لجريدة عمان:
2025-05-11@09:50:03 GMT

شبيب الأمين يهزأ بالأبد

تاريخ النشر: 28th, November 2023 GMT

شبيب الأمين يهزأ بالأبد

بعد ثلاثين عاما (إلا سنة واحدة) يقرر الشاعر اللبناني شبيب الأمين إصدار مجموعته الشعرية الثانية. عمر طويل نسبيا ما بين الكتاب الأول «أعتقد أنني سكران» (دار الجديد 1994)، والثاني «رجل للبيع يهزأ بالأبد ــ يليه ــ مصرع لقمان» (رياض الريس للكتب والنشر 2023). قد لا يشكل هذا العمر انقطاعا عن التجربة، مثلما يتبادر للوهلة الأولى، فمنذ بداياته وشبيب الأمين مقلّ في النشر، إذ يرغب في أن تكون نصوصه مسبوكة إلى حدّ الإتقان، لغاية أنه أحيانا، يلغي الكثير مما كتبه، متبعا بذلك قول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، الذي يشكل واحدا من «معلميه» الفكريين: «الشعر هو ما تمحوه لا ما تكتبه».

هذا «المحو»، عنده، وصل أيضا إلى حدّ الامحاء. بهذا المعنى، كانت تجربة شبيب في «جدل بيزنطي»، الحانة التي أسسها في بيروت، مع بدايات الألفية الثانية، والتي كانت تستقبل على مدى سنين، أمسيات شعرية أسبوعية، في ليل عاصمة لم تتوقف على البحث عن معنى وجودها، وعن معنى الثقافة التي تقدمها. امحاء، لأن الأمين لم يرغب أبدا في إدارتها، تاركا شأن ذلك، إلى أصدقاء له، شعراء، للإشراف على جدولة برامجها، ودعوة من يريدون، لدرجة أنه كان يأتي إلى حانته، أحيانا، وكأنه سائح يكتشف المكان للمرة الأولى؛ أو ربما دفعته الصدفة للدخول لمشاهدة ما يجري.

الشعر في ذلك كله، عند الشاعر، كان طريقة حياة (ولا يزال)، لا مجرد كتابة نص فقط. إنه «عيش في الشعر»، فيما لو استعدنا جملة الشاعر الفرنسي أوجين غيوفيك. هذا العيش، الذي جعله يبتعد في السنوات الماضية، عن بيروت، ليقيم في قريته الجنوبية، بعيدا عن الضجيج، وإن كان منزله هناك لم يتوقف عن استقبال الشعراء والفنانين التشكيليين ومن له علاقة بالثقافة، وكأن النقاش، انتقل من «جدل بيزنطي» إلى تلك القرية السابحة في خضرة الطبيعة.

منذ نصوصه الأولى، بدا شعر شبيب الأمين وكأنه نقد حقيقي للشعر السائد، المكتوب في تلك الفترة في غير عاصمة وحاضرة عربية. أحب أن أتخيل أن الشاعر كان تائها في ضواحي الحياة، لكنه عرف كيف يجعل حياته تتجاوز الكلمات، في رحلة تحمل عزلته وحبه لهذا الصمت الإنساني. هل لذلك أراد أن يجعل من كلماته، المجمعة بمهارة، والتي لا تشبه كلمات أحد في تجربة حداثة الشعر اللبناني، أن تكون صورة عن رجل يصرخ بصمت، أو بالأحرى عن رجل يهزأ بكلّ المسلمات التي توارثناها؟ الحدّ الفاصل بين صراخ شبيب واستهزائه، في شعره، يبدو حدّا واهيا، إذ يمتزج الأمران في لعبة كتابية، تعرف كيف تؤسس لمشروعها الخاص. الصراخ هنا، لا يجعله يشفق على الألم ولا لأن يغنيه، بل يطرده من داخله، نحونا، وعلينا أن ننجح في تلقفه، وإلا ضاع كل شيء علينا.

يعبر شبيب الأمين الكتابة واقفا، وكأنه يوزع بطاقات شعرية محملة باللعنة. ربما لأن الشعر داء يُكتشف باكرا. هذا الداء الشعري يجعله يرحل إلى كل الشواطئ، بعيدا عن أي غنائية متواطئة. الكتابة أشبه بشخص يلعب لعبة الحجلة بشكل مأساوي في دوائر الجحيم. هي أيضا، بمثابة أغاني الناجين من حروب طويلة عرفناها وعشناها على مرّ تاريخ لبنان الحديث. هل يمكن إذَا أن نقول إنه شعر يرغب بدوره في «قتال» ما؟ ربما. فالصرخات الواضحة، أو لنقل بدقة، صرخات الوضوح هذه تأتي بصوت قوي، تخرج من قبضة الصرخات المغلقة والكف المفتوحة تجاه الناجين ــ وربما تجاه الذين رحلوا وغادروا، لا لتشييد نُصب ذاكرة لهم، بل لمحاولة إعادتهم إلى ذاك المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، خلف طاولة شبيب في قريته، إنه «نضال» مستمر، على الأقل نضال شعري لأن تكتب حياة أخرى، لأن ألم نسج الكلمات، حين تلتهم الحياة نفسها كل شيء وتجعله يدور في تيهه، لا يبقى لنا، أمام هذه المعاناة، سوى أن نلجأ إلى الكتابة وكأنها «عار» يخنقنا.

ينحت البعض جملًا رائعة لوضعها بالقرب من المدفأة في أمسيات الروح الشتوية. تحتفظ كلماتهم بالوضعية التي كانت عليها، قبل رحيلهم واختفائهم. لم تعد تتحرك، صارت ثابتة. وهي بذلك لا تظهر إلا صورة من صورهم الشخصية ومن سيرتهم. كأنها في نهاية الأمر، لا تتوقف عن التنهد لتحاول أن تبتسم لنا. كلمات شبيب في مجموعته هذه، لا تزال تتحرك، لا تتوقف عن التساؤل عن المكان التي سوف تذهب إليه. ربما هي تكتب بعضها البعض في الصباح الباكر لتمتزج بالندى، أو في عشية القرى حين تحل سَكينة الروح على الأرض. لذا لا يختفي الشاعر في أبدية الشعر، بل يواجه العالم، يلتصق به، ويرغب في أن يجعله أكثر أخوية وعدالة.

أن نعود ونقرأ قصائد شبيب الأمين، بعد كلّ هذه السنين، معناه أن نقرر الانطلاق في رحلة إلى جُزر من الكلمات تواجه الرياح، إنها سفر بين عاطفة عميقة وشهوانية ملموسة. فالشاعر حاضر في كل حالاته المزاجية. كتابته فعل احتضان. يجعل صوره تنبت برغبة وارفة. إذ يترك الشاعر كلماته تطير مثل بالونات زرقاء نحو سماء زرقاء. يتابعها قليلا بنظره، وينتظر ريحا مواتية تعيدها إلى قارئها. تحت أمطار أيام غزيرة، وفوق يدين تجيدان عجن أرض الكلام، يقول الشاعر جملته تلو الأخرى، بلطف، بعناد رجل من الجنوب يقلب الكلمات، يقلب الأرض، لا لتزهر من جديد، بل لتشهد على رفاتنا جميعنا. أمام ذلك تأتي الكلمات وكأنها محمولة، متناثرة، مجزأة، منجرفة ... تماما مثل أحلام تظنها عديمة الفائدة، مثل إلحاح لتحقيقها. لا شفقة على الإطلاق. فقط تحاول أن تتذكر القليل ممّا حدث.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الأمين العام لوزارة الخارجية يجتمع مع نظيره الماليزي

اجتمع سعادة الدكتور أحمد بن حسن الحمادي الأمين العام لوزارة الخارجية اليوم في بوتراجايا مع سعادة السيد عمران محمد زين الأمين العام لوزارة الخارجية في ماليزيا.

جرى خلال الاجتماع استعراض علاقات التعاون بين البلدين وسبل دعمها وتطويرها، وعدد من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك.

حضر الاجتماع، سعادة السيد صلاح بن محمد آل سرور سفير دولة قطر لدى ماليزيا، والسيدة الجوهرة يوسف العبيدان فخرو، المكلف بمهام مدير إدارة الشؤون الآسيوية بوزارة الخارجية، والوفد المرافق.

مقالات مشابهة

  • وفاة الشاعر والكاتب المسرحي يوسف مسلم
  • لكني كتبت الأشجار بالخطأ.. ديوان جديد للشاعر نجوان درويش
  • لو عاوز البركة تحل في كل أعمالك ردّد هذه الكلمات.. الشعراوي يوضحها
  • الأمين العام لمجلس التعاون يرحب باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان
  • حديث محمد صلاح عقب التتويج بلقب الدوري الإنجليزي.. تصريحات نارية
  • علامات فارقة في الشعر العربي الحديث ضمن كتاب جديد صادر عن الهيئة السورية للكتاب
  • فلسطين في القلب والهوية في القلم.. سيرة صلاح جرار بين المقاومة والعلم
  • الأمين العام لوزارة الخارجية يجتمع مع نظيره الماليزي
  • الأمين العام لوزارة الخارجية يجتمع مع وزير الخارجية الماليزي
  • ما ظل يتعرض له وطننا الحبيب السودان منذ اندلاع هذه الحرب هو عدوان اجنبي