يتوقف الحـكي والسرد عن الكهف الأظل والجناب الأجل أمير الصعيد شيخ العرب همّام،  سواء فيما يكتب في المنصات أو في الدراما التي كتبها في حلقات السيناريست عبد الرحيم كمال وشخصها يحي الفخراني،  بهذه البكائية على ملك همام الزائل ونهايته المأساوية بهزيمة وخيانة آثمة ثم التغريبة القسرية فى عمق الجنوب المصري بعيدًا عن ملاحقات عليّ بك الكبير وأتباعه المنقضون جميعهم على أملاك وملك الرجل الاستثنائي، بلا هوادة، في حين تبقي بعض الفصول غامضة وكأن النهاية كانت بهروب همام إلى إسنا ثم وفاته فى قمولا.

 

 

فلم تنته فصول قصة الأمير همام بن يوسف أو المعرف بشيخ العرب همام بهروبه إلى إسنا بعد خيانة غير متوقعة من أقرب الناس إليه وهو إسماعيل ابن عمه، فقد كانت هناك فصولًا أخري في هذه القصة المستقرة في الوجدان المصري كون همام قد ظاهر في طور المخلص في جنوب مصر الذي يسعي لتأسيس دولة عادلة ضد المماليك هؤلاء الأجانب المختطفون من أسرهم في طفولتهم إلى الرق ثم العتق وأخيرًا الولاية والحكم!

خلفاء هـمَّام

أنجب عظيم بلاد الصعيد همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيح بن سيبية الهواري، 3 من الذكور هم ..درويش وشاهين وعبد الكريم، والأول هو الذي كتب أو عاصر قصة الأفول النهائي لسطوة العرقية أو بالدقة وجود قوة سياسية وعسكرية مناهضة لحكم المماليك كانت مستقرها فى فرشوط في قنا حيث دار حكم شيخ العرب التي كان ينظم فيه شؤون أملاكه الممتدة بطول الوادي حتي إسنا بدائرة واسعة من الموظفين كان كبيرهم هو بولس منقريوس. 

 

بعد هروب همام إلى إسنا دخل محمد بك أبوالذهب فرشوط ونهبها كاملة بما فيها أملاك «شيخ العرب» وأقاربه وموظفيه وأتباعه، دون أن يتصدي له أحد، وتذكر مصادر تاريخية أن وساطة جرت بين عليّ بك الكبير ودرويش أكبر أبناء الأمير همام بن يوسف من خلال محمد بك أبوالذهب، وقبل عليّ بك وساطة «أبوالذهب» ومنح درويش بلاد فرشوط  والوقف ـ تقع وسط محافظة قنا حاليًا. 

 

وعلى عكس المتوقع لم يحاول «درويش» ذلك الفتي الوسيم المختال بنفسه الذي كانت تصطف القاهرة نساءً ورجالًا لرؤيته كلما مر بشوارعها، أن يستعيد المجد القديم أو يُلمم ما بعثره عليّ بك ومماليكه من شتات هوارة وحلفائها من القبائل العربية المستقرة في دائرة أملاك والده السابقة وكذلك أمراء المماليك الفارين من بطش عليّ بك إلى الصعيد لأسباب مختلفة ومعهم أيضا بالضرورة الفلاحين. 

 

يقول المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار ـ الجزء الأول» قابل درويش بن همام محمد بيك وحضر صحبته إلى مصر، وأسكنه في مكان في الرحبة المقابلة لبيته، وصار يركب ويذهب لزيارة المشاهد، ويتفرج على مصر، ويتفرج عليه الناس، ويعدون خلفه وأمامه لينظروا ذاته، وكان وجيهًا أبيض اللون، أسود اللحية، جميل الصورة، ثم إنّ عليّ بك أعطاه بلاد فرشوط والوقف، بشفاعة محمد بيك، وذهب إلى وطنه، فلم يحسن السير والتدبير، وأخذ أمره في الإنحلال وحاله في الإضمحلال، وأرسل من طالبه بالأموال والذخائر، فأخذوا ما وجدوه، وحضر إلى مصر والتجأ إلى محمد بيك، فأكرمه وأنزله بمنزل جواره. 

 

يدين الجبرتي  درويش بن همام على استحياء في سياق شروحاته لهذه الفترة وظروفها السياسية يقول: لم يحسن السير والتدبير ويلحقها بجملة: وأخذ أمره في الإنحلال وحاله في الإضمحلال،  وكأنه يحمله مسؤولية عدم استعادة المجد القديم لأبيه ! في حين تظل علاقة محمد أبو الذهب بأكبر أبناء همام الطبية والكريمة من المملوك تجاه درويش غامضة وغير مفسرة، والتي ربما تكون موائمة سياسية من عليّ بك الكبير لضمان الهدوء النسبي في الصعيد. 

 

وفي فقرة أخرى من مؤلف الجبرتي يوجه له اتهامات بشكل واضح .. «ورجع مكرمًا إلى بلاده، فلم يحسن السير ولم يفلح، وأول ما بدأ في أحكامه أنه صار يقبض على خدام أبيه وأتباعه ويعاقبهم، ويسلب أموالهم، وقبض على رجل يدعي زعيتر: وكيل البصل المرتب لمطابخ أبيه فأخذ منه أموالًا عظيمة فى عدة أيام على مرار، أخذ منه في دفعة من الدفعات من جنس الذهب البندقي أربعين ألفا، وكذلك من يصنع البرد للجواري السود والعبيد، وذلك خلاف: وكلاء الغلال، والأقصاب، والسكر، والسمن، والعسل، والتمر، والشمع، والزيت، والبن، والشركاء في المزارع». 

 

سياسة درويش تجاه رعاياه في فرشوط والوقف ـ إقطاعيته الممنوحة له من عليّ بك الكبير، اتخذت النقيض عن سياسية والده الأمير همام بن يوسف الذي كان حسب الحجج المنسوبة إليه يعامل الفلّاحين معاملة طيبة سواء كانوا هوارة أو عربًا أو فلاحين مصريين الأصول، وكان يمدهم بالقروض التي تساعد العاجزين منهم على زراعة أراضيهم، فضلا عن كاريزمته التي امتازت بالعدل والسخاء والكرم والفطنة وحسن السياسة ما مكنه من تألف قلوب الناس في الصعيد بغض النظر عن عرقيتهم حتي مع صالح بك القاسمي حاكم جرجا وهو من المماليك. 

 

 ويثير ذلك عدة تساؤلات عن هذا التغير .. هل كان درويش كالتاجر المفلس يقلب في دفاتره القديمة؟ أم كان يضغط على أتباعه ليفي بالرشاوى والهدايا لأصحاب السلطة في القاهرة من المماليك النهمون للمال طول الوقت؟ لا توجد إجابات كافية للرد عن أسباب تحول الابن للنقيض عن والده، لأسباب ترجعها الدكتورة ليلي عبد اللطيف في شروحها لأحوال الصعيد في عهد همام، أن المؤرخون شاع بينهم في هذه الفترة أن مصر أصابها اضمحلال سري في كيانها وتغلغل في شتي النواحي فأدي هذا إلى انصرافهم عن الاهتمام بتناول الحياة فيه. 

 

ذلك الغموض الذي اكتنف وضعية وحال أبناء همام بعد هروبه إلى أصدقائه في إسنا ثم وفاته قمولا ـ حسب الجبرتي، وهي قرية تتبع مركز نقادة جنوب غرب قنا حاليًا، كان على العكس تماما في الزخم الكبير لحياة عظيم الصعيد همام الذي كان محط أنظار المؤرخين وحتي الرحالة الأجانب ومنهم الاسكتلندي جيمس بروس الذي استضافه همام في فرشوط وهو في طريقه لاكتشاف منابع النيل في إفريقيا.   

 

سياسية درويش بن همام تجاه رعاياه في إقطاعيته واستيلاءه على أموالهم وممتلكاتهم  جعلت لعاب عليّ بك الكبير ومعه محمد بك أبو الذهب، يسيل نحو المزيد من المال والكنوز من بئر همام الأب الذي لم يكن قد نضب بعد رغم نهبه أكثر من مرة بعد هزيمة صاحبة! يروي الجبرتي .. «ووصلت أخبار بذلك إلى علي بيك، فعين عليه أحمد كتخدا وسافر إليه بعدة من الأجناد والمماليك، وطالبه بالأموال حتي قبض منه مقادير عظيمة، ورجع بها إلى مخدومه، واقتدي به بعد ذلك محمد بيك في أيام إمارته ،وأخذ منه جملة، وكذلك أتباعه من بعده حتي أخرجوا ما في دورهم من المتاع والأواني والنحاس قناطير مقنطرة، ثم تتبعوا الحفر لأجل استخراج الخبايا وهدموا الدور والمجالس ونبشوها وأخربوها، وحضر درويش المذكور بأخرة إلى مصر جاليًا عن وطنه، ولم يزل بها حتي مات كآحاد الناس».

 

على ما يبدو أن الحلقة الأخيرة في نهاية مشروع همام بإقامة دولة جامعة للأعراق والعصبيات فضلًا عن الفلاحين وكذلك المماليك المناوئين للحكم المركزي في القاهرة، يكون مقرها في الصعيد، كتبها درويش أكبر أبنائه الذي رشح من قبل هوارة أنفسهم ليخلف أباه بهذه السياسة التي فرقت ولم تجمع أو تعيد المجد الآفل. 

 

ولم تذكر المصادر التاريخية أية ذرية لدرويش ولم يعرف كونه تزوج وأنجب أو لا،  فقد أورد الجبرتي ذرية لشقيقه في ترجمته لهما يورد .. «واستمر شاهين وعبد الكريم يزرعان بأرض الوقف أسوة بالمزارعين ويتعايشون  حتي ماتا، فأما شاهين فقتله مراد بيك في سنة أربع و عشرين ومائتين وألف أيام الفرنسيين لأمور نقمها عليه وخلف ولدًا يدعي محمدًا، وأما عبد الكريم فقد مات على فراشه قريبا من ذلك التاريخ، وترك ولدًا يدعي همامًا دون البلوغ يوصف بالنجابة حسبما نقل إلينا من السفار، وكاتبته وكاتبني في بعض المقتضيات، ورأيت ابن عمه المذكور حين أتي إلى مصر بعد ذهاب الفرنسيين وتردد عندي مرارًا».

 

انتهت حلم دولة همام العادلة بنهاية أكثر من مأساوية ولم تنته الذرية وهي الهمامية عبر أجيالًا  مستمرة عبر القرون تحمل اللقب وتزهو بالتاريخ وتحي ذكري وفاة الجد الأكبر في مثل هذه الأيام أول فصل الشتاء.  

 

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: ذكرى وفاة الجبرتي مرويات المماليك إسنا محمد بیک إلى مصر همام ا

إقرأ أيضاً:

في ذكرى تنصيبه واليًا على مصر.. كيف وصل محمد علي باشا إلى الحكم؟

في شهر يونيو عام 1805م، بدأت مصر عهدًا جديدًا بتنصيب محمد علي باشا واليًا عليها، بعد ثورة الشعب والعلماء التي أنهت سنوات من الفوضى والصراعات بين الجنود، والمماليك، والولاة. وفي ذكرى تنصيب محمد على باشا واليًا على مصر سنتعرف خلال السطور التالية على طريقة وصوله إلى الحكم.

بعد تصنيف هاتف iPhone XS كجهاز قديم.. تعرف على طريقة تصنيف شركة آبل للأجهزةهل سيحل الذكاء الاصطناعي محل العشـ.ـاق الحقيقيين؟ دراسة تجيبتمهيد الطريق: مواجهة المماليك وكسب ثقة الشعب

كان محمد علي يدرك حجم المعاناة التي يتكبدها المصريون من تعسف المماليك ونهبهم، فرفع شعار "تحرير القطر المصري من جور المماليك"، وبدأ فعليًا بتقديم نفسه كبديل يحمي الشعب ويعيد النظام، ولما علم أن الباب العالي عيّن واليًا جديدًا بدلًا من خسرو باشا، أطلق سراح الأخير مؤقتًا احترامًا لأوامر الدولة العثمانية، لكنه لم يستطع حمايته من رفض الجنود، فأُجبر على نفيه إلى رشيد.

والي ضعيف وجنود جشعون

عندما وصل الوالي الجديد أحمد خورشيد باشا، أظهر في البداية قدرة على كسب ولاء الجنود الأتراك والألبان، لكنه سرعان ما أثبت عجزه عن إدارة البلاد، فلم يتمكن من دفع رواتب الجنود، ما أدى إلى عودة الفوضى والسلب والنهب.

في المقابل، اتبع محمد علي نهجًا مخالفًا، فحرص على منع أتباعه الألبان من الاعتداء على الأهالي، بل اجتهد في حمايتهم من تعسف الأتراك، وعندما رأى الشعب ذلك، لجأوا إليه وطلبوا منه أن يكون حاميًا لهم، فوافق على ذلك مقابل أن يوفروا له المال اللازم لتأمين جنوده.

محمد علي بين جيوش الداخل والدلاة

صدر أمر من الباب العالي باستدعاء محمد علي وجنوده الألبانيين، فاستعد للرحيل، لكن كبار العلماء والأعيان رجوه في البقاء، خوفًا من بطش الأتراك، في تلك الأثناء، كانت جموع المماليك تستعد للهجوم على القاهرة، فكُلِّف محمد علي بقيادة الجيش ضدهم.

وأثناء هذه المواجهات، وصل إلى مصر جيش من "الدلاة" الأكراد، أكثر عنفًا ووحشية. فشعر محمد علي بالخطر، وعاد إلى القاهرة، وواجه هذا الجيش عند منطقة البساتين، مدعيًا أنه جاء من أجل دعم السلطان، لا لمعارضته. وبذكائه، كسب ولاء الدلاة بالعطاء والهدايا، وجعلهم ينقلبون على الوالي خورشيد، مما منحه فرصة لدخول القاهرة منتصرًا.

ثورة الشعب والعلماء على خورشيد باشا

عاثت جنود الدلاة في الأرض فسادًا، مما دفع الأهالي إلى الثورة مجددًا، وهذه المرة ضد خورشيد باشا نفسه، توجهت الأنظار إلى محمد علي باعتباره المنقذ الحقيقي، فطلبوا منه أن يتولى الحكم رسميًا، ووافق على ذلك، ثم حاصر القلعة وأطلق عليها المدافع في مايو 1805م.

البيعة التاريخية وتنصيب محمد علي

في لحظة حاسمة، اجتمع علماء مصر وأعيانها وعلى رأسهم الشيخ الشرقاوي والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وألبسوه "الكرك" إيذانًا بتنصيبه واليًا على مصر، لعب عمر مكرم دورًا محوريًا في تثبيت حكم محمد علي، مستغلًا نفوذه الشعبي، واستمر في دعمه لأكثر من أربع سنوات.

أرسل العلماء رسالة إلى السلطان العثماني يلتمسون فيها العفو عما مضى، ويطلبون اعتماد محمد علي واليًا رسميًا. ولما أدرك السلطان مدى التأييد الشعبي له، وافق على تعيينه واليًا في ربيع الآخر 1220هـ / 1805م، وعند وصول هذا الخبر، سلّم خورشيد باشا القلعة وتخلى عن الحكم.

طباعة شارك محمد علي مصر محمد علي باشا والي مصر المماليك

مقالات مشابهة

  • في ذكرى تنصيبه واليًا على مصر.. كيف وصل محمد علي باشا إلى الحكم؟
  • في ذكرى ميلاده.. حسن حسني "جوكر السينما المصرية" الذي صنع البهجة ورحل في صمت
  • فى ذكرى الخواجة بيجو.. 38 عامًا على رحيل نجم ساعة لقلبك
  • بحضور أبناء الصحفيين..إقبال متزايد على مسرح الطفل بقصر ثقافة الأنفوشي
  • أبرزها فيلم درويش.. أعمال منتظرة لـ أحمد عبد الوهاب خلال الفترة المقبلة
  • وزارة الشباب للنواب: نضع محافظات الصعيد على رأس أولوياتنا
  • في ذكرى وفاة محمد متولي الشعراوي.. أبرز الفتاوى التي أثارت الجدل
  • عرض "غنوة الليل والسكين" و"المدسوس" في ختام الموسم المسرحي لقصور الثقافة بجنوب الصعيد
  • ذكرى وفاة الشيخ الشعراوي.. أشهر أعماله خواطر الإمام.. وهذه آخر 18 يومًا بحياته
  • الأوقاف تحيي ذكرى وفاة الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي