حين يتأمل الساسة في الغرب الخريطة العربية والإسلامية، كما يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتّاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، يدركون أنهم أمام "قوة متحققة" أو "قوة ممكنة" تستدعي القلق والحذر.

تلك القوة الحضارية الكامنة هي ما يسعى المشروع الاستعماري إلى تفكيكه سياسيًّا وتخديره ثقافيًّا، حتى يغدو الوجود العربي غافلًا عن نفسه، ذاهلًا عن وعيه.

من هذا الوعي المهدد، ينطلق كتاب قاموس المقاومة ليعيد للعقل العربي قدرته على تسمية الأشياء بأسمائها، واستعادة المعاني التي نُهبت كما نُهبت الأرض.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الكلمات المتوحشة.. الفاشية المتفجّرة على لسان نتنياهوlist 2 of 2قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهرend of list

الكتاب الصادر حديثًا للدكتور سيف الدين عبد الفتّاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، هو محاولة علمية جادة لتصنيف مفاهيم المقاومة ضمن منظومات فكرية ومعرفية متكاملة، تربط بين المفهوم والفعل، وتضع اللغة في صدارة معركة التحرر. فهو لا يكتفي ببلورة المفاهيم المحفِّزة للأمة، بل يتناول أيضًا تلك المفاهيم السامة التي تسللت إلى الوعي الجمعي لتصبح أدوات "تسميم سياسي" تسعى إلى شلّ إرادة الأمة وإعادة تشكيل وعيها وفق منظومات الهيمنة الحديثة.

كتاب "قاموس المقاومة" لأستاذ النظرية السياسية سيف الدين عبد الفتاح (الجزيرة)مشروع فكري ممتد

يقع هذا العمل في قلب المشروع الفكري الكبير للدكتور سيف الدين عبد الفتّاح، الذي يقوم على ثلاثة أعمدة: الفكر المقاصدي، وفلسفة العمران الحضاري، وفكر المقاومة والتحرير. عبر هذه الأعمدة بنى المؤلف منظومة معرفية تستحضر تراث الأمة وتجعل منه منطلقًا للحاضر والمستقبل.

فلطالما عُرف ببحوثه العميقة في مقاصد الشريعة وتجديد النظر فيها، ثم بقراءاته المعمّقة في فكر العمران الخلدوني وقضايا النهوض الحضاري، وبتفاعله الخلّاق مع مفكّرين كبار أمثال محمد عبده، ومالك بن نبي، وحامد ربيع، وعبد الوهاب المسيري، وطارق البشري.

إعلان

ويمثّل قاموس المقاومة امتدادًا نوعيًّا لمشروعه البحثي؛ إذ يقدّم الإطار المفهومي الذي تتساند عليه أعماله السابقة، ويوسّع من أفقها ليواكب المرحلة التاريخية الراهنة حيث تتقاطع المفاهيم بالمعارك، وتتقدم اللغة إلى صدارة الاشتباك الحضاري.

أما المؤلف فهو أحد أبرز المفكرين العرب في النظرية السياسية والفكر الحضاري؛ شغل عددًا من المناصب البحثية وأشرف على مشروعات علمية متنوعة من أبرزها "موسوعة المصطلحات الإسلامية"، و"موسوعة بناء المفاهيم الإسلامية". وله ما يزيد على ستين كتابًا أسسها جميعًا ضمن مشروعه الفكري الإنساني الذي أسماه "وقف القلم"، إيمانًا منه بأن المعرفة فعل عبادة ومقاومة معًا.

يرى الأستاذ الدكتور عبد الفتّاح أن المفاهيم ليست محايدة، بل هي بنية من بنى الوعي وركيزة من ركائز الإدراك. فصناعة المفهوم صناعة للوعي ذاته، والتلاعب بالمفاهيم سبيلٌ لتزييف الوعي وإنتاج الاستلاب.

وفي مقاربة تحليلية غنية، يستند الكاتب إلى تجارب تحررية من العالم الثالث، حيث اختار المناضل الأفريقي في جنوب أفريقيا ومسلمو الجزائر طريقهما المستقل في بناء مفاهيمهما وأطر وعيهما بعيدًا عن معايير المستعمِر الأبيض، إدراكًا منهم أن التحرر الفكري شرطٌ للتحرر السياسي.

في هذا الإطار، يستحضر عبد الفتاح رؤية مصطفى صادق الرافعي، الذي عدّ الكلمات كالحياض وكالجيوش يجب الدفاع عنها كما يُدافع عن الأرض والعِرض، ورؤية البشير الإبراهيمي الذي دعا إلى "رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، وكشف النقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ وتستعير العقول". فأول التطبيع يكون مع الكلمات الخبيثة، حين يُنتزع معناها من سياقها ويُعاد توظيفها في خطاب الهيمنة.

كان الداعية والمفكر الجزائري البشير الإبراهيمي يدعو إلى "رفع الظلم عن الكلمات المظلومة، وكشف النقاب عن الكلمات الظالمة التي تغسل الأمخاخ وتستعير العقول"(الجزيرة)

يستند الكتاب إلى تراث فكري واسع يستلهم أعلام المدرسة الحضارية الحديثة، الذين نبهوا إلى قدرة المشروعات الاستعمارية على تحريف اللغة، وكيف تسير العبارات الملطّفة المقصودة جنبا إلى جنب مع الرغبة في السيطرة على السكان الأصليين، والاستيلاء على الأراضي والموارد، بداية من التوسع الأمريكي في “براري الغرب”، وصولا إلى الاستعمار الأوروبي للأفارقة.

ففي "فقه المكان" يحضر جمال حمدان، الذي رأى في الجغرافيا الإستراتيجية سرّ الهوية والموقع؛ وفي "فقه الزمان" يستعيد طارق البشري القدس باعتبارها وعاءً للتاريخ لا مجرد مدينة في وطن، وليست كبرلين التي يمكن استبدالها عند الألمان بعاصمة أخرى، ولا حتى إسطنبول التي تبدلت عند الأتراك بأنقرة.

كما يتوقف عند حامد ربيع، فقيه التدبير والعقل الإستراتيجي الذي يدعو إلى دراسة العدو والتعمق في دراسات الحرب النفسية، وعبد الوهاب المسيري، مفكر الالتزام الحضاري، الذي جعل من مقاومة المشروع الصهيوني فعلًا معرفيًّا وأخلاقيًّا لتفكيك النموذج الاستعماري نفسه.

والكاتب يتفحص الأشباه المتقاطعة والنظائر المشتركة بين هؤلاء المفكرين، ويحاول أن يؤلف بين تلك الرؤى في إطار يسمح بتكافل المداخل وتعدد التخصصات وتأصيل المرجعيات.

في قلب الصراع

منذ الصفحات الأولى يضع الدكتور سيف الدين عبد الفتّاح قارئه أمام حقيقة الصراع الكبرى، محدّدًا إياها بأنها حضارية، وجودية، ووظيفية في آنٍ معًا. فهي ليست نزاعًا على أرض أو حدود، بل معركة على الوعي والهوية، لا يمكن فهمها إلا في ضوء معادلة رباعية تجمع بين المكان والزمان والتدبير والالتزام. بهذا المنظور يرسم الكتاب إطارًا مرشدًا لفهم اللحظة التاريخية التي نعيشها، ويؤسس لوعيٍ بالصراع بوصفه صراعًا على الإرادة قبل أن يكون صراعًا على الجغرافيا.

إعلان

من هذه العتبة الفكرية ينفتح النص على فصوله الثمانية، كاشفًا أن الانتفاضة الفلسطينية ليست واقعة مرحلية أو حلقة عابرة من مسار الكفاح الوطني، بل ظاهرةٌ أصيلة وضرورةٌ حضارية ظهرت مع بدايات الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين.

فالمقاومة قدر الأمة ما دام فيها حياة، وما دام هناك مستعمِر يسعى لطمس وجودها. تتصاعد المقاومة حينًا، وتخمد حينًا آخر، لكنها لا تنطفئ، لأنها فعل دائم متجدد يعبر عن استمرارية الأمة وشمولية حركتها نحو التحرر.

صور من الانتفاضة الأولى التي اندلعت بين الشعب الفلسطيني وجنود جيش الاحتلال (وكالة الأنباء الفلسطينية)

وتمثل الظاهرة الانتفاضية -بحسب الكتاب- من المنظور الحضاري إحدى حلقات الثورة على انحراف وجهة التعامل مع الصراع المفروض على المنطقة، وهو صراع شامل بأبعاد عقدية وحضارية وتاريخية وجغرافية، وهذه حقيقة يقدمها خطاب القوى اليمينية التي تقود الاحتلال. ومصيرية الصراع بحسب الكتاب لم تخفت وهي جلية واضحة في تصريحات السياسيين الإسرائيليين الذين لم يتخلوا عن حلم التهجير، ومسح الخريطة من أهلها، وقد آزرتهم في ذلك توجهات غربية.

ويرى عبد الفتّاح أن الانتفاضات هي موجات متصلة من الوعي الحضاري الثائر على اختلال معادلات القوة والتاريخ، إذ تجاوزت هدفها السياسي المحدود لتصبح عملية إعادة تعريف شاملة لعلاقة الأمة بذاتها وبعالمها. فهي، كما يقول، لم تُخلق لتعديل اتفاقيات أو تصحيح حدود، بل لتصميم مسار جديد على المستويين العربي والإسلامي، أعاد الفرد العربي والمسلم إلى دائرة الفعل بعد أن حوصر طويلًا في موقع المتفرّج.

ومن هنا أحدثت الانتفاضة تحوّلًا شعبيًّا تاريخيًّا في الوعي والموقف، وأسهمت في إفشال مشاريع التطبيع، وفي إحياء مركزية القضية الفلسطينية في الضمير الجمعي العالمي والإسلامي على حدّ سواء.

وهذه المقاومة تطرح أربعة عناصر للمشروع الحضاري، تتمثل في التمرّد على الغرب الاستعماري، والتحرّر من التبعية والانكسار والهزيمة، والبحث عن نموذج حضاري بديل يرتبط بالذاكرة الحضارية، والوعي بالثقافة السائدة في الجماعة الوطنية والانخراط في إصلاحها لا الانسحاق أمامها.

شجرة المفاهيم

يعود المؤلف إلى اللغة باعتبارها جبهة من جبهات المقاومة، فيقف عند الجذر العربي قَوْم، الذي يشكل في نظره نبعًا لغويًّا وروحيًّا يجمع بين "القيام" و"الاستقامة" و"القيمة" و"القيومية". فالمقاومة، كما يبين، فعل اشتقاقي يجمع بين الحركة والاستقامة والمدافعة، ومنه تنبثق كل القيم القائمة على الفعل والموقف. يتجلّى هنا المعنى القرآني العميق الذي يربط بين "فاستقم كما أُمرت"، و"دين القيمة"، و"الدين القيم"؛ حيث يقف المقاوم قائمًا على أمر أمّته، مقيمًا في موقع الشهود الحضاري.

إن جذر "قوم" بحسب الكتاب يحرك كل قيمة وكل عمل قيم وقائم. وهنا تتجلى فوائد الاشتقاق في اللغة في أنّه يمد لغتنا العربية بنهر من الألفاظ، التي من خلالها نقوم بأخذ ألفاظ جديدة، تعبّر بعد ذلك عن معنى جديد، مما يساعد على الاستحداث والتوليد في الألفاظ، بالإضافة إلى أنه وسيلة من وسائل التنويع في الألفاظ للدلالة على المعاني المختلفة.

ومن هذا الأصل اللغويّ ينسج الكتاب شجرة مفاهيمية تربط المقاومة بجذرها الإيماني الأصيل وهو "لا إله إلا الله"، التي يراها المؤلف ثورة على كل أشكال العبودية لغير الله، وإعلانًا دائمًا لتحرير الإنسان من الخضوع للمادة أو السلطة أو الزمن. فالتوحيد هو الطاقة الدافعة الروحية للمقاومة، والجهاد هو التطبيق العملي لهذا التوحيد، والمدافعة الحضارية هي صورته المستمرة في حياة الأمة لصون الأرض والعمران من الفساد والطغيان.

فالمقاومة هي فعل "دفع" إيجابي يمنع خراب الأرض ويحميها. كما يربط الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح فعل المقاومة بالنداءات القرآنية التي تحث على الحركة والفعل، مثل "اقرأ"، "أعدوا"، "قل سيروا في الأرض فانظروا".

إعلان

هذه النداءات تشكل طاقة دافعة ورافعة تحرك الأمة نحو النهوض ومقاومة كل طغيان أو عدوان، ويشير إلى ما أكدت عليه الدكتورة منى أبو الفضل، من أن الأمة يجب أن تكون "أمة قطبًا"، أي أمة محورية شاهدة على العالمين، تتحقق فيها شروط "الخيرية" و"الوسطية".

ويشير عبد الفتّاح إلى أن المقاومة ليست دائمًا فعلَ مواجهةٍ مسلحة، بل قد تكون فعل امتناعٍ تعبّديّ، كما في المقاطعة التي يسميها "العبادة الصامتة"؛ فهي في معناها الأخلاقي شبيهة بالصيام، امتناعٌ لله عن دعم الظالم، وامتثالٌ لبناء الوعي والكرامة.

يتناول الكتاب أيضًا مفهوم "الغزو" لا بوصفه غزوًا عسكريًّا فحسب، بل ظاهرةً حضارية تتحرك بين العصور والمجالات. فالمستعمر، كما يشرح عبد الفتّاح متابعًا فكر مالك بن نبي، لا يكتفي بفرض سيطرته المادية، بل يعمل عبر "المعامل الاستعماري" على خلق إنسان قابل للاستعمار، يدافع عن القيود التي كبّلته لأنه فقد القدرة على التفكير خارج أطرها.

وهكذا تصبح "القابلية للاستعمار" مرضًا حضاريًّا يصيب الوعي قبل الأرض، كما قد تكون ناتجة عن صفات عقلية ونفسية ترسخت في أمة معينة نتيجة ظروف وصيرورة تاريخية معينة، تجعلها تفشل في القيام بفعل المقاومة، وبالتالي الشعور بالدونية اتجاه الآخر المتفوق حضاريا.

ومن ثم فإن كلمة الغزو هنا، بحسب الكتاب هي من "المفاهيم الرحالة" التي ترتحل من مجال إلى مجال، ومن حضارة إلى حضارة، ومن علم إلى علم، وهو أمر جدير بالتنويه، ويجب أن يكون موضع اهتمامنا؛ حتى نشيد أركان تلك المقاومة الحضارية الشاملة، لأن الصراع على المفهوم هو بداية الصراع على المصير.

ظاهرة التصهين والحرب النفسية

في فصلٍ بالغ الأهمية، يناقش المؤلف ظاهرة التصهين باعتبارها تجليًا لأزمة الدولة القُطرية العربية التي وُلدت مشوّشة من رحم التجزئة والتبعية. فقد انخرطت هذه الدول في "شرق أوسط" وظيفيّ مسكون بالتصهين، بديلٍ عن الفضاءين العربي والإسلامي اللذين ينتميان للوعي والضمير.

ويعتبر عبد الفتّاح أن إحلال مصطلح "الشرق الأوسط" محل "العالمين العربي والإسلامي" لم يكن إلا تمهيدًا للقبول بالكيان الصهيوني داخل الفضاء الجغرافي والثقافي للأمة.

يقرأ المؤلف طوفان الأقصى الذي انطلق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بوصفه نقطة تحوّل كبرى أعادت فتح خطوط المواجهة بين جغرافيا المقاومة وجغرافيا التطبيع، معلنًا انتهاء مرحلة هندسة "القبول" بالكيان المحتل، وبداية مرحلة استعادة الوعي الجماعيّ بالمواجهة الشاملة مع المشروع الصهيوني الغربي.

وفي إطار شجرة المفاهيم ذاتها، يقدّم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح معالجة دقيقة لمفهوم الحرب النفسية باعتبارها السلاح الأخطر في ترسانة الهيمنة الحديثة. فمع تطور أدوات السيطرة على النفس البشرية، تحولت الحرب النفسية إلى بديل عن القتال المباشر.

وبعبارة أخرى، يرى الكتاب أن الحرب النفسية لا تسعى للإقناع وإنما تهدف إلى تحطيم الإرادة، وتحطيم الثقة في الذات الجماعية أي فقدان المواطن ثقته بذاته، في مواجهته لعدو يسعى للحصول على بعض التنازلات، إن لم يتمكن من القضاء على المجتمع أو الكيان الذي ينتمي إليه الأفراد واحتوائه كليا، بما يعنيه ذلك من فرض التبعية على ذلك الكيان.

ينقل عبد الفتّاح عن المفكر حامد ربيع قوله إن هذا اللون من الغزو هو "القتال المعنوي" الذي يسعى إلى تحطيم الإرادة قبل الجسد، وإحداث انهيار في المناعة الثقافية للأمة. وقد جعل العدو الصهيوني من هذه الحرب محورًا لإستراتيجيته منذ نشأته، معتمدًا على الدعاية والتدليس وتشويه المفاهيم. ومن هنا يلحّ الكتاب على ضرورة بناء "وعي مضاد" يواجه هذا الغزو بالمفاهيم الأصيلة، ويحصّن الذات والفكر من القابلية للتطبيع والتصهين.

وما يؤكد على أهمية ذلك أن الاستهداف الإسرائيلي لم يعد يقتصر على دول الطوق بل امتد  ليشمل دولًا أخرى في محاولة لتطويق المقاومة، وبات التصهين -وهو الأخطر- حالة يصبح فيها الفرد أو النظام "يرى أن للمعتدي المحتل حقًّا في أرض فلسطين، ويبرر عدوانه على الشعب الفلسطيني"، وهو ما يؤدي إلى ما يسميه عبد الفتاح "قابليات التطبيع" التي ظهرت في  أشكال مكثفة من التعاون والتنسيق وصولا إلى توقيع العديد من الدول العربية للاتفاق المسمى "وعد أبراهام"، وهو مشروع سياسي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتمرير التطبيع، وتغيير معالم المنطقة الثقافية والدينية لصالح المشروع الصهيوني.

إعلان الجغرافيا وإعادة هيكلة المنطقة

يفتح الدكتور سيف الدين عبد الفتّاح ملف “الجغرافيا السياسية” بوصفها أحد المفاتيح الحاسمة لفهم التحولات الإستراتيجية في المنطقة. فهو يرى أن الجغرافيا في معناها الجيوإستراتيجي لم تعد علمًا محايدًا، بل أداة من أدوات إعادة الهيكلة السياسية والذهنية للعالم العربي.

يتقاطع عبد الفتاح هنا مع الباحثة في الشأن الإسرائيلي هنيدة غانم، التي رصدت في دراساتها كيف عززت إسرائيل مكانتها الإقليمية وسط تراجع أدوار الدول العربية التقليدية، مشيرة إلى أن التطبيع مع إسرائيل تجاوز مفهوم "السلام البارد" ليغدو "سلامًا دافئًا" ينفذ ببطء إلى الوعي الشعبي، فيتحول التطبيع من معاهدات سياسية إلى قبول ثقافي تلقائي.

ويُظهر عبد الفتّاح أن مفهوم "الشرق الأوسط" لم يكن توصيفًا بريئًا لمساحة جغرافية، بل أداة وظيفية أُدخل عبرها الكيان الصهيوني إلى قلب المنطقة، ليصبح جزءًا من نسيجها السياسي والاقتصادي.

هكذا يرى الكتاب أن مفهومي العالمين العربي والإسلامي يُخرجان الكيان الصهيوني من حياضهما، ولكن مفهوم الشرق الأوسط أحد المفاهيم الجغرافية القابلة لتسكين إسرائيل فيه؛ ترتع في ساحاته ومساحاته كيف شاءت، ورغم أن البعض يرى في الجغرافيا ودلالاتها أمرا محايدا؛ فإن التعاطي معها على هذا النحو قد يحمل تحيزات خطيرة وعلى رأسها مفهوم الشرق الأوسط.

ويستشهد الكاتب بكلمات بن غوريون الخطيرة، التي تكشف البعد العملي لهذه الهيمنة: "نحن شعب صغير، لكن يمكننا معالجة هذه الثغرة بمعرفة نقاط ضعف أعدائنا العرب، وخاصة العلاقات الهشة بين الأقليات والجماعات الطائفية".

هذه الكلمات، كما يوضح عبد الفتّاح، مثّلت نواة إستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد هدفها تفخيخ النسيج الاجتماعي العربي، وتحويل التعدد القومي والديني إلى محرّكات للتفكك. ومنذ الخمسينيات، شرعت إسرائيل في نسج شبكات تواصل وتحالف مع الأقليات في الدول العربية، لا سيما تلك الأقطار المحاطة بدول غير عربية مثل العراق وسوريا والسودان، لتعيد إنتاج المنطقة على أسس انقسامية وظيفية تخدم أمنها وتوسّع نفوذها.

أدوات الأمة في المقاومة

لا يكتفي الكتاب بتحليل الواقع وتشخيص الاختلالات، بل يتجاوزهما ليقترح رؤى حضارية قادرة على الفعل. فيقدّم مفهومه المركزي: “المقاومة الحضارية الشاملة”، باعتبارها الجهاز المناعي لجسد الأمة. وهي في نظر الكاتب عملية مستمرة منضبطة بالوحي، تجمع بين الدفاع عن الإنسان وبناء العمران، وتتحرك ضمن أفق فقهي وأخلاقي وحضاري يضبط أساليب المواجهة.

وفي هذا الإطار يعدد الكتاب معارك من الممكن أن تشكل هذه المقاومة ومنها معركة التحرير من أجل التغيير (مواجهة العدوان والطغيان)، ومعركة الذاكرة والهوية (لمواجهة الطمس الصهيوني)، ومعركة المعنى والمغزى والمفاهيم (تحرير الكلمات المغتصبة والمسمومة)، ومعركة الوعي الجمعي والإستراتيجي (صناعة الوعي والأمل)، ومعركة الإرادة (إنهاء التطلعات الفلسطينية لتقرير المصير هو الهدف الصهيوني)، والمعركة الحضارية الكونية (التضامن العالمي ورفض العنصرية الغربية).

هذه المعارك كلها تنصهر داخل مشروع واحد تسنده منظومتان: الأمة القطب باعتبارها الأمة الوسط الشاهدة على العالمين، والمقاومة القطب بوصفها القوة التنفيذية الموكلة بحراسة ضمير الأمة وكرامتها.

في الفصل الأخير، ينتقل الكتاب إلى الجانب العملي محددًا أدوات المقاومة التي تمتلكها الأمة في واقعها الراهن. أولها المقاطعة، التي يراها “أوسع أنواع المقاومة”، لأنها امتناع شرعي وواعٍ عن دعم الظالمين، وهي “عبادة صامتة” تُعيد للمسلم كرامة الفعل الإيماني المقاوم. ثم يقدّم مبدأ فقه الفرصة، أي اغتنام اللحظات التاريخية النادرة، مثل طوفان الأقصى، وتحويلها إلى مكاسب إستراتيجية دائمة. تليها أداة الاحتجاج والمظاهرات التي تصوغها الأمة بوصفها فعلًا أخلاقيًّا إنسانيًّا ضد العدوان، لا غضبًا عابرًا.

وأخيرا العالِم الكفاحي ودوره المقاوم، ولذلك يميز سيف الدين عبد الفتاح بين علماء الطوفان، الذين ينذرون علمهم في سبيل الجهاد والموقف الحر، وعلماء السلطان، الذين يبرّرون الطغيان ويُخدرون الوعي. من خلال هذا التمييز، يبرز مفهومه لـ"التفسير الميداني للقرآن"، الذي مثّله طوفان الأقصى عمليًّا، حين التقت الآيات الجهادية والوعود القرآنية مع تفاصيل المعركة، ليقدّم مثالًا حيًّا على تفعيل النص في الواقع. فالجهاد في هذا التفسير ليس عنفًا متشددًا، بل هو بذلٌ للجهد في سبيل التحرير والكرامة الإنسانية.

هكذا لا يقدّم قاموس المقاومة فكرًا تحليليًّا فحسب، بل مشروعًا معرفيًّا لتجديد وعي الأمة بذاتها وبعالمها. فهو يحرّر المصطلح من أسر الخصم، ويعيد للّغة سلطانها على الوعي، ويصل بين التأصيل السننيّ والتفسير الميدانيّ. لقد صاغ الدكتور سيف الدين عبد الفتّاح في كتابه من "طوفان الأقصى" منارة فكرية تضيء للجيل القادم معالم الطريق، وتفتح له طريق وعيٍ يتجاوز رد الفعل، وفعلٍ يتجاوز الانفعال، نحو مقاومة تبني كما تقاوم، وتُحيي كما تواجه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أبعاد العربی والإسلامی قاموس المقاومة الحرب النفسیة طوفان الأقصى الشرق الأوسط بحسب الکتاب عن الکلمات المقاومة ا مشروع ا

إقرأ أيضاً:

لجنة حكومية عاجلة بشأن ظاهرة تجريف الغابات في بابل

لجنة حكومية عاجلة بشأن ظاهرة تجريف الغابات في بابل

مقالات مشابهة

  • الإعلام الإجتماعى
  • د. آية الهنداوي تكتب: الشباب العربي والحرب المفقودة.. الصحة النفسية على صفيح ساخن
  • الفساد سرطان ينهش كل مفاصل حياتنا
  • قاسم: احتمال الحرب الإسرائيلية على لبنان موجود لكنه ليس مؤكدا
  • فترة تهديدنا من الجماعة الإرهابية.. عمرو أديب: أنا كنت موجود مع الرئيس السيسي في كل مكان بالخارج
  • رنا سماحة: أنا اللي بصرف على ابني وتخطيت مرحلة الطلاق
  • رنا سماحة: الذكور كثيرون ولكن الرجال قليلون
  • لجنة حكومية عاجلة بشأن ظاهرة تجريف الغابات في بابل
  • كيف تؤثر التغذية على المزاج والصحة النفسية؟