حيرة النخب السودانية أمام مجتمع ما بعد الثورة الصناعية
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
حيرة النخب السودانية تجسدها وقوعهم في شرك قد وضعه نخب حزب الكيزان و كذلك شاركهم في وضعه أتباع نسخة الشيوعية السودانية المتحجرة و هذا الشرك ساهم وضع المجتمعات التقليدية في السودان بأن يبارك وضعه بسبب جهلهم بديناميكيات المجتمعات الحديثة أي مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية. في السودان نجد الكيزان و الشيوعيين لا يؤمنون بفكرة الدولة من الأساس الكوز واهم في سياجاته الدوغمائية بأنها فراديسه و الشيوعي منتشي بحتميات و وثوقيات الشيوعية التقليدية.
الحاصل من كساد فكري في السودان الآن نتاج البداية الخاطئة للنخب السودانية من قبل ما يزيد على الستة عقود. في نهاية ستينيات القرن المنصرم كانت أغلب النخب السودانية تظن بأن أقرب طريق للتنمية الاقتصادية هو طريق الحزب الواحد و الإشتراكية و هذا الوهم الجماعي كان قاسم مشترك بين النخب السودانية الكوز و الطائفي في أحزاب الطائفية يظن بأن الثقافة الإسلامية تختزن إشتراكية أبوذر الغفاري و يظنون بأن الإسلام يقع في موقع وسط ما بين الرأسمالية و الشيوعية و الشيوعي في حتمياته يظن بأن نهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي لا محالة ستتحقق في أرض السودان و نجد عبد الخالق محجوب يبحث لدور للدين في السياسة و يتبعه من بعد محمد ابراهيم نقد ليخرج بعلمانية محابية للأديان. هذا الوهم الذي زرع في نهاية الستينيات كان أرض خصبة لنمو و تضخم الكوز السوداني و تعملقه الى أن صار عولاق يظن بأنه عملاق قضى على فكرة الدولة كفكرة حديثة و كذلك قد قضى على فكرة ممارسة السلطة في المجتمعات الحديثة.
و ضعف مثقفي ستينيات القرن المنصرم في السودان السودان كان نتاج ضعف ميراثهم من أتباع مؤتمر الخريجيين و ضعفهم بائن لو قارناهم حتى بمثقفي الدولة العربية من حولنا و النتيجة قد أنجب لنا ضعف مثقفي السودان في القرن الأخير نخب ضعيفة حتى مقارنة بنخب العالم العربي مثلا لا نجد في ساحة النخب السودانية ما هو على مستوى عالم الإجتماع العراقي علي الوردي أو على مستوى هشام شرابي في قدرته على نقده لتجربته و تجاوزه لماضيه و قدرته على التضحية بهويته و قد سبق إدورد سعيد في نقده لجهوده الفكرية و قد ظهرت أفكار إدورد سعيد في أفكاره في كتابه الأخير الأنسنة و النقد الديمقراطي و قد تخلص من إلتباس فكره بما يتعلق بفكرة الدولة الحديثة كمفهوم حديث و ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
ما أود التنبيه له في هذا المقال أن على النخب السودانية مراجعة مرتكزاتها الفكرية في القرن الأخير لأنها ترتكز على قواعد ترابية مؤسسة على الرمال و هي موروثهم من ضعف فكر أتباع مؤتمر الخريجيين و كل جهودهم كانت معاكسة لفكر النخب في المجتمعات الحية و حتى في المجتمعات العربية التقليدية فهم على مستوى ضعف فكري يغيب عن أفقه أي تقديم للجديد الذي يلعب دور بوصلة تشير بإتجاه مسيرة مواكب البشرية.
في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية إنتبه الفلاسفة الى فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و هي نواة الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي لذلك نجد تطوّر الفكر في المجتمعات الغربية بشكل يمكنك تتبع تسلسله عكس حال تطوّر الفكر في السودان مثلا يمكنك أن ترصد فكرة العقد الإجتماعي في فكر جون لوك الأب الشرعي للفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي و نجده في عبقرية كانط النقدية و في علم إجتماع منتسكيو و عقد جان جاك روسو و ديمقراطية توكفيل و آخر محاولات تجديده في نظرية العدالة لجون راولز و في جميع جهودهم الفكرية تجدهم لهم القدرة على التضحية بهويتهم الدينية و تجد فكرهم جميعا كجزء من السرديات الكبرى مقبول بنيله الرضا عكس فكر ماركس و عقد هوبز فقد رفض من بين السرديات الكبرى لأنه يفتح على نظم شمولية بغيضة كالشيوعية و النازية و الفاشية.
التضحية بالهوية الدينية هي كعب أخيل النخب السودانية و عجزهم عن التضحية بالهوية الدينية قد جعلهم يغوصون في وحل الفكر الديني و هنا ينام سر فكر النخب السودانية الترقيعي و إمتيازه بالتوفيق الكاذب و تجده في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان و مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين و مساومة الشفيع خضر بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني و غيرهم كثر من يدعون لمهادنة الطائفية و أتباعها في وقت يتحدثون فيه عن تحول ديمقراطي يقوم على أسس أولها فصل الدين عن الدولة.
نضرب مثلا بجون لوك حيث كان يقول دوما لا يمكنك التحدث عن التسامح و أنت تنطلق من خطاب ديني أي دين أما توكفيل كان يقول من أهم شروط نجاح الديمقراطية هي أن لا يسمح للدين بقوة سياسية و قوة إقتصادية و بالتالي لا يتخطى أتباع الدين حدود مجموعتهم أي أن يترسخ مفهوم الدين التاريخي لأن الدين لا يمكنك أن يكون كجالب لسلام العالم أما فيما يتعلق بالفرد و علاقته بربه فهو أي يصبح الدين أفق الرجاء للفرد في مواجهته لمصيره بعد الحياة الدنيا و هنا يلتقي مع كانط في قدرته على فصل الميتا عن الفيزيقيا و يظل ايمانه شأن فردي يستدل عليه بعقلانيته و أخلاقيته في حدود عقلنا البشري بعيدا عن شطحات رجال الدين.
لذلك لم تعد الديمقراطية كنظم حكم في نظر توكفيل و جون لوك بل هي فلسفة تحقيق فكرة العيش المشترك على أساس المساواة و العدالة التي لا يحققها فكر كلية اللاهوت و بالتالي كانا على قناعة تامة بأن كلية الفلسفة ينبغي أن تنتصر علي كلية اللاهوت و هنا يظهر عجز النخب السودانية و عجز خيالهم على تفوّق الفلسفة على اللاهوت و من هنا يتفق فكرهم الترقيعي و تلفيقكم الكاذب في مهادنتهم للخطاب الديني في السودان سواء كان خطاب أحزاب الطائفية و قد رأينا إحتفاءهم بالصادق المهدي امام الأنصار و هو أقرب لرجل الدين من السياسي الذي يعتبر السياسة شرط إنساني.
و من هنا يمكننا الحديث عن عجزهم أي النخب السودانية عن التضحية بالهوية الدينية كما نجدها في جهود سبينوزا عندما ضحى بهويته اليهودية و قبله ميشيل دي مونتين عندما ضحى بهويته المسيحية و هذا لا يعني دعوة للإلحاد أبدا كما يقول جون لوك بل كان يقول أنه يمقت الإلحاد كما يمقت عدم فصل الدين عن الدولة. لذلك قلنا في أعلى المقال أن النخب السودانية مقارنة حتى بالنخب في العالم العربي في حالة يرثى لها عندما نجد وسط المفكرين في العالم العربي من له القدرة على التضحية بهويته الدينية.
في وقت ظل السودان و خاصة نخبه كآخر حراس للشعلة المقدسة و هنا يظهر لنا غياب من يقدم لنا نقدا يشرح تاريخ الخوف القابع في أعماق الشعب السوداني و قد جعله ضحية ثقافة الخلاص الأخروي و هي تمثل ثقافة القرون الوسطى و أوضح تجلياتها في عدم القدرة على قبول المساواة و العدالة للآخر المختلف و بسببها نجح الكيزان في سوق الشعب بأكمله الى محارق عرس الشهيد في الجنوب و قتل النوبة.
و كله بسبب عدم القدرة على إنتاج فكر يضحّي بالهوية الدينية و الايمان التقليدي و يؤمن بفكر ذو نزعة إنسانية يؤسس للعدالة و المساواة كما يحققها الفكر الليبرالي كنتاج عقل بشري و من أوضح تجليات تاريخ الخوف المسيطر على عقل النخب السودانية تشيع موتى الشيوعيين السودانيين بنوبة الطرق الصوفية كآخر صور تلاشي القرون الوسطى في السودان و هي تأبى أن تزول و يأبدها الشيوعي السودان معبرا عن تاريخ الخوف و لم يكسر هذه الحلقة و يشب عن طوقها غير الأستاذ محمود محمد طه.
إنتاج فكر سوداني يؤسس للعدالة و المساواة خارج حقول الفكر الديني هو نصاب التحول الديمقراطي و هو أول خطوة ترفع الوعي المتدني للسياسي السوداني الذي ما زال يظن بأنه يمكنه تحقيق ديمقراطية بفكر ديني سواء كان في وسط أتباع الطائفية أم وسط الكيزان و تدني الوعي يظهر في إصرار الكيزان و تخريبهم للفترة الإنتقالية لأن الكوز آخر صور القرون الوسطى في السودان و هي تأبى أن تزول و كما قلنا من أوضح صورها عدم القدرة على قبول فكرة العدالة و المساواة و لا يمكن تحقيقها بفكر ديني.
لهذا السبب أي خطوة يخطوها الكيزان في السودان من أجل التخريب لا تجر لهم غير المصائب لانهم أسيري فكر لا يؤمن بفكرة العدالة و المساواة مع الآخر المختلف و مصير الكيزان الزوال و قديما قالوا المطرة و قت تجي تمشي بتكثّر طراقيعها و كل فعل يفعله الكيزان الآن ما هو إلا دليل على أنهم في طريق إنحدارهم و تلاشيهم. و كيزان السودان لا يختلفون عن كيزان مصر و بسبب عقلهم الذي لا يؤمن بالمساواة و العدالة مع الآخر كانوا ضحية إنقلاب السيسي و بسببهم ها هو السيسي يؤسس لنظام حكم تسلطي في مصر.
و كيزان تونس سبب ضياع عشرية سياسية و هي عشرية الغنوشي رغم حيله التي أوردته الى نهاية غير كريمة و هو في آخر عمره و كيزان قطاع غزة ها هي أسرائيل تزيحهم من الحكم الى الأبد و هكذا يظل الكوز عدو نفسه لأنه لا يؤمن بالعدالة و المساواة مع الآخر المختلف في وقت لا يكمنك الحديث فيه عن ظاهرة المجتمع البشري دون تذكر أن روحها معادلة الحرية و العدالة و لا يمكن تأسيسها على أجواء الفكر الديني أي دين.
و أخيرا نرجع لعنوان المقال و نقول للنخب السودانية التقليدية قد حان الوقت للحديث عن مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و تجاوز فكر النخب السودانية التقليدية و حديثها عن نخب ما بعد الكلونيالية أي دولة ما بعد الإستعمار و نخبها التي لم تنتج غير الشيوعي السوداني بنسخة متحجرة جعلته لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس و جعلته شريك للكوز في عدم ايمانه بفكرة الدولة و قد قلنا أن الكوز لا يؤمن بالمساواة و العدالة للآخر المختلف و لا يمكن تحقيق العدالة و المساواة إلا بإبعاد الفكر الديني و وحله و نجده في ايمان الكوز التبجيلي و التقديسي كآخر صور القرون الوسطى التي تأبى ان تزول.
و عليه ندعو للتفكير في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و ليس التفكير في دولة ما بعد الإستعمار هو مخرجنا الوحيد نحو تحقيق تحول ديمقراطي كما كان يتحدث عنه توكفيل في ديمقراطيته بدلا من إصرار فلول اليسار السوداني الرث و حديثهم الماسخ عن البرجوازية الصغيرة كمسبة و هذا مضحك لمن يعرف قليلا من النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النخب السودانیة الفکر الدینی فی المجتمعات فکرة الدولة القدرة على فی السودان لا یؤمن
إقرأ أيضاً:
تآكل مجتمع الصهيونية “اللقيط” من الداخل.. أرقامٌ ومؤشرات
يمانيون|تقرير|إبراهيم العنسي*
تستمرُّ جِراحُ غزة ويستمرُّ نزيفُ الدم الفلسطيني، وتتصاعدُ أرقامُ الموت كما تتعاظم صورة الدمار في عيون العالم، لكن هناك صورة أُخرى تفترض أن كيان العدوّ (إسرائيل) هو الآخر على قدر إجرامه ودمويته، ينزفُ من الداخل، ونحن لا نتحدَّثُ عن خسائره الاقتصادية التي يتكبدها كمثال، بل هو حديث يخص حال مجتمعه اللقيط؛ الأَسَاس الذي قام عليه هذا الكيان والذي سيكون سببًا في زواله.
بالتزامن مع التكتّم الإسرائيلي عن الخسائر المتلاحقة في المعارك التي تخوضها قوات الاحتلال الإسرائيلي مع المقاومة في غزة، تتزايد المعطيات الرسمية التي ترصد تصاعدًا مُقلقًا لحجم المشاكل العقلية والاضطرابات النفسية التي أصابت عموم الإسرائيليين؛ بسَببِ استمرار الحرب على غزة.
هناك مشهد غير مسبوق من قبل يخص الإقبال الكثيف في كيان العدوّ على عيادات الطب النفسي.
حيثُ يجري الحديث بعمق عن تفشي الأمراض السلوكية، والتي تظل مؤشراً لتحول المجتمع الصهيوني مع مرور الوقت إلى “مجتمع مريض”، يعاني أمراضاً لم تكن معهودة من قبل، وسط عجز الحكومة عن تفاديها، في ظل تزايد المشاكل العائلية، وتصاعد حالات العنف الأسري.
جمعية “كيشر لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة” أشَارَت إلى إصابة 100 ألف إسرائيلي محتلّ، منذ بدء الحرب على غزة، بإعاقات مختلفة: حسّية، وحركية، وذهنية، وعصبية، ولم يتمكّنوا من العودة لحياتهم الطبيعية؛ بسَببِ تبعات الهجوم والحرب من بعده. جمعية “ناتال” للمساعدة النفسية الصهيونية تحدثت عن مساعدة قرابة 43 ألف مغتصِب في تسعة أشهر منذ بدء الحرب على غزة.
بينما أعلنت مؤسّسة التأمين الوطني عن إصابة 65 ألف إسرائيلي بأعراض نفسية وعصبية؛ بسَببِ الحرب، منهم عشرات الآلاف مصابون عقليًّا، العديد منهم أُصيبوا بإصابات نفسية خطيرة، فيما يحتاج 30 % من مستوطني غلاف غزة لعلاج صحي نفسي ودوائي لفترة طويلة؛ لأَنَّهم باتوا مختلّين عقليًّا، مرضى نفسيًّا، غير أكفاء.
بحسب عالم النفس الصهيوني يوسي ليفي بلاز، فَــإنَّ العدوان الإسرائيلي على غزة، أسفر عن معاناة ثلث (الإسرائيليين) من اضطراب ما بعد الصدمة، و45 % من سكان المغتصبات من الاكتئاب واضطراب القلق. كما أن 60 % منهم يعانون تدهوراً كبيراً في خصائصهم الاجتماعية والنفسية، و50 % نومهم مضطرب ولا يتحسّن، وباتوا يفقدون صبرهم، ويغضبون بسرعة؛ ما يخلُقُ قدرًا كَبيرًا من العدوانية بينهم، وقدرتُهم على إدارة حواراتهم شبهُ معدومة.
وفقًا لمنظمة “أرانERAN” للإسعافات الأولية النفسية الصهيونية، هناك 48 % من المكالمات التي تصلها تتعلق بحالات القلق، والصدمة، والشعور بالفقد، والعزلة، والوحدة، والاكتئاب، وصعوبة النوم، وهو رقم قياسي ونسبة مرتفعة لم يسبق أن وصلت إليها منذ 1971.
تقول هذه المنظمة الإسرائيلية: إن “عدد المكالمات التي تلقّتها منذ بداية الحرب على غزة، زاد عن 300 ألف مكالمة وكلها تطلب المساعدة النفسية، 40 ألفًا منها وردت من الجنود وعائلاتهم، و58 ألفًا من المراهقين”. وتراها مؤشرات خطيرة، حَيثُ إن بعض الجنود لا يخفون في مكالماتهم أسفهم على أنهم لم يُقتلوا في غزة، في ظل ما يعانونه من توتر وضيق نفسي شديد رافقهم منذ العودة الأولى من حرب غزة، بعد إعلان الهُدنة المؤقتة.
ووفقًا ليوميات الحرب على غزة فَــإنَّ جنود وضباط وسكان المغتصبات الإسرائيلية عُمُـومًا باتوا يدفعون أثمانًا نفسية، وعائلية، ومهنية باهظة؛ فهم عاشوا حالة حرب لفترات طويلة، وما زال العديد منهم لا يستطيع تحمل المزيد من المعاناة.
ويمكن ملاحظة الهروب من التجنيد ورفض الأوامر كمؤشر واضح من مؤشرات التأثير النفسي الكبير على جيش العدوّ ومجتمعه الغاصب.
قبل أسبوع تقريبًا، نقلت هيئة بث كيان العدوّ الرسمية، عن مجموعة من المجندين الصهاينة رسالة لقادتهم قالوا فيها: “بعد 17 جولة دخول إلى غزة، مررنا بعدد هائل من الأحداث العملياتية، قاتلنا لأشهر طويلة، وفقدنا أصدقاءنا، ولم نعد قادرين نفسيًّا على الدخول مجدّدًا إلى القطاع”. هذه ليست الحالة الأولى التي يرفض فيها جنود إسرائيليون دخول غزة.
في أغسطُس الماضي كمثال آخر، طلب نحو 20 مقاتلًا من لواء مشاة من قادتهم عدم المشاركة في القتال بالقطاع، وفق هيئة البث. وقتها، قال الجنود لقادتهم إنهم “بعد عشرة أشهر من القتال في غزة، لم يعودوا قادرين نفسيًّا أَو جسديًّا على العودة إلى القطاع.
وفي ظل التهديد بالسجن لرفض الأوامر يحاول مجندو العدوّ الإسرائيلي في غزة مواصلة القتال، لكنهم في الواقع يعانون أزمات نفسية كبيرة مُستمرّة منذ بدء الحرب على غزة وحتى اليوم. الصراخ والعويل والبكاء هي ردود فعل يشترك فيها مجندو العدوّ، حَيثُ فكرة الموت تبقى كابوساً مؤرقاً لهم.
ومن ضمن الصورة القاتمة لمجتمع الخوف الصهيوني، هناك ما يزيد عن 300 ألف إسرائيلي مغتصب يعانون من أمراض نفسية خطيرة، (ما قبل الحرب على غزة)، إلى جانب أن هناك (مليون مغتصب) في طوابير انتظار العيادات النفسية.
صفارات الإنذار:
لقد تركت الحرب على غزة آثارها الكارثية على الجسد والذاكرة والنفسية الإسرائيلية كما تظهرها الأرقام. ومنها آثار صفارات الإنذار ودوي الانفجارات.
هناك التوترات المتكرّرة والمصاحبة لأصوات الإنذار المتكرّرة مع وصول أَو سقوط الصواريخ.. أصداء الانفجارات التي تُسمع في المستوطنات والمدن، واقع خلق اضطرابات شديدة في الروتين اليومي لمجتمع المغتصبات، ومعه انحسار مؤشر الحياة الجيدة، التي يتمتع بها جزء من المجتمع الاستيطاني المحتلّ.
يمكن تصور واقع مجتمع الصهيونية اللقيط، مع سماع دوي صفارات الإنذار في أنحاء المدن والمغتصبات ومعها ترقب الذهنية الإسرائيلية المرهقة وردة فعلها التلقائية في قصد الملاجئ الداخلية أَو الخارجية، وما يرافق ذلك الموقف من انفعالات، وصراخ… إلخ.
مع تكرار هذا المشهد منذ بدء الحرب على غزة وحتى اليوم، يمكن إدراك أن هذا المجتمع المطبوع بحالة الخوف، معرض بكليته لاضطرابات جسدية وسلوكية ونفسية شديدة ومعقَّدة.
ومع إضافةِ الأرقام السابقة التي تقدِّمُها الإحصائياتُ الإسرائيلية والمراكز البحثية يمكن الحديث عن تضاعُفِ هذه الأرقام بعد عشرين شهرًا من حرب غزة. هناك زيادة بنسبة تقارب 900 % في عدد من يتلقّون الرعايةَ الصحية النفسية السريرية منذ اندلاع الحرب؛ أي مضاعفة هذا الرقم 15 مرة تقريبًا منذ بدء الحرب على غزة؛ ما يؤكّـد أن هذا الكيان المسخ والمجتمع اللقيط المصطنع سيكون أمام معضلة عميقة وتأثير استراتيجي، على تركيب هذا الهيكل الهزيل.
تآكل الثقة:
الآثار النفسية غير المسبوقة التي تركتها الحرب على الإسرائيليين، رافقها شعورٌ بالخيانة من الكَيان، وعدمُ ثقة بحكومة الكيان، وشعورُ 67 % من مجتمع العدوّ الإسرائيلي بعدم الأمان، وهذا رقمٌ كبير جِـدًّا.
وفيما يخص مستقبل الكيان هناك تعاظم في مؤشر اللا انتماء والبحث عن بدائلَ للعيش خارج جغرافية فلسطين المحتلّة. هذا المؤشر قد لا يكون ذا أثرٍ سريع ومباشر، لكن تأثيره العميق سيكون ضمن التأثير الاستراتيجي على وجود وقوة كيان العدوّ.
اعترف 65 % منهم أن شعورهم بالانتماء لـ (إسرائيل) انخفض بشكل كبير، 67 % يُفكِّرون بالانتقال إلى دولة أُخرى، وهذه أرقامٌ لم تُشاهد من قبل، لكنهم يبرّرونها بأنهم “ليسوا مضطرين للعيش هُنا”.
رغم كُـلّ هذه الإحصائيات، إلا إنها تظل أرقامًا أولية، استنادًا إلى اعتماد الكيان على سياسة التعتيم الصارم. فحجم وصورة الضرر الظاهر المادي السلوكي والنفسي على الكيان ما تزال سطحية ومبسطة. ما تحت رماد الحرب والعدوان على غزة هناك تداعيات سيكون لها التأثير العميق، في تآكل وانفراط عقد هذا الكيان الهزيل، في ظل جيل صهيوني لن يكون مستعدًّا أَو قادرًا على الاستمرار في مواجهة صمود ومقاومة أهل الأرض.
*المسيرة نت.