سعت الصين منذ عقود لاتباع سياسة خارجية متوازنة وهادئة حيال منطقة الشرق الأوسط والصراعات المنتشرة فيها. ومع ذلك، حافظت سياستها الخارجية على حرصها على إظهار التباين عن الموقف الأميركي واستغلال انحيازه المتكرر في عدد من الملفات، للتعبير عن موقف أكثر اعتدالا يمنحها القدرة على إبقاء التواصل مع الأطراف المختلفة.

إلا أن تصاعد التوترات وزيادة حدة الاستقطاب الدولي في عدد من القضايا الشرق أوسطية بدأ يحد من السياسة الصينية، التي تُعرف بعدم الانحياز لأطراف النزاع، ويعرضها لتحديات واختبارات جدية. وشكلت حرب إسرائيل على قطاع غزة أحدث هذه التحديات.

ففي ظل تعاظم التعاطف الشعبي العالمي مع الفلسطينيين، وانتشار مظاهره بشكل واسع وغير مسبوق في الصين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي مظاهرات محدودة في ظل سياسة الصين الداخلية الحساسة تجاه المظاهرات الشعبية، يجد صناع القرار في بكين أنفسهم أمام تحد للمحافظة على موقف متوازن بين ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق المدنيين في قطاع غزة، وبين موقف الفلسطينيين في القطاع.

ويشكل الموقف الأميركي بتقديم الدعم الكامل لإسرائيل ومنحها الغطاء في حربها، عاملا مؤثرا على الموقف الصيني الذي يراعي عدم الانسجام مع المواقف الأميركية.

في نفس الوقت، فإن العلاقات الصينية الإسرائيلية ذات الأبعاد الاقتصادية وحرص الصين على سياسة خارجية تسمح لها في لعب أدوار في حل النزاعات الدولية كجهد منافس لواشنطن، كل ذلك قد يحد من فرصة أن تتخذ الصين موقفا ناقدا للسلوك الإسرائيلي وأكثر ميلا للموقف الفلسطيني.


الحياد الصعب

ومع ذلك، بدت ردة الفعل الصينية الأولية على المواجهة التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تنتمي لفلسفة التوازن. إذ تجنب المسؤولون الصينيون توجيه نقد مباشر لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أو إدانتها على غرار الموقف الغربي.

واستبدلوا ذلك بعبارات "ضبط النفس لدى الجانبين" والتأكيد على "حل الدولتين" كبديل لحل الصراع. الأمر الذي يتفق مع سياسة "عدم التدخل" التي تنتهجها بكين منذ فترة طويلة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ومع توجهها الإستراتيجي الأساسي في التعامل مع المنطقة.

وقد حملت المواقف الصينية وتصريحات المسؤولين قدرا من "تصعيد اللهجة" حيال سلوك إسرائيل، فانتقدت بكين القصف الإسرائيلي الشامل للمدنيين وأدانت انتهاكات القانون الدولي، وطالبت بتنفيذ حل الدولتين والدعوة إلى إنشاء ممر إنساني للسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر. وذهب وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أبعد من ذلك، واصفا القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة بأنه تصرفات "تتجاوز نطاق الدفاع عن النفس".

إلا أن تصريحات أخرى له بشأن "حق الدول في الدفاع عن نفسها" قد يُفهم منها استجابة جزئية للضغوط الدولية لموازنة التصريحات الرسمية الصينية الأخرى التي يظهر منها تعاطفا مع الفلسطينيين وحرصا على إدامة حالة التوازن في الموقف.

ويشير موقف الصين في استخدام حق النقض (الفتيو) في مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات أميركية بشأن الحرب على غزة، لحرص الصين على التمسك بنهجها بعدم الانحياز والتباين مع الموقف الأميركي.

غير أن ملامح احتجاج "إسرائيلي" على الموقف الصيني بدأت بالظهور، حيث أدى موقف "الحياد الصيني المناهض للغرب" إلى قيام إسرائيل بالانتقام دبلوماسيا عبر الانضمام إلى المملكة المتحدة و50 دولة أخرى في الأمم المتحدة لإدانة سياسات الصين ضد الإيغور في شنغيانغ، قائلة إنها تشكل "جرائم دولية، ولا سيما جرائم ضد الإنسانية".


تطور الموقف الصيني

يؤثر في مسار تطور الموقف الصيني عدة عوامل، أهمها احتمالية اتساع المواجهة في قطاع غزة لتصبح مواجهة إقليمية تدخل في أطراف جديدة للصراع أبرزها حلفاء إيران، مما سيضفي على الصراع أبعادا جديدة تتجاوز المواجهة في القطاع، ويدخلها لحسابات جيوسياسية جديدة تعمق حالة الاستقطاب الدولي حيال المواجهة الحالية.

وفي هذه الحالة سيدخل لحسابات الصين علاقاتها مع إيران والدول العربية التي تربطها بهم علاقات تجارية واقتصادية كبيرة، إضافة لاتفاقات شراكة إستراتيجية حديثة التوقيع. كما أن تعاظم الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين على النحو الحاصل حاليا -والذي سيضغط على الموقف الغربي والأميركي على وجه الخصوص- قد يجد استجابة مختلفة للسياسة الخارجية الصينية التي قد تجد في ذلك فرصة لتسجيل النقاط الدبلوماسية في مواجهة الموقف الأميركي.

الحال ينطبق كذلك على تنامي المواقف الدولية في دول "الجنوب العالمي" في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا في رفض الجرائم الإسرائيلية التي تتجاوز حد المعقول، بالإضافة للتآكل الذي قد يبدأ في الظهور في المواقف الأوروبية مع إطالة أمد الحرب الإسرائيلية وزيادة وحشيتها.

ويبقى تصاعد الخلاف الأميركي الصيني في قضية تايوان والصراع في أوكرانيا فرصة لبكين لتوظيف الموقف الأميركي المنحاز بشدة للعدوان الإسرائيلي، لممارسة ضغط في جانب آخر من تلك القضايا في السعي لتوازن الضغط مع واشنطن.

ويبقى حرص الصين على تصدير صورة قيادة التوجهات العالمية المناهضة للسياسة الأميركية وخاصة في دول الجنوب العالمي عاملا قد يدفعها لإظهار مزيد من التعاطف مع الفلسطينيين، الذين يصور نضالهم بشكل واسع في دول "الجنوب العالمي" كونه نضال ضد الاستعمار وسياسات العنصرية.

وفي حال استطاعت قوة إقليمية مساندة للفلسطينيين كإيران وبدرجة أقل تركيا وبعض الدول العربية، تشكيل جبهة مناهضة للدعم الأميركي لإسرائيل في حربها على غزة، قد تستغل الصين ذلك لتطوير موقف جديد أكثر انسجاما مع المواقف المساندة للفلسطينيين.

وقد تجد بكين في ذلك فائدة في حشد الدعم للمواقف الصينية بشأن القضايا الأساسية مثل شنغيانغ وتايوان، ودعم رؤية الصين للحوكمة العالمية، المنصوص عليها في مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، وغيرها من المبادرات الصينية لنظام عالمي جديد ومتعدد القطبية.

رؤية أوسع للمواجهة

تنظر الصين للمواجهة في غزة من زاوية تنافسها مع الولايات المتحدة. حيث تسعى الأخيرة، ومنذ قدوم إدارة الرئيس جو بايدن، إلى خفض التصعيد في منطقة الشرق الأوسط لحشد الجهود الدولية للتركيز على الصراع في أوكرانيا والذي تهدف واشنطن عبره لإضعاف حليف بكين في موسكو. إضافة إلى تركيز جهودها على المواجهة المحمومة التي تخوضها مع واشنطن في المحيطين الهادي والهندي.

ومن المحتمل أن ترى الصين أن الصراع في الشرق الأوسط -وقد تكون المواجهة في قطاع غزة شرارته الأولى- عامل قد يدفع الولايات المتحدة للانشغال في أتون صراعات المنطقة المعقدة، التي لا تجد واشنطن بدا من التدخل فيها، خاصة في ظل انخراط حليفها الرئيسي إسرائيل بشكل مباشر فيها. وبلا شك ستكون بكين أكثر اطمئنانا برؤية واشنطن تنجر مرة أخرى إلى الصراع في المنطقة.

ويعتقد الخبراء الصينيون أنه كلما زادت المسارح الإستراتيجية غير الشرق آسيوية التي تتطلب اهتمام واشنطن، كسبت الصين المزيد من الوقت والمساحة لتأكيد هيمنتها الإستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الموقف الأمیرکی الموقف الصینی الشرق الأوسط موقف الصین الصراع فی قطاع غزة

إقرأ أيضاً:

الصين والدول العربية في السراء والضراء

 

 

تشو شيوان **

أحداث مُهمة شهدتها العاصمة الصينية بكين خلال الأيام الماضية؛ حيث أفتتح المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني العربي يوم الخميس، وقد لقيت هذه الدورة اهتمامًا بالغًا من قبل المحللين والسياسيين وأصحاب الرأي ووسائل الإعلام لما تحمله هذه الدورة من تطورات بالغة الأهمية على صعيد الأجندة وحجم التمثيل والمشاركة؛ حيث شهدت هذه الدورة حضور 4 رؤساء من الدول العربية وهم؛ العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس التونسي قيس سعيد، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رغم أن المؤتمر على مستوى الوزراء، لكن لأهمية وإيمان جميع الأطراف بوجوب زيادة التعاون بين الدول العربية والصين كان لا بُد من استغلال هذه الفرصة للمضي قدمًا نحو عقد جديد من العلاقات الصينية العربية.

من أهم مخرجات المنتدى إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الدورة الثانية من "القمة الصينية العربية" ستنعقد في الصين عام 2026، بعد تحقيق النتائج الأولية التي توصلت إليها خلال الدورة الأولى من القمة الصينية العربية في الرياض عام 2022، خصوصًا وأن الوقت الراهن قد دخل العالم فترة جديدة من الاضطراب والتغير، وتحدث تغيرات جديدة وعميقة في منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل الوضع الجديد فإنَّ التعاون العملي بين الصين والدول العربية له أهمية إيجابية للمنطقة والعالم، واستمرار عقد منتدى التعاون العربي الصيني والقمة العربية الصينية.

لقد أعلنت الصين بناء "المعادلات الخمس للتعاون"، بغية تسريع وتيرة بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك، وبالإضافة إلى التعاون في المجالات التقليدية مثل الطاقة والبنية التحتية والتجارة الاقتصادية، تم توسيع التعاون إلى مجالات الصناعات الناشئة، ومن أهمها معادلة أكثر حيوية للتعاون المدفوع بالابتكار؛ حيث تتعاون الصين مع الدول العربية في بناء 10 مختبرات مشتركة في مجالات الحياة والصحة والذكاء الاصطناعي والتنمية الخضراء والمنخفضة الكربون والزراعة الحديثة والمعلومات الفضائية، وذلك من أجل تعميق التعاون العملي في التطور المبتكر في مجالات التكنولوجيا العملية العالية.

كما إن الصين تسعى إلى معادلة أكثر توازنًا للتعاون الاقتصادي والتجاري المتبادل المنفعة، حيث تعمل مع الدول العربية على تنفيذ مشاريع التعاون الإنمائي التي تبلغ قيمتها 3 مليارات يوان صيني؛ وعلى تسريع وتيرة المفاوضات مع الدول العربية حول اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية، وتعزيز بناء آلية الحوار للتعاون في التجارة الإلكترونية، إضافة إلى زيادة استيراد المنتجات غير الطاقة وخاصة المنتجات الزراعية والغذائية من الدول العربية، وذلك من أجل تحقيق التكامل والتوازن بين الجانبين الصيني والعربي.

إضافة إلى معادلة أوسع أبعادًا للتواصل الثقافي والشعبي؛ حيث تحرص الصين على إنشاء "المركز الصيني العربي لمبادرة الحضارة العالمية"، وزيادة الحجم والتأثير لمركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية، وتسريع وتيرة بناء منصات مثل "الرابطة الصينية العربية للمؤسسات الفكرية"، و"منتدى تنمية الشباب الصيني العربي"، و"الرابطة الصينية العربية للجامعات"، و"مركز الدراسات الصيني العربي للتعاون الثقافي والسياحي". وتدعو الصين 200 مسؤول من الأحزاب السياسية العربية لزيارة الصين كل عام، وتبذل جهودًا مع الجانب العربي في وصول العدد الإجمالي للسياح المتجهين إلى الطرف الآخر في غضون السنوات الخمس المقبلة إلى 10 ملايين سائح.

وأخيرًا.. أصدرت الصين والدول العربية بيانًا مشتركًا بشأن القضية الفلسطينية الإسرائيلية؛ حيث أعربت الصين عن دعمها لإقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ودعم حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ودعم عقد مؤتمر سلام دولي بمشاركة أوسع ومصداقية أكثر وفاعلية أكبر. كما أعلن الرئيس شي عن تقديم مساعدة إضافية بقيمة 500 مليون يوان صيني، إضافة إلى المساعدات الإنسانية العاجلة التي تم الإعلان عنها سابقًا بقيمة 100 مليون يوان صيني؛ بهدف دعم تخفيف الأزمة الإنسانية وإعادة الإعمار في قطاع غزة؛ والتبرع بـ3 ملايين دولار أمريكي لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"؛ بهدف دعم الوكالة لتقديم مساعدات إنسانية عاجلة إلى قطاع غزة.

ومن هنا يمكننا القول إنَّ التعاون بين الصين والدول العربية قد أصبح نموذجًا للتعاون بين الدول النامية، والتعاون بين الجانبين في كافة المجالات والمستويات، ونثق بأن هناك مستقبلًا مُشرقًا للصين والدول العربية، وتقديم المساهمات أكثر في حفظ السلام والتنمية والاستقرار في العالم.

** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الصين والدول العربية في السراء والضراء
  • الصين تعرض صورا فريدة للجانب الآخر من القمر
  • قمة صينية مع الزعماء العرب.. ماذا تريد بكين؟
  • الإمارات والصين.. تعاون ثري بين ثقافتين
  • صحيفة صينية: «أبوظبي الدولي للكتاب» الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط
  • وزير الخارجية التركي يزور الصين في 3 يونيو
  • الصين وتونس تقيمان شراكة استراتيجية
  • فلسطين تشيد ببيان الصين والدول العربية حول القضية
  • أحداث الشرق الأوسط وأوكرانيا وتايوان في صلب محادثات وزيري الدفاع الصيني والأمريكي
  • لإجراء محادثات.. مسؤول صيني كبير في واشنطن