قال الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي، إمام وخطيب المسجد الحرام،  إن الحكمة سمة من سمات الأنبياء والصّالحين، والعلماء العاملين، بعث الله بها رسله، وأقام عليها كونه وشرعه، وهي نعمة عظيمة، ذكَّر الله بها عباده، ألا وهي الحكمة.

الحكمة من سمات الأنبياء

واستشهد " المعيقلي"  خلال خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، بما قال الله عز وجلَّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، مشيراً إلى أن الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، وتكون بالعلم النافع والعمل الصالح، ومعرفة مقاصد الشرائع، وهي تسود بصاحبها، وتكسوه ثوب الوقار، وتحفظه عن ما يورث الخزي والعار.

وأوضح أن أعظم الناس حكمة، الأنبياء والرسل، لما اختصهم الله به من الفضل، في حمل الرسالة، وإبلاغ الدعوة، فقال سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، فكان صلى الله عليه وسلم أعلم الناس، وأنفع الناس، وأحكم الناس، فسيرته العطرة، كلها عين الحكمة، في أقواله وأفعاله، وسمته ودله.

واستند إلى ما قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فأسعَدُ الناس بالحكمة، من تعرف على سيرة سيد الأنبياء، وتأسى بهديه، واتبع سنته، فكم في سيرته صلى الله عليه وسلم من مواقف وأحداث، تجلّت فيها حكمته، وسداد رأيه، وحسن مشورته.

وتابع: فتجلت حكمته، سواء مع من استجاب لدعوته، أو مع من خالفه ولم يؤمن به، وهكذا تكون الحكمة، سبباً بعد الله في درء الفتنة، وحفظ الأمن واجتماع الكلمة، وقيام مصالح الناس الدنيوية والأخروية، وكم كان لغيابها، واتباع أدعياء الهوى، من مفاسد وأضرار متعدية.

نماذج حكمة الرسول

وأضاف أن من نماذج حكمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حديث أَنَس بن مالك رضي الله عنه حيث قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، وفي رواية: فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ – بالضرب ونحوه- ، فلما رأى ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ).

وأشار إلى أنه قد كان هذا الخلق النبيل من النبي صلى الله عليه وسلم، جانباً من جوانب حكمته، ورفقه ورحمته، التي أسر بها قلوب من حوله، على اختلاف طبائعهم، وتنوّع مشاربهم، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإن الله تعالى يُعطي على الرفق، ما لا يُعطي على العنف.

ونبه بأن الحاجة تزداد إلى الحكمة، في تعاملاتنا اليومية، وخاصة بين الزوجين، لاستمرار المودة والرحمة، وفي تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، وصبره وحلمه، وتغاضيه وحسن تصرفه، ما هو حريّ بالمؤمن أن يتأمله، والمشورة من الحكمة، لما فيها من التماس الرأي السديد، والعمل الرشيد، وقد أمر الله تعالى بها نبيه.

وأفاد بأنه كان صلى الله عليه وسلم، كثير المشورة لمن حوله، وهو نبي الله ورسوله، أوفر الناس عقلا، وأسدهم رأيا، ففي صلح الحديبية، غضب الصحابة رضي الله عنهم، ظناً منهم أنهم بخسوا حقهم، حتى جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: ((يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا)).

وواصل:  فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا))، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ، فَيَحْلِقَكَ. فَقَامَ، فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ هَدْيَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا"، رواه الإمام أحمد في مسنده، فكان رأي أم سلمة رضي الله عنها، رأياً موفقاً ومشورة مباركة.

ضالة المؤمن

وأكد  أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، وإن من علاماتها، أن يبتغي المرء الرشد في تصرفاته، ويبدأ بالأهم فالأهم، ويأخذ بالأولى فالأولى، فإذا تعارضت مصلحتان، عامة وخاصة، قدم العامة على الخاصة، وإذا ترتب على تصرفه مصلحة ومفسدة، قدم ما فيه درء المفسدة على جلب المصلحة، والحكيم لا يدخل في أمر حتى ينظر في عواقبه.

ونوه بأن من الحكمة: أن يصمت المرء حين يكون الصمت أفضل، ويتكلم حين يكون الكلام أفضل، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت، ألا فليتق الله من يبثون أسباب النزاع والفرقة، في الشبكات الاجتماعية، خلف أسماء وهمية، فالله مطلع عليهم، عالمُ بما كتبت أيديهم، وبما تخفي صدورهم.

ولفت إلى أن من الحكمة مخاطبة الناس بما تحتمل عقولهم ومداركهم، ومراعاة تنوع ثقافتهم، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"، فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالحكمة في سائر الأحوال، فإنها من أعظم النوال، واطلبوها من مظانها، واسألوا الله المزيد منها.

واستطرد: من الحكمة ما هو محض هبة من الله تعالى، يؤتيها من يشاء من عباده، ومنها ما هو مكتسب، فإنما العلم بالتعلّم، والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، فيرزقها الله تعالى، لمن بذل أسباب تحصيلها، وتوفرت فيه أركانها، ولا يكون ذلك إلا بسؤالها من مالكها، سبحانه جل شأنه، وتقدست أسماؤه، ومن أسباب كسب الحكمة، الإخلاص والتقوى، ومخافة الله جلَّ وعلا، فمن خاف الله، انتظمت حياته، وصلحت سريرته وعلانيته.

وحذر من أن أهل البدع والأهواء، محرومون من الحكمة، لأن الهوى يعمي ويصم، ومنزلة الحلم والأناة من الحكمة، كمنزلة الرأس من الجسد. وإن من الحكمة، التغافل عن أخطاء الناس وزلاتهم، وذكر محاسنهم ومواطن الخير فيهم، والتجارب تنمي المواهب، وتجعل العاقل حكيما، وتزيد الحليم حلماً.
 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: إمام و خطيب المسجد الحرام خطيب المسجد الحرام الدكتور ماهر المعيقلي خطبة الجمعة من المسجد الحرام صلى الله علیه وسلم الله تعالى من الحکمة رضی الله ى الله ع الله ب ی الله

إقرأ أيضاً:

خطيب المسجد الأقصى: الاحتلال اتخذ إجراءات هدفها التقسيم الزماني والمكاني

أكد الدكتور عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، إن الاحتلال اتخذ إجراءات هدفها التقسيم الزماني والمكاني، مشددًا، على أنه لن يستطيع تحقيق هدفه.

خبير شئون إسرائيلية: نتنياهو يرغب في تقسيم غزة إلى مناطق عازلةالجوع يخيم على غزة.. والنزوح أصبح واقعًا لأغلب السكانرويترز عن مسئول فلسطيني: حماس توافق على مقترح ويتكوف لوقف إطلاق النار في غزةالمستشار الألماني : الهجمات الإسرائيلية على غزة لم تعد مبررة


وأضاف صبري، خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي أحمد أبو زيد عبر قناة «القاهرة الإخبارية»، أنّ هذه المخططات عبارة عن هجوم تطرفي موسمي بمناسبة أعيادهم، ولن يحققوا أي مكسبٍ داخل الأقصى أبدا".

وأكد: "الاعتقالات للمقدسيين بالآلاف، والقدس محاصرة، وبالتالي، ردة الفعل للمقدسيين ضعيفة بسبب الحصار والاعتقالات وتشديد السيطرة على أبواب الأقصى الخارجية، وهذه إجراءات قمعية، ولا تتصور أن هذه المدينة أصبحت الآن ثكنة عسكرية، ولكن، يبقى حق الأقصى قائما للمسلمين مهما زادت هذه التشديدات والإجراءات". 
 

طباعة شارك المسحجد الأقصى اخبار التوك شو فلسطين غزة القدس

مقالات مشابهة

  • الحكمة من أن العشر الأوائل من ذي الحجة أفضل وأحب الأيام إلى الله؟
  • مفتي المملكة يوصي الحجاج بإخلاص الحج واتباع السنة
  • أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. داوم عليه من مغرب اليوم
  • المفتي: المملكة هيأت العلماء لبيان أداء الحج وفق منهج النبي
  • المفتي العام للمملكة يوصي الحجاج بإخلاص الحج لله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
  • صور| 1000 حاج يتنافسون بمسارات التحفيظ القرآنية في رحاب المسجد الحرام
  • خطيب الأقصى يحذر من انقضاض اليمين الإسرائيلي على المسجد
  • خطيب المسجد الأقصى: الاحتلال اتخذ إجراءات هدفها التقسيم الزماني والمكاني
  • ما حكم كلام القائمين على المسجد أثناء خطبة الجمعة لتنظيم الناس؟.. الإفتاء تجيب
  • الشؤون الدينية: الشيخ صالح بن حميد خطيبًا ليوم عرفة في حج هذا العام 1446هـ