في ظل دعمه القوي لإسرائيل في حربها المتواصلة منذ أكثر من شهر ضد قطاع غزة؛ ما أودى بحياة آلاف المدنيين، سيواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن تحديات لإقناع الفلسطينيين بحل سياسي للصراع بعد أن تنتهي الحرب، بحسب وكالة "أسوشيتدبرس" الأمريكية.

الوكالة قالت، في تقرير ترجمه "الخليج الجديد"، إنه "مع تزايد إدانة الصراع في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى تأجيج المشاعر المعادية لإسرائيل، يواجه بايدن أيضا حدود قدرة الولايات المتحدة على توجيه النتيجة، ليس فقط فيما يتعلق بالحرب، بل بما سيأتي بعد ذلك".

وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطلقت حركة "حماس" هجوم "طوفان الأقصى" ضد مستوطنات محيط غزة؛ ردا على اعتداءات الاحتلال اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى في مدينة القدس الشرقية المحتلة.

ولليوم الـ38، يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي الإثنين حربا مدمرة على غزة، خلّفت 11 ألفا و180 قتيلا، بينهم 4 آلاف و609 أطفال و3 آلاف و100 امرأة، بالإضافة إلى أكثر من 28 ألف جريح، وفقا لمصادر رسمية فلسطينية.

فيما قتلت "حماس" 1200 إسرائيلي وأسرت نحو 242 آخرين، بينهم عسكريون برتب رفيعة، ترغب في مبادلتهم مع أكثر من 7 آلاف أسير فلسطيني، بينهم أطفال ونساء، في سجون الاحتلال.

وتابعت الوكالة: "حتى لو نجحت إسرائيل في شل حركة حماس أو القضاء عليها، فسيكون هناك أيضا تحول في واشنطن (...) ومع ذلك فإن الطريق إلى الأمام غير مؤكد، في أفضل تقدير".

وقال شبلي تلحمي، أستاذ برنامج أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة ميريلاند الأمريكية، إنه "قد تكون هناك فترة ممتدة من العنف على نطاق مختلف لعدة أشهر أو سنوات قادمة".

واستدرك: "لكن إذا كان هناك شيء ممكن (لحل الصراع)، فلا يمكنهم وضع خطة على الطاولة.. عليهم أن يتخذوا مواقف أمريكية جديدة خاصة بهم تكون تحويلية ومختلفة".

تلحمي أردف أنه "بعد دعمه القوي لإسرائيل، سيحتاج بايدن إلى اتخاذ خطوات دراماتيكية بنفس القدر لضمان قبول الفلسطينيين للتوصل إلى حل سياسي للصراع، بدءا بكبح جماح المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي يعتبرها الفلسطينيون انتهاكا".

وعلى نطاق واسع، يقول الفلسطينيون إن الولايات المتحدة منحازة تماما لإسرائيل وليست وسيطا موثوقا ولا نزيها لإحلال السلام.

ومنذ 2014، توقفت مفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لأسباب منها تمسك تل أبيب باستمرار البناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة ورفضها إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.

اقرأ أيضاً

ضغط أمريكي لتجنب الحرب بين إسرائيل وحزب الله.. وجيش الاحتلال يقدر ألا مفر منها

مستقبل غزة

و"في الأسابيع الأخيرة، أجرى المسؤولون الأمريكيون مناقشات مع الحلفاء حول حكم ما بعد حماس في غزة، وأحيوا الحديث عن العمل نحو حل الدولتين (فلسطينية وإسرائيلية)"، كما أضافت الوكالة.

ولفتت إلى أن "بايدن عبَّر الأحد لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، عن ذلك بقوله: دولة فلسطينية مستقبلية يستطيع فيها الإسرائيليون والفلسطينيون العيش جنبا إلى جنب مع قدر متساوٍ من الاستقرار والكرامة".

الوكالة استدركت: "لكن لم يتم إحراز تقدم يذكر في كيفية تحقيق ذلك، وقد أصبح البعض في إدارة بايدن قلقين بشكل متزايد من أن ارتفاع عدد القتلى في غزة سيجعل هذا الهدف أكثر صعوبة".

ودعا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مؤخرا إلى العودة إلى الحكم الفلسطيني الموحد للضفة الغربية وغزة في ظل السلطة الفلسطينية.

وهذه السلطة المعترف بها دوليا فقدت السيطرة على غزة لصالح "حماس" في عام 2007، وينظر سكان غزة إلى السلطة الفلسطينية بعين الشك لتعاونها مع إسرائيل، وفقا للوكالة.

اقرأ أيضاً

حرب غزة.. أمريكا تخسر في اختبار توازن المصالح بين العرب وإسرائيل

على ظهر دبابة

الوكالة قالت إن مستشار الأمن القومي لبايدن، جيك سوليفان، ذهب الأحد إلى أبعد من ذلك، حيث وضع رؤية "لا تحظى حتى الآن بدعم من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة".

ودعا سوليفان، في مقابلة على شبكة "سي بي إس" الأمريكية، إلى مسار يشمل "عدم إعادة احتلال غزة (من جانب إسرائيل) وعدم التهجير القسري للشعب الفلسطيني وعدم استخدام غزة كقاعدة للإرهاب وعدم تقليص أراضيها".

ورفضت السلطة الفلسطينية العودة لحكم غزة بهذه الطريقة. وقال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في تصريح متلفز مؤخرا: "لن نذهب إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية".

وبحسب ناثان براون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، فإن "السلطة الفلسطينية تقول إنها لا تريد تولي المهمة التي تدفع بها إدارة بايدن ما لم تحصل على نوع من الالتزام الحقيقي بمبادرة دبلوماسية كبرى تؤدي إلى نتيجة الدولتين".

اقرأ أيضاً

مودرن دبلوماسي: إنهاء الحرب في غزة يتطلب رجالا ذوي رؤية وليس نتنياهو وبايدن

سيطرة إسرائيلية

وبالإضافة إلى انقساسات داخل كل من الحزب الديمقراطي (حزب الرئيس) والكونجرس الأمريكيين، بشأن سياسات بايدن، "توجد أيضا علامات واضحة على انقسام بين المواقف الأمريكية والإسرائيلية بشأن نهاية الحرب"، كما زادت الوكالة.

ولفتت إلى إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية على غزة على المدى الطويل- وهو الموقف الذي رفضه البيت الأبيض- واستبعد بدائل مثل قوة مراقبة دولية.

وفي مقابلة مع قناة "سي إن إن" الامريكية، بدا أن نتنياهو يستبعد إعادة غزة إلى السلطة الفلسطينية، قائلا إن أي جماعة تتولى السلطة يجب أن "تنزع السلاح والتطرف من غزة".

ومنذ اندلاع الحرب، تقطع إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ أن فازت "حماس" بالانتخابات التشريعية في 2006.

اقرأ أيضاً

مودرن دبلوماسي: إنهاء الحرب في غزة يتطلب رجالا ذوي رؤية وليس نتنياهو وبايدن

المصدر | أسوشيتدبرس- ترجمة وتحرير الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: بايدن إسرائيل حماس غزة حرب دعم حل سياسي السلطة الفلسطینیة اقرأ أیضا فی غزة

إقرأ أيضاً:

السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة

منتدى الاعلام السوداني: صحيفة سودانايل

تقرير: أمجد شرف الدين المكي

المقدّمة:

في لحظةٍ مفصلية من تاريخ السودان المعاصر، يتوارى “المركز” السياسي للدولة خلف مشهدٍ دمويّ تتنازعه جبهات مسلحة وسلطات متنافرة، فيما تترنّح المؤسسات السيادية تحت وطأة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتغيب الدولة بوصفها كيانًا موحِّدًا. هذا التفكك المتسارع لمظاهر السلطة المركزية لا يعكس مجرد انهيار ظرفي في الحكم، بل يُنبئ بتحوُّلٍ هيكليّ يطال طبيعة الدولة نفسها. فالسودان، في امتداد نزاعاته الراهنة، يبدو وقد دخل طورًا من “اللا-مركزية القسرية”، حيث بات الحكم موزعًا بين قوى عسكرية، وحركات مسلحة، وزعامات قبلية، وإدارات مدنية محلية—كلٌّ منها يدّعي شرعية أمر واقع تغذّيها الجغرافيا والسلاح والفراغ.

يتجاوز هذا المشهد حدود التوصيف الأمني أو السياسي العابر، ليطرح تساؤلاً وجوديًا: هل ما نشهده هو إنزلاق نحو “الصوملة”، أي نحو نمط من الدولة المفككة التي تتقاسمها سلطات محلية وأمراء حرب؟ أم أن السودان، رغم هذا التشرذم الظاهر، لا يزال يحتفظ بفرصٍ لإعادة بناء مركز سيادي موحّد، حتى وإن كان ذلك عبر صيغ جديدة من الحكم اللامركزي أو التوافقي؟

تحاول هذه القراءة التحليلية تتبّع ديناميات تعدد السلطات في السودان، في سياق تفكك الدولة المركزية وتلاشي إحتكارها للعنف والقرار، مُسلّطة الضوء على النماذج البديلة للحكم الناشئة في غياب الدولة، وعلى التبعات البنيوية لذلك على وحدة البلاد، ووظائف الدولة، ومعنى السيادة ذاته.

من العاصمة (المركز) إلى الأطراف (الهامش): كيف توزّعت السُّلطة في السودان؟

منذ اندلاع الحرب في 15 /أبريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، شهدت العاصمة الخرطوم انهيارًا غير مسبوق في بنيتها الإدارية والعسكرية والمدنية، إذ سرعان ما تحوّلت إلى مسرح للقتال المباشر، ومن ثم إلى مدينة مهجورة تسودها سلطة السلاح، لا سلطة الدولة. ومع تفكك المركز، تمددت مراكز قوى محلية في أنحاء السودان، لتملأ الفراغ السياسي والأمني، وتقيم سلطاتها الخاصة التي تستند إلى القوة المسلحة والشرعية القَبَلية أو الثورية أو الجهوية.

في غرب البلاد، تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من إقليم دارفور، وتُقيم أنماط حكم شِبه مستقل، حيث تفرض الضرائب علي أشكال “إتاوات” مقابل الحماية الكاذبة، ذات الإضطهاد، والتحرش والتنمر، وتدير نوعاً ما المعابر الحدودية، بل وتعيّن مسؤولين مدنيين في بعض المناطق، في صورة تُشبه إلى حدٍّ بعيد نماذج الحوكمة البديلة التي ظهرت في الصومال بعد انهيار نظام سياد بري، أو في ليبيا بعد سقوط القذافي. في شرق البلاد، تتمركز قيادة الجيش في مدينة بورتسودان، وتدير ما تبقى من وزارات الدولة والمؤسسات شبه المركزية، في وضعٍ يُعبِّر عن سلطة “منفية” تتحكّم باسم الدولة دون أن تسيطر فعليًا عليها وعلي عاصمتها.

إلى جانب هذين القطبين العسكريين، تتوزع السلطة فعليًا بين جهات أخرى، فالحركات المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسلام تحتفظ بنفوذ كبير، ولو نوعياً في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتمتلك قوات ميدانية وقيادات سياسية، بعضها يشغل مناصب، قيادية وسيادية في حكومة بورتسودان، بينما البعض الآخر يتخذ مواقف مستقلة أو متذبذبة. كذلك، شهدت بعض مناطق السودان—وخاصة في شمال وغرب البلاد—عودة لافتة لنفوذ الإدارات الأهلية والقيادات القَبَلية، التي باتت تدير الأمن والخدمات، وتحلّ النزاعات بوسائل تقليدية، في ظل غياب كامل للمؤسسات الرسمية.

وفقًا لتحليلات نشرتها دورية foreign Policy   الأميركية، فإن المشهد السوداني الحالي يمثل “تفكيكًا متدرجًا للسلطة المركزية”، يُعيد إنتاج السلطة على أسس محلية، عشائرية، وأمنية، وهو ما يعيد إلى الأذهان نماذج الدولة اللامركزية الفاشلة، التي تهيمن فيها وحدات محلية على حساب الدولة الجامعة.

تفكّك الدولة وتآكل السيادة: هل دخل السودان فعلاً مرحلة الدولة المتفككة؟ أو الصوملة؟

ليس تراجع المركز في السودان محضَ اختلالٍ إداريّ أو اضطرابٍ ظرفيّ، بل هو إنحرافٌ عميق في وظيفة الدولة نفسها، بما هي كيانٌ سياديّ يحتكر أدوات العنف، ويُنظّم الفضاء السياسي، ويضمن وحدة الأرض والسكان. ما نشهده اليوم هو تحوّلٌ تدريجيّ نحو نموذج الدولة المتفككة، حيث تُستبدل الهياكلُ الرسميّةُ بمراكزَ نفوذٍ متعدّدة، كثيرٌ منها يُعيد إنتاج السلطة بناءً على الولاء القبليّ أو الجهويّ أو وفق منطق القوّة المسلّحة.

قد يكون من المُغري، في هذا السياق، إستخدام مصطلح “الصوملة” للإشارة إلى هذا النمط من الإنهيار، لكنّ هذا التشبيه، رغم وجاهته التحليلية، قد لا يُحيط بتعقيدات الحالة السودانية. ففي حين شهدت الصومال انهيارًا مفاجئًا لنظامٍ مركزيّ، فإن السودان ينزلق في مسارٍ تدريجيّ، تغذّيه تراكمات من الانقسامات البنيوية، والنزاعات المحلية، وتعدّد الفاعلين، فضلًا عن الأدوار الإقليميّة والدوليّة المعقّدة.

وبحسب تقرير صادر عن Internation Crises Group, فإنّ السودان يواجه اليوم “واحدةً من أخطر حالات تراجع السيادة في إفريقيا المعاصرة”، حيث تتآكل سلطة الدولة المركزية، لا بفعل انهيارٍ شامل، بل نتيجةً لتوزّع أدوات السيادة على قوى غير حكوميّةٍ تُمارس أدوارًا سياديّة، تتراوح بين فرض الجباية، وإدارة الخدمات، وتنظيم الحدود، وأحيانًا التنسيق المباشر مع أطرافٍ دوليّة عبر ممرات وإشرافات إقليمية.

إنّ أخطر ما في هذا التحوّل، ليس مجرد انقسام سياسيّ أو عسكريّ، بل إعادة تعريف الدولة نفسها: من كيانٍ يحتكر السيادة، إلى فضاءٍ سلطويٍّ تتقاسمه قوى محليّة تتصرّف كأنّها دولٌ مصغّرة داخل الدولة الأم.

الدور الإقليمي والدولي: كيف ساهم الخارج في تفكيك الداخل؟

لم يكن تفكك الدولة السودانية نتاجًا لعوامل داخلية فحسب، بل لعبت التفاعلات الإقليمية والدولية دورًا بالغ التأثير في تسريع الإنهيار وتكريس منطق الحرب بديلاً عن منطق الدولة. فمنذ إندلاع النزاع الأخير، تداخلت حسابات الفاعلين الخارجيين مع مصالح الأطراف المحلية، وتحوّلت الجغرافيا السودانية إلى مسرح مفتوح لصراعات المحاور، وتنافس المصالح، والتدخلات غير المعلنة.

تأتي الإمارات العربية المتحدة في مقدّمة اللاعبين الإقليميين الذين ارتبطت أسماؤهم بالدعم المالي واللوجستي لقوات الدعم السريع، وذلك في سياق إستراتيجيتها الإقليمية التي تعتمد على دعم الوكلاء المحليين لتعزيز النفوذ في مناطق حيوية مثل البحر الأحمر، وإمتداده الإفريقي. وفي المقابل، تحاول مصر الحفاظ على الجيش السوداني كحليف إستراتيجي تقليدي، إنطلاقًا من إعتبارات الأمن المائي في ملف سد النهضة، ومنظورها الأمني المتوجس من احتمالات تمدد قوى غير نظامية على حدودها الجنوبية.

أما روسيا، فتبرز من خلال علاقتها شبه المعلنة مع مجموعة “فاغنر”، التي نشطت في السودان منذ سنوات عبر بوابة الذهب والدعم الأمني، وكرّست نمطًا من الشراكة الرمادية مع الفاعلين غير الرسميين. وقد وثّقت تقارير BBC وReuters، بالإضافة إلى نشرات أكاديمية صادرة عن Chatham House وCarnegie Middle East Center، حجم النفوذ الروسي المتنامي، لا سيما في دارفور، عبر شبكات تهريب الذهب وتمويل الصراعات المحلية.

وفي مقابل هذه المحاور المتنافسة، بدت المنظمات الدولية والمؤسسات الأممية عاجزة عن صياغة مقاربة سياسية أو إنسانية فعالة، حيث فشلت مبادرات مثل “مباحثات جدة” في تثبيت أي وقف دائم لإطلاق النار، فيما إنحسر الدور الأممي في البيانات التحذيرية دون أدوات فعلية للتدخل أو الردع، في ظل انقسام مجلس الأمن، وتراجع أولويات السودان في أجندة القوى الكبرى.

تُظهِر هذه المعطيات أن تفكك الدولة في السودان لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، حيث لم يكن الخارج مجرّد متفرّج، بل كان – بدرجات متفاوتة – شريكًا في إنتاج الهشاشة، وتعزيز الانقسام، وتأطير السلطة خارج نطاق الدولة المركزية.

مستقبل الدولة في السودان: هل من أفقٍ لإعادة البناء؟

في خضمّ الانهيار المتعدّد المستويات، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا بإلحاح:   هل يمكن إحياء الدولة السودانية ككيان موحِّد؟ أم أنّ البلاد قد دخلت طورًا لا رجعة فيه من التفتت السياسي والمناطقي، تُعاد فيه هندسة السلطة على أساس مراكز قوى محلية، تحكمها شبكات المصالح، ومنطق السيطرة لا منطق الشرعية؟

من الناحية النظرية، يُتيح تاريخ الدولة السودانية- رغم تعقيداته- مجالًا للتعافي وإعادة البناء، خصوصًا في ظل ما يُعرف بـ”النُظُم ما بعد الصراع” (Post-Conflict State Formation)، التي تشهد فيها الدول المفككة عودةً تدريجية للمركز عبر ترتيبات تفاوضية أو إقليمية تُعيد إنتاج الدولة بشكل مغاير. لكنّ هذه الإمكانية مشروطة بعدة عوامل:

أولًا: وقف الحرب بشكل شامل ودائم، وهو شرطٌ لا يزال بعيد المنال، في ظل غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتصارعة، وتحوّل الاقتصاد السياسي للحرب إلى موردٍ للسلطة والنفوذ.

ثانيًا: إرادة وطنية جامعة تتجاوز منطق الغلبة والانتصار العسكري، وتتأسّس على مبدأ إعادة تعريف الدولة لا بإعتبارها غنيمة أو أداة للهيمنة، بل كعقد اجتماعي يضمن مشاركة عادلة في السلطة والثروة.

ثالثًا: ضمانات إقليمية ودولية جدّية، لا تقتصر على دعم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، بل تنخرط في هندسة حلّ سياسي قائم على الشرعية، والمساءلة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، بعيدًا عن محاور الاصطفاف التي عمّقت الأزمة.

بحسب ورقة صادرة عن The United States Institute of Peace، فإن السودان بحاجة إلى “عملية سياسية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش، وتضع أسسًا جديدة للحكم المحليّ، دون أن تُكرّس الإنفصال أو تنسف وحدة الدولة”.

لكن يبقى التحدّي الأكبر في السودان متمثّلًا في غياب الفاعل الوطني الجامع. فالمشهد السياسي بعد الثورة، ثم الإنقلاب، ثم الحرب، أفرز قوى متصارعة ومُشتَّتة، تُنافس بعضها على الشرعية وتفتقر إلى رؤية استراتيجية متكاملة للدولة القادمة.

إنّ مستقبل الدولة في السودان لن يُحدّده ميزان القوى العسكري فقط، بل أيضًا قدرة السودانيين، بمختلف مكوّناتهم، على تجاوز منطق “السلطة كإمتياز” إلى “الدولة كمشروع مشترك”. وهذا التحوّل، وإن بدا بعيدًا، يظلّ شرطًا لبقاء السودان كدولة لا كجغرافيا فقط.

آنياً ومن منحى آخر- وفي تطوّر دراماتيكي يُعيد رسم ملامح النزاع في السودان، شهدت مدينة بورتسودان- العاصمة الإدارية المؤقتة ومقر الحكومة المعترف بها دوليًّا- ضربات بطائرات مسيّرة استهدفت منشآت حيوية ومقار سيادية.

هذه الهجمات، التي لم تكن معروفة على هذا النطاق في شرق البلاد من قبل، مثّلت نقطة تحوّل نوعي في سير المعركة، وأظهرت اتساع رقعة الإستهداف وتقدّم قدرات الطرف الآخر، مما قوّض إفتراضات “الملاذ الآمن” في الشرق، وزاد من هشاشة السلطة المركزية هناك.

لكن اللافت أكثر من الهجوم ذاته، هو صمت القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، أو ما يشبه “اللا ردّ” المنظّم. رأى بعض المحللين- كما أشارت تحليلات منشورة في Middle East Eye وAl Jazeera Centre for Studies- أن هذا الصمت ليس غفلةً ولا حيادًا، بل جزءٌ من استراتيجية غير معلنة للضغط على المؤسسة العسكرية السودانية، لدفعها نحو التفاوض بعد تمسّكها بخيار الحسم العسكري ورفضها لأي حلول سياسية شاملة. فبورتسودان، رغم كونها المقر الرسمي للحكومة، لم تحظَ بأي حزام حماية سياسي أو دعم علني من حلفائها الإقليميين، وهو ما يُقرأ كتلميح ضمني: إمّا التسوية أو المزيد من التعرّي الاستراتيجي.

لكنّ هذه المعادلة- التي تُبنى على توازنات قوى ومصالح إقليمية-تتجاهل الثمن الباهظ الذي يدفعه المواطن السوداني. فبينما تتحرّك المسيرات في السماء لتبدّل موازين القوى، تزداد على الأرض مآسي النازحين واللاجئين والمشردين، الذين طُردوا من ديارهم وأُجبروا على عبور الحدود، أو الاحتماء بمناطق لا تتوفّر فيها أدنى مقومات الحياة. هؤلاء هم الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع، لا صوت لهم في المؤتمرات ولا حضور في غرف التفاوض، ومع ذلك فهم من يدفع الكلفة الكاملة.

خاتمة بين سؤال الدولة وسؤال النجاة

إنّ ما يشهده السودان اليوم لا يمكن إختزاله في حربٍ بين طرفين مسلحين، ولا حتى في صراعٍ على السلطة؛ بل هو أزمة بنيوية عميقة تطال فكرة الدولة نفسها: كيف تُبنى؟ ولمن تُبنى؟ ومن يملك الحق في تمثيلها، وصياغة معالمها، وحماية حدودها الداخلية والخارجية؟ فغياب المركز، وتعدّد السلطات، وتآكل السيادة، وتداخل الفاعلين المحليين، الإقليمميين والدوليين، كلّها ليست أعراضًا عابرة، بل مؤشرات على تحوّلٍ عميق في البنية السياسية السودانية، يهدد وجود الدولة كإطار ناظم للمجتمع.

في هذا السياق، لا تكفي الحلول التقليدية، ولا تنفع التسويات الشكلية، ما لم تُصاحبها رؤية وطنية تُعيد تعريف الدولة لا باعتبارها مركزًا يُخضع الأطراف، بل فضاءً تشاركيًّا يُعبّر عن التعدّد ولا يقمعه. السودان في حاجة إلى ما هو أكثر من وقف إطلاق نار، هو في حاجة إلى مصالحة مع نفسه، ومع تاريخه، ومع هامشه، ومع مواطنيه الذين صارت الدولة بالنسبة إليهم إما سلاحًا في وجوههم، أو ظلًّا بعيدًا لا يقي حرًّا ولا بردًا.

وإذا كانت الطائرات المسيّرة قد وصلت إلى بورتسودان، فذلك لا يُنبئ فقط بامتداد النيران إلى ما تبقّى من المركز، بل يُعيد طرح السؤال الأهم: هل ستبقى الدولة في السودان ككيان؟ أم سنُعيد تعريفها بوصفها جغرافيا متنازعة تحت إدارة سلطات متعددة، تحكم ولا تُمثّل، وتُسيطر ولا تُوحِّد؟

في الإجابة على هذا السؤال يتحدد مستقبل السودان، لا فقط كجمهورية، بل كفكرةٍ قابلة للاستمرار، أو ككِيانٍ يُعاد رسمه من الخارج، وباسم الداخل، في غياب صوت الداخل الحقيقي: الموطن والمواطن!

الوسومالإمارات الجيش الحرب الدعم السريع السودان الصوملة روسيا

مقالات مشابهة

  • «أميركا أولاً» تشمل إسرائيل أيضاً
  • الشيخ نعيم قاسم: “إسرائيل” فشلت في كسر المقاومة وستُهزم سياسيًا كما هُزمت عسكريًا
  • السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة
  • إسرائيل تقصف مدرسة بنات بغزة بعد ساعات من وصف ترامب الحرب بـالوحشية
  • قائد عسكري إسرائيلي سابق: نتنياهو يقودنا لحرب بلا نهاية
  • إسرائيل تؤيد خطة ترامب للمساعدات في غزة وتحذر من "حرب للأبد"
  • حماس: يجب رفع كلمة لا لحرب التجويع بوجه نتنياهو
  • سفير أمريكا في إسرائيل يدعم تهجير الفلسطينيين من غزة ويلوم حماس
  • محللون: تصعيد المقاومة الأخير محاولة لإقناع ترامب بعدم جدوى الحرب
  • باحث سياسي: طرح توزيع إسرائيل لمساعدات غزة أمر عبثي