ختمت مقالي السابق بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، فكيف يكون نصر الله وهو الغني عن العالمين، والمستغني عن البشر أجمعين؟
أجمع أهل التفسير أن المراد هو: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله، والحكم بكتابه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ينصركم الله على أعدائكم، ويثبت أقدامكم عند القتال.
فهذا أمر منه سبحانه وتعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجه الله ولا يشركوا به شيئا، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.
ونظير ذلك قوله تعالى: "ولينصرن الله من ينصره" وقالوا في ذلك: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد.
ويثبت أقدامكم أي عند القتال. وقيل: على الإسلام. وقيل: على الصراط. وقيل: المراد تثبيت القلوب بالأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
وفى سورة الأنفال هذا المعنى، فيقول سبحانه وتعالى: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" فأثبت في هذه الآية واسطة الملائكة في التثبيت، ونفاها في الآية الأولى ونسب التثبيت لنفسه بقوله: ".. ويثبت أقدامكم"، كقوله تعالى: "قل يتوفاكم ملك الموت" ثم نفاها بقوله: "الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم.. " ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم، فلا فاعل لشيء إلا الله وحده، إذ هو سبحانه مالك الملك ومدبر الأمر ويقول للشيء كن فيكون.
فيا أمة الإسلام، حكاما ومحكومين: نصر الله لكم على أعدائكم مرهون بنصر دينه والعمل بكتابه وبسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، فلن تفلح أمة الإسلام إلا بما صلح به أولها، ويبدأ الصلاح بنبذ الخلاف وتوحيد الصف وتأليف القلوب، وإدراك الواقع، والأخذ بالأسباب بإعداد العدة والاستعداد التام بالقوة اللازمة لخوض المعركة، ومعرفة حجم المخاطر الناجمة عن خوضها، ثم التوكل على الله حق توكله، والإيمان الجازم بأن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى، وبغير ذلك ستفشلوا وتذهب ريحكم كما هو الحال الآن.
قال الله تعالى في الآية 46 من سورة الأنفال: "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أمرهم أن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم، "وتذهب ريحكم" أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال "واصبروا إن الله مع الصابرين".
وقد كان للصحابة رضى الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لأحد ممن بعدهم فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالية والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بنى آدم.
لقد قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.
حفظ الله مصر وأهلها، وهدى أمتنا سبل السلام. [email protected]
اقرأ أيضاً«إنقاذ الطفولة»: استشهاد 2000 طفل في غزة والعمليات الجراحية تُجرى على الأرض
الجارديان تسلط الضوء على معاناة سكان غزة جراء الحصار على القطاع
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: فلسطين غزة نصر الله
إقرأ أيضاً:
كل أسبوع - ورطة الهلالي «2»
تحدثت في المقال السابق عن ورطة الدكتور سعد الدين الهلالي، في تبنيه عرض الآراء الشاذة والغريبة، ووعدت بالكشف عمن ورطه في هذا الأمر، وهو للأسف شخصية إعلامية تتصدر برنامجا دينيا شهيرا على إحدى القنوات الفضائية، وحقيقة أمره أنه لا يرقى أن يكون تلميذا للدكتور الهلالي أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، ولكنه استطاع إقناعه أن يقتحم قلعة الإعلام، وقد كان عازفا عن ذلك مكتفيا بمكانته العلمية راضيا بشهرته بين طلابه بالحفظ الجيد والاطلاع الواسع، وبذل جهده لتلاميذه «لعلهم يفقهون».
ذلك المفصول من كلية أصول الدين لتكرار مرات رسوبه وعدم حفظه للقرآن الكريم، كانت نصيحته الأولى للدكتور سعد أن يغوص في كتب الفقه ويظهر الشاذ فيها والغريب منها حتى يحقق شهرة واسعة في أقصر وقت ممكن، وقد كان، ولكنها شهرة بغيضة جلبت عليه ما لا يقبله عالم، ويعرف قدر ما يحمله من علم صحيح.
ثقتي كبيرة في فطنة القارئ العزيز، الذى بالضرورة قد تعرف على اسم الشخص الذي ورط الدكتور الهلالي في هذا المنهج السقيم.
الأمر الآخر هو قاعدة «استفت قلبك» التي انطلق منها الدكتور الهلالي لتسفيه الآراء الفقهية واتهام الفقهاء بأنهم أوصياء على الناس، وأن الناس لا يحتاجون إلى المفتين، وانتهى به الأمر للتساؤل في البرنامج الذي يستضيفه كل أسبوع هذا الإعلامي، قال الهلالي: هل كان هناك مفتي في عصر الرسول أو في عصر أبي بكر أو في عصر عمر؟ وهو تساؤل أقل ما يوصف به أنه سؤال مغرض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المفتي الأول، وكان يبعث العلماء من الصحابة لإفتاء الناس في الأمصار، فهذا معاذ بن جبل، كان من أعلم الصحابة وأفقههم، وقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن وتعليمهم أمور دينهم، وعندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «بِمَ تَحْكُمُ؟ قال معاذ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قال: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قال: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»، وهذا يدل على المنهجية التي كان يسير عليها معاذ بن جبل رضي الله عنه في القضاء والفتوى، وهو منهج قويم يسير عليه أهل العلم الراسخون إلى يومنا هذا، وكان رضي الله عنه يتمتع بعلم غزير وفهم عميق للشريعة، مما أهله لمسؤولية الإفتاء العظيمة.
وقاعدة «استفت قلبك» قاعدة صحيحة، وردت في نص حديث مشهور، عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد اختلف العلماء في درجته، والراجح عند كثير من العلماء أنه حسن لذاته أو حسن لغيره بمجموع طرقه وشواهده، وإن كان في بعض أسانيده ضعف. وقد اعتنى به العلماء في كتبهم واستشهدوا به في مواضع الترجيح والاستفتاء القلبي في الأمور المشتبهة.
وينبغي فهم الحديث في سياقه الصحيح، فهو لا يعني مخالفة النصوص الشرعية الواضحة أو فتاوى أهل العلم الراسخين لمجرد هوى النفس. وإنما يُعمل به عند الاشتباه وعدم وضوح الحكم، وعندما يتردد القلب وينفر من أمر ما، خاصة إذا تعارضت فتوى معينة مع ما يستقر في النفس المؤمنة التقية، وليس لعموم الناس من أهل الهوى والغرض والفساد القلبي.
وإن شاء الله تعالى نستكمل الحديث في هذه القضية إن كان في العمر بقية، ونستعرض بعض أقوال العلماء المعتبرين في شرح حديث «وابصة» [email protected].
اقرأ أيضاًكل أسبوع.. تاريخ أسود للصهاينة في الغدر ونقض العهود
كل أسبوع.. زكاة الفطر والعيد والعيدية
كل أسبوع.. «بدر» معركة فاصلة ودروس خالدة