص، مضيفا "ربما يفكر صانع القرار التركي بأن تؤول الأمور إلى إرسال قوة عسكرية تركية إلى فلسطين كجزء من جهود ضمان الأمن هناك على أنها ستكون خطوة متقدمة ولن تكون في مصلحة إسرائيل أبدا".
ويقول يلمان إنه إلى جانب جهود تركيا للعب دور الوسيط ثمة ترقب في البلاد لما سيصدر عن اجتماع منظمة التعاون الإسلامي الذي سيعقد اليوم الأربعاء في جدة، والذي تعول عليه تركيا لتعزيز موقفها، وربما اعتماد مبادرة الضامنين في ظل غياب حلول أو مبادرات أخرى على الصعيد العالمي الإسلامي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
الأونروا في تركيا: تحرك دبلوماسي لمحاولة إعادة التوازن لقضية اللاجئين
في زمنٍ تتكاثر فيه الضغوط لتجريد وكالة الأونروا من شرعيتها، وتتصاعد محاولات شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين من الذاكرة الدولية، لا يمكن النظر إلى استضافة تركيا لمكتب جديد للوكالة في أنقرة كمجرد خبر دبلوماسي عابر. إن تسليط الضوء على هذه المبادرة ليس تعبيرا عن مديح مجاني، بل انطلاقا من وعي عميق بدلالاتها الاستراتيجية في لحظة حرجة. فهي خطوة تتجاوز الإطار الإداري، وتعكس إرادة سياسية وسيادية بالوقوف إلى جانب قضية اللاجئين، في وقت ينكفئ فيه كثيرون ويتوارى فيه الدعم تحت ضغط الابتزاز المالي والسياسي.
في هذا المقال، نحاول قراءة أبعاد هذه الخطوة من زوايا متعددة: كيف ولماذا جاءت؟ ماذا تعني في ميزان الصراع على حق العودة؟ وما الذي يمكن البناء عليه إقليميا ودوليا انطلاقا من "مكتب أنقرة"؟
أولا: مضمون الاتفاق ودلالاته
في 21 حزيران/ يونيو 2025، وخلال اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توقيع اتفاق رسمي بين الحكومة التركية ووكالة الأونروا لافتتاح مكتب للوكالة في العاصمة أنقرة. ويتيح هذا الاتفاق تعزيز التعاون المؤسسي بين الطرفين، وتنويع مصادر الدعم السياسي والمالي للأونروا في ظل ما تتعرض له من ضغوط متصاعدة.
وفي كلمته خلال الاجتماع، شدد أردوغان على أن "إسرائيل تسعى إلى شلّ عمل الأونروا، ويجب ألا نسمح لها بذلك"، مؤكدا أن الوكالة تؤدي دورا لا يمكن الاستغناء عنه في رعاية اللاجئين الفلسطينيين. ودعا الدول الأعضاء في المنظمة إلى تقديم الدعم المالي والمعنوي الكافي لإفشال ما وصفها بـ"ألاعيب إسرائيل".
هذا الموقف التركي لا يعبّر فقط عن تضامن إنساني، بل يأتي في سياق سياسي أوسع، يعيد التأكيد على مكانة الأونروا كأحد الرموز الدولية الباقية في ملف اللاجئين، ويدق ناقوس الخطر إزاء محاولات تهميش هذا الملف في ظل صمت دولي وتواطؤ متزايد داخل بعض المنابر الغربية.
ثانيا: في لحظة سياسية خطيرة
تأتي المبادرة التركية في توقيت دقيق يشهد تحولات تهدد وجود الأونروا ومصير اللاجئين الفلسطينيين. فقد أقدمت إسرائيل أواخر 2023 على حظر عمل الوكالة في القدس الشرقية والمناطق التي تسيطر عليها، موجهة اتهامات بأنها توظّف عناصر من حماس وتدعم "الإرهاب"، ما دفع أكثر من عشر دول غربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- إلى تعليق تمويلها، ما أحدث أزمة مالية غير مسبوقة للأونروا.
في أوروبا والولايات المتحدة، تصاعد الهجوم السياسي والإعلامي ضد الوكالة، وسط دعوات لتفكيكها أو دمجها في وكالات أممية أخرى، ضمن مساعٍ لإلغاء البعد السياسي لقضية اللاجئين. هذا الضغط تغذيه تيارات يمينية تعتبر الأونروا أداة "تحريض وتطرّف".
في الوقت ذاته، تتفاقم الأزمة الإنسانية، فالحرب على غزة تسببت في تدمير واسع وتهجير جماعي، فيما تستمر سياسات الاقتلاع في الضفة، وتبقى أوضاع اللاجئين في لبنان وسوريا بائسة وسط انهيار الخدمات الأساسية. وقد حذرت منظمات أممية من أن انهيار الأونروا سيؤدي إلى اضطرابات تهدد استقرار دول بأكملها.
في هذا السياق، تمثل المبادرة التركية خطوة استراتيجية لتثبيت شرعية الأونروا ومنع انهيارها، ورسالة واضحة بأن دعم حقوق اللاجئين لا يزال واجبا دوليا لا يسقط بصمت المانحين.
ثالثا: تركيا كفاعل سياسي وإنساني
لتركيا سجل طويل في دعم القضية الفلسطينية، لكن استضافتها لمكتب الأونروا يحمل دلالات جديدة، أبرزها:
•دعم رسمي منظم: الانتقال من المواقف الخطابية إلى شراكة مؤسساتية واضحة مع الأونروا، يعكس التزاما طويل الأمد واستعدادا لتوفير التسهيلات اللوجستية والمساندة الميدانية، مما يمنح الدعم التركي طابعا أكثر استقرارا وفعالية.
•تأكيد السيادة في وجه الضغوط: الخطوة تعكس قرارا سياديا في مواجهة التحفظات الغربية على الأونروا، وتدل على استعداد تركيا لاتخاذ مواقف مستقلة عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الإنسانية العادلة، رغم محاولات فرض الوصاية على الدول الداعمة.
•محاولة لتشكيل تحالف أوسع: تسعى أنقرة إلى حشد دعم دولي وإسلامي يعيد الاعتبار لقضية اللاجئين وحق العودة، بعيدا عن الأجندات الغربية الضيقة، كما تمنحها هذه الخطوة تأثيرا إضافيا داخل الأمم المتحدة في أي نقاش مستقبلي حول إصلاح أو حماية الأونروا من الانهيار.
رابعا: المعركة على حق العودة
إن استهداف الأونروا ليس مجرد مسألة تقنية تتعلق بكفاءة الوكالة أو نزاهتها المالية؛ بل هو في جوهره جزء لا يتجزأ من محاولة تصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين. فمن المعلوم أن وجود الأونروا وتسجيل اللاجئين الفلسطينيين فيها يشكّل اعترافا دوليا ضمنيا بأن قضيتهم ما زالت قائمة ولم تُحل بعد. طالما بقيت الأونروا تعمل وتقدم خدماتها لملايين اللاجئين، فهذا يعني بقاء صفة اللاجئ الفلسطيني حية ومعترف بها دوليا، وبالتالي بقاء المطالبة بحل عادل على أساس قرار الأمم المتحدة 194.
لهذا السبب بالتحديد، سعت إسرائيل وحلفاؤها مرارا إلى إلغاء الوكالة أو تفريغها من مضمونها السياسي. فبعد حرب 2023 على غزة، صعّدت إسرائيل حملتها ضد الأونروا وصولا إلى سنّ قوانين لإخراجها من القدس وقطع العلاقات معها. الهدف الحقيقي خلف هذه التحركات كان سياسيا بامتياز، إذ تسعى إسرائيل إلى إغلاق الأونروا نهائيا تمهيدا لإغلاق ملف اللاجئين ككل وإلغاء حق العودة. ضمن رؤية صقور الحكومة الإسرائيلية، إنهاء وجود الوكالة سيمهّد عمليا لشطب قضية اللاجئين من أي مفاوضات مستقبلية وفرض الأمر الواقع بقبول التهجير كحل دائم.
وقد عبّر خبراء ومحللون إسرائيليون عن هذه النوايا بشكل صريح، فهناك من دعا علنا إلى "إزالة صفة اللاجئ عن الفلسطينيين عبر حلّ الأونروا ودمجهم في الدول المضيفة" كطريقة لإنهاء فكرة حق العودة بشكل نهائي. بل ذهب أحد الصحفيين الإسرائيليين إلى أبعد من ذلك بوصفه الأونروا بأنها "وحش يدعم الإرهاب"، وأن استمرارها جعل "اللاجئين مجرد أحفاد لا صلة لهم بالنكبة الأصلية" على حد زعمه، في محاولة لتبرير ضرورة التخلص منها. هكذا تتضح الصورة: المستهدف الحقيقي من شيطنة الأونروا وتجفيف مواردها هو الذاكرة السياسية والقانونية للجوء الفلسطيني، لأن طمس هذه الذاكرة يمهّد لإسقاط حق العودة وإعادة تعريف القضية الفلسطينية وفق الرؤية الإسرائيلية وحدها.
من هنا تنبع أهمية الخطوة التركية التي يمكن اعتبارها حصنا أمام هذا المخطط. فمجرد فتح مكتب للأونروا في أنقرة واحتضان دولة بحجم تركيا لها يعني إحياء الزخم الدولي حول قضية اللاجئين وحق العودة، إنه بمثابة تأكيد أن محاولة شطب حق العودة عبر إنهاء الأونروا ستواجه مقاومة دولية، وأن هناك أطرافا مستعدة لاتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على هذا الحق وإبقائه حيا في المؤسسات والمحافل الدولية.
خامسا: مكتب أنقرة بين تثبيت الشرعية وتوسيع الدور الدولي للأونروا
رغم أن افتتاح مكتب للأونروا في أنقرة لا يُغيّر ميزان القوى بشكل مباشر، إلا أنه يحمل قيمة استراتيجية على المدى البعيد، تجمع بين الرمزية والدور العملي. فهذه الخطوة قد تتحول إلى نقطة ارتكاز لتحالف دولي جديد يواجه محاولات تصفية القضية الفلسطينية، ويعزز الحضور الدولي للأونروا في لحظة تتعرض فيها لضغوط غير مسبوقة.
أولا، يتيح وجود المكتب منصة تنسيق فعالة عبر منظمة التعاون الإسلامي، تسهّل فتح قنوات تواصل مباشرة بين الأونروا والدول الإسلامية. ومن خلال التعاون مع الخارجية التركية، يمكن تنظيم اجتماعات دورية وطارئة، والتوافق على مواقف جماعية داعمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو أمام الدول المانحة. وقد ظهرت أولى بوادر هذا التوجه في اجتماع إسطنبول الأخير، الذي دعا فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومعه المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني، إلى تحرك سياسي ومالي عاجل لإنقاذ الوكالة.
ثانيا، يمثّل المكتب الجديد بوابة لتنويع مصادر تمويل الأونروا، من خلال جذب مساهمات القطاعين الخاص والخيري في تركيا والمنطقة. فالمجتمع التركي يمتلك بنية اقتصادية نشطة، ومؤسسات إنسانية واسعة مثل "آفاد" و"الهلال الأحمر" و"تيكا"؛ سبق أن ساهمت في تمويل مشاريع إغاثية وتنموية في غزة ومناطق اللاجئين. ومن شأن تحويل العلاقة إلى شراكة رسمية أن يعزز هذه المبادرات، ويشجّع رجال الأعمال والمؤسسات الوقفية على المساهمة بشكل منتظم.
ثالثا، يمكن لهذا المكتب أن يسهم في ربط المساعدات الإنسانية بالتنمية المستدامة، عبر مشاريع طويلة الأجل لتحسين أوضاع اللاجئين، مثل بناء المدارس والمراكز الصحية، أو تطوير البنية التحتية في المخيمات، بما يخفف من اعتماد اللاجئين على التمويل الغربي المتقلب، ويعزّز صمودهم المجتمعي.
وأخيرا، يُمكن للمكتب أن يتحول إلى منصة دبلوماسية وإعلامية قادرة على تصحيح السردية المغلوطة التي تروّج لها إسرائيل والتيارات اليمينية في الغرب ضد الأونروا. فبدلا من ترك المجال لروايات التشويه، يمكن من أنقرة التي تربط الشرق بالغرب- إطلاق خطاب متوازن يُبرز الدور الإنساني المحوري للوكالة، ويسهم في تثبيت شرعيتها أمام الرأي العام العالمي.
سادسا: رهانات أنقرة في حماية الأونروا وإحياء سردية اللاجئين
لا تكمن أهمية افتتاح مكتب للأونروا في أنقرة بما تحقق فعليا، بل فيما يمكن أن يُبنى عليه من تحركات استراتيجية. تراهن تركيا على أن تُشكّل هذه الخطوة منصة لحشد دعم دولي متنوع، عبر تفعيل الشراكات مع دول إسلامية وآسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية، بما يُقلّل من اعتماد الأونروا على التمويل الغربي، ويوفر لها شبكة أمان سياسية ومالية في وجه الابتزاز المتكرر.
الرهان الثاني يتمثّل في منح الوكالة غطاء دبلوماسيا يقيها محاولات فرض شروط تمسّ بتفويضها الأممي. فمع وجود دعم علني من تركيا ومنظمة التعاون الإسلامي، تصبح الأونروا أكثر قدرة على الدفاع عن استقلاليتها في الميدان وفي المحافل الدولية.
أما الرهان الأبعد مدى، فيتعلّق بإحياء سردية اللاجئين الفلسطينيين بصفتهم أصحاب حق، لا مجرّد مستفيدين من مساعدات. وتدرك أنقرة أن حماية الأونروا لا تكتمل من دون مواجهة الروايات التي تُفرغ قضية اللاجئين من بعدها السياسي والقانوني، ولهذا قد تُسهم هذه الخطوة في إعادة توجيه النقاش الدولي نحو جوهر المسألة: حق العودة، لا مجرد الإغاثة المؤقتة.
وفي مجمل الصورة، لا يُعد افتتاح المكتب خطوة إدارية بحتة، بل موقفا سياديا في لحظة حصار سياسي ومالي. لقد اختارت تركيا أن تعلن، عبر هذا التحرك، أن دعم اللاجئين الفلسطينيين واجب أخلاقي لا يُطوى، وأن تفكيك الأونروا لن يمر دون مقاومة. فالمكتب، وإن بدا صغيرا في حجمه، يحمل رمزية كبيرة في زمن التخلي، ويؤكد أن العالم -رغم كل الانهيارات- لم يُغلق بعد آخر أبواب العدالة.