عبد الله العليان

في مقالنا الأسبوع الماضي، تحدثنا عن نشوء الفكرة النازية التقليدية أو السابقة، التي تأسست بعد الحكم النازي في ألمانيا ولها الكثير الاعتقادات الفكرية التي تجعل من نفسها جنساً أرقى من كل الأجناس، ولذلك نجد الدعوات التي قام بها الصهاينة في الغرب، بسبب ما سُمي بـ"محرقة اليهود" نتيجة العداوة الفكرية للنازية مع اليهود، وهي القصة التي تُعرف في المصطلحات الغربية بـ"الهولوكوست".

ومسألة المحرقة اليهودية في ألمانيا، استغلتها المؤسسات الصهيونية استغلالًا كبيرًا بحجة المظالم التي حدثت لهم من النازية قبل الحرب العالمية الثانية، وتم الترويج لها، مع أنهم مارسوا الفعل النازي نفسه عندما استولت العصابات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية في عام 1948.

ومن الكتابات الجادة والدقيقة حول الفكر الصهيوني، ما طرحه المُفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، في كتاباته عن الصهيونية واستغلال مآربها لإقامة وطن لهم على أرض فلسطين، وتوظيفها للكسب التجاري، وغيرها من الجوانب التي تُسهم في الاستعطاف، وهذه الإبادة، لم تكن هي الأولى إنسانيًا عبر التاريخ؛ بل هناك الكثير منها حدثت بنفس الطريقة التي حدثت لليهود من النازية.

ويقول المسيري "من المعروف أنَّ هناك عدة شعوب قامت من قبل بإبادة شعوب أخرى أو على الأقل بإبادة أعداد كبيرة منها. ووردت في العهد القديم أوامر عديدة بإبادة سكان أرض كنعان وطردهم. ولكن من الثابت تاريخيًا أنَّ العبرانيين والكنعانيين تزاوجوا، وأن معظم ادعاءات الإبادة قد تكون من قبيل التهويلات التي تتواتر في كثير من الوثائق القديمة أو تكون ذات طابع مجازي. وربما يكون قد تم فعلًا إبادة سكان مدينة أو اثنتين، لكن هذا لم يكن النمط السائد نظرًا لتدني المستوى العسكري لدى العبرانيين، كما إن استيطان العبرانيين لم يتم عن طريق الغزو دفعة واحدة وإنما عن طريق التسلل أيضًا. ويستند الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الغربي إلى الإبادة، فهذا ما فعله سكان أمريكا الشمالية البيض بالسكان الأصليين، وهي عملية استمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر".

ولا نريد أن نناقش مدى صحة العدد الذي قيل إنهم بالملايين، ومنهم من قلل من حجم هذه المحرقة، ومنهم الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي (أو رجاء جارودي)، وتعرض بعدها للكثير من المتاعب، منها حتى المحاكمة في موطنه فرنسا بتهمة العداء للسامية. وعندما وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، كتب جارودي مقالة عن المذابح التي وقعت على الفلسطينيين في هذا التاريخ، خاصة في مخيم صبرا وشاتيلا على أيدي القوات الإسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي العميل للصهاينة، وقتل هناك كما تقول بعض التقديرات، بين: 750 و3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين في هذا المخيم. ويصف رجاء جارودي ما تعرض له بسبب كشفه للمذابح الصهيونية، فيقول في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية": "عندما وقع الاعتداء على لبنان ومذابحه عام 1982 استطعت أن أحصل من مدير التحرير السيد جاك فوفيه على موافقته أن أنشر في جريدة "لوموند" الفرنسية، على صفحة كاملة مدفوعة الأجر؛ حيث كشفنا أنا والأب ميشيل والقس ماتيو، عن مغزى العدوان الإسرائيلي وأبرزنا المذابح التي وقعت في لبنان، وأوضحت أن الأمر لا يتعلق بأي خطأ؛ بل بالمنطق الداخلي للصهيونية السياسية التي تقوم عليها دولة إسرائيل". ويستطرد روجيه جارودي في سرد قصة المقال، وما واجهه من متاعب بسبب هذا المقال في جريدة لوموند وتناول فيه ما جرى في لبنان من مذابح، وبسبب نقده لما وقع من مذابح، يقول جارودي إنه تلقى نتيجة ما كتبته: "خطابات مغلفة من الإمضاءات أو بالتليفون، تسعة تهديدات بالقتل، ورفعت علينا ليكرا قضية بتهمة العداء للسامية والتحريض على التمييز العنصري".

لكن الفيلسوف جارودي، لم يسكت على هذه الافتراءات الصهيونية والمضايقات والتهديدات حتى بالقتل، فهو يعرف أن هناك- كما يقول جارودي في هذا الكتاب- تأثير للقرار السياسي على الكثير من المؤسسات تجاه إسرائيل، لا سيما الإعلام، من خلال اللوبي الصهيوني في فرنسا- كما يسميه- فقد: "وصلت القوة الإعلامية للوبي، ومركزه اليوم الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية، إلى الحد الذي تستطيع به أن تتلاعب بالرأي العام على هواها وحسبما يتراءى لها، ومع أن السكان اليهود في فرنسا لا يشكلون سوى نحو 2% من الشعب الفرنسي، فإن الصهيونية تُهمين على غالبية متخذي القرار السياسي في أجهزة الإعلام والتلفزيون والإذاعة، والصحافة المكتوبة؛ سواء الصحافة اليومية، أو الصحافة الأسبوعية، والسينما، وخاصة مع غزو هوليوود لها وحتى دور النشر، فقد أصبح كل ذلك في أيديهم، وكذلك قطاع الإعلانات، الوصي المالي على وسائط الإعلام".

لذلك أصبحت المؤسسات الصهيونية، تتابع ما يكتبه رجاء جارودي، لكونه مؤثرًا في الأوساط الفكرية في كشف ما تمارسه إسرائيل، والدوائر الصهيونية في فلسطين. وعلى الرغم من العيوب الكبيرة التي عصفت بالتجربة الصهيونية على امتداد ما يزيد على قرن كامل، وبالتجربة الإسرائيلية على ما يزيد على أكثر من 76 عامًا عليها، سيظل مبدأ القوة والإبادة الجماعية للآخر الفلسطيني والتحرك لتهجيره من بلده الأصلي، هو العلاقة التي تنظم حاضر ومستقبل هذا الكيان الصهيوني.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في إسطنبول.. قسّ وحاخام وشيخ في جبهة واحدة ضد الصهيونية

في إسطنبول، لم يكن الاجتماع عابرا، ولا المشهد مألوفا، ولا اللحظة عادية. هناك، على ضفاف التاريخ الذي لا يزال يُكتب بالدم والوعي، اجتمع القسّ والحاخام والشيخ، لا لاختلافٍ عقائدي، بل لاتفاقٍ أخلاقيٍّ واضح: الوقوف صفا واحدا في وجه الصهيونية، ورفض الإبادة، ومقاومة محاولات تصفية القضية الفلسطينية.

تشرفتُ بأن أكون واحدا من بين كوكبة ضمّت قرابة 300 شخصية فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، اجتمعوا تحت مظلة مؤتمر مؤسسة القدس الدولية وشركائها. 300 وجه، بـ300 قصة، و300 طريق، لكن ببوصلة واحدة تشير إلى القدس، وبقلبٍ واحد ينحاز لغزة وفلسطين.

كان المشهد لافتا حدّ الإدهاش: رجال دين من الديانات الثلاث، يجلسون تحت سقف واحد، لا يتجادلون، بل يتعاهدون. قسٌّ مسيحي يرى في القدس ضميرَ الإيمان، وحاخامٌ يهودي يعلن براءة دينه من الصهيونية، وشيخٌ مسلم يحمل أمانة الأمة في صوته ونبرته. لحظة تقول، بلا مواربة، إن الصراع ليس دينيا كما يحاولون تصويره، بل هو صراع حقّ مع مشروع استعماريٍّ إحلاليٍّ يستخدم الدين قناعا.

ازددت قناعة أن فلسطين ليست قضية العرب وحدهم، ولا المسلمين فقط، بل هي قضية الأحرار في كل مكان
وفي ذروة تلك اللحظات، تلا الدكتور محمد سليم العوا البيانَ الختامي باسم المجتمعين، فجاء واضحا لا لبس فيه: رفضٌ قاطع للتطبيع، ورفضٌ لمؤامرات تصفية القضية، وإدانةٌ صريحة لجرائم الإبادة، وتعهدٌ بالسعي لملاحقة مرتكبيها في مختلف المحافل القانونية والسياسية والإعلامية. لم يكن البيان مجرد كلمات، بل تعاقدا أخلاقيا جديدا أمام التاريخ.

لكن من بين كل تلك الوجوه، استوقفني وجهٌ واحد على نحوٍ خاص؛ رجل قادم من جنوب تايلاند، بملامح متعبة من طول السفر، وبعينين ممتلئتين بالشغف. جاء لأجل القدس، لأجل غزة، لأجل فلسطين، كأن المسافة بين بانكوك وإسطنبول لا تساوي شيئا حين تكون الوجهة هي الحق. جلس بيننا، يتابع، ويصغي، ويتفاعل وكأنه من أبناء القدس نفسها.

وفي استراحة قصيرة، علمنا أن إعصارا ضرب منطقته، مخلفا خسائر فادحة في البيوت والأرواح. جاءه الخبر باردا على هاتفه، ساخنا في قلبه. توقعت -كما نتوقع نحن دائما- أن يعتذر، أن يشدّ الرحال عائدا، أن يقول: "أهلي أهم الآن"، لكنه لم يفعل، بقي. قال بابتسامة موجوعة: "غزة الآن أيضا في الإعصار". لحظتها فهمت لماذا لم يأتِ وحده.. جاء ومعه وطنه، وألمه، ومطره، ورياحه.

عندها ازددت قناعة أن فلسطين ليست قضية العرب وحدهم، ولا المسلمين فقط، بل هي قضية الأحرار في كل مكان. هي المرآة التي تنعكس فيها أخلاق العالم؛ فمن وقف معها وقف مع إنسانيته، ومن خذلها خسر نفسه قبل أن يخسرها.

لسنا سذّجا لنظن أن مؤتمرا واحدا سيوقف حربا، أو أن بيانا واحدا سيهزم ترسانة الاحتلال. نعرف أن الطريق طويل، وأن كلفة الموقف باهظة، وأن الدم لا يجفّ ببيان، لكننا نؤمن بشيء أعمق: الأثر التراكمي. نؤمن أن كل مؤتمر حجرٌ في جدار الوعي، وكل لقاء بذرةٌ في تربة التاريخ، وكل موقف معلن مسمارٌ جديد في نعش الرواية الصهيونية.

لم تكن فلسطين مجرد موضوع على جدول الأعمال، كانت الروح الحاضرة في كل كلمة، والوجع الذي يتنقل بين الصفوف، والسؤال الذي يلاحق كل متحدث: ماذا سنفعل أكثر؟
هذه اللقاءات لا تغيّر الواقع دفعة واحدة، لكنها تغيّر اتجاهه. لا تهدم الجدار مرة واحدة، لكنها تُضعفه شقا شقا. تصنع شبكة وعي عابرة للحدود، وتخلق لغة مشتركة بين أديان وثقافات، كلها تجتمع عند كلمة واحدة: لا للإبادة، لا للاحتلال، لا لتزييف الحقيقة.

في القاعة، لم تكن فلسطين مجرد موضوع على جدول الأعمال، كانت الروح الحاضرة في كل كلمة، والوجع الذي يتنقل بين الصفوف، والسؤال الذي يلاحق كل متحدث: ماذا سنفعل أكثر؟ لم يعد كافيا أن نشجب، ولا مجديا أن نكتفي بالتنديد. العالم يعيش لحظة اختبار أخلاقي حاد، والحياد فيها صار تواطؤا مستترا.

خرجتُ من المؤتمر أكثر يقينا بأن غزة لا تقاتل وحدها، حتى وإن تُركت وحيدة في الميدان. ثمة من يحمل صوتها في القاعات، وصورتها في المنابر، ودمها في ضميره، وثمة من يلاحق قاتلها بالقانون حين تعجز السياسة، ويطارده بالرواية حين يخونه الإعلام.

وفي إسطنبول، لم يجتمع القسّ والحاخام والشيخ ضد الصهيونية فقط.. اجتمعت الضمائر، وتصافحت الخنادق، وتوحدت البوصلة، وقال العالم -ولو همسا- إنه لم يعد قادرا على الصمت طويلا.

هذه المؤتمرات ليست ترفا فكريا، ولا نشاطا بروتوكوليا. إنها معارك من نوع آخر: معارك الوعي، ومعارك الرواية، ومعارك الشرعية الأخلاقية. ومع كل لقاء، تتراكم الحجارة الصغيرة في طريق طويل.. طريق قد يتأخر، لكنه لا يضيع.

مقالات مشابهة

  • "صحة الإسكندرية" تستعد لـ"التأمين الشامل" برفع الجاهزية التشغيلية للمستشفيات
  • في إسطنبول.. قسّ وحاخام وشيخ في جبهة واحدة ضد الصهيونية
  • طرابلسي عن وزيرة التربية: أين الاستراتيجية والخطة التي قالت إنها تعمل عليها منذ أشهر؟
  • Reddit يلغي موجز r/popular من الصفحة الرئيسية للمستخدمين الجدد
  • ارتفاع حصيلة الإبادة الصهيونية على غزة إلى 70,360 شهيدًا
  • بشير ياغي: أنتظر الفرصة التي تشبه رؤيتي للحياة
  • قصة الفتاة التي بكت وهي تعانق البابا لاوون في بيروت
  • مظاهرة في برلين تضامناً مع فلسطين ورفضاً للإبادة الصهيونية
  • آلاف الجنود الجدد ينضمون للجيش الفنزويلي وسط تصاعد التوتر مع واشنطن
  • تيمور جنبلاط: معنيون بالقيم والأسس التي أراد كمال جنبلاط للبنان أن يقوم عليها