اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، هكذا تعمل آلة الدعاية الإعلامية الحديثة منذ تطور وسائل الاتصال والإعلام.

وقد كانت الكذبة كبيرة حقا في القرن الماضي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، كانت هذه أول الأكاذيب التي تلتها أكاذيب أخرى كثيرة من مثل "أرض الميعاد" وغيرها الكثير ولكن، مهما تم تكرار مثل هذه الأكاذيب، ومهما صدقها الناس، أو حاولوا تصديقها، فإن الحقيقة تبقى ثابتة راسخة وهي أن فلسطين بلد الفلسطينيين منذ آلاف السنين.

وهنا، فإن التوثيق مهم، بل يغدو في غاية الأهمية، فهو الركيزة الأساسية التي تستند إليها الحقيقة، والأداة الرئيسة لدحض الأكاذيب ومحاولة طمس الحقائق.

ويوثق كتاب "فلسطين الشهيدة.. سجل مصور لبعض فظائع الإنجليز واليهود 1921-1938" بصور نادرة جرائم الاحتلال الإنجليزي لفلسطين تمهيدا لإنشاء وطن قومي لليهود حسب وعد بلفور، ويبدأ الكتاب بتوثيق ثورة عام 1921 في مدينة يافا وما حولها، والتي وصلت إلى منطقة طولكرم، وقد ارتكب فيها الإنجليز واليهود جرائم شنيعة بحق الشعب الفلسطيني.

ثم يوثق الكتاب "ثورة البراق عام 1929″ وقد شملت هذه الثورة فلسطين كلها، وكان سببها اعتداء اليهود على حائط البراق والمسجد الأقصى، وكان ضحاياها بالمئات، وعلى أثرها علق الإنجليز أعواد مشانق القافلة الأولى من الشهداء والتي ضمت: فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم. ويوثق الكتاب بالصور أحداث هذه الثورة والجرائم التي ارتكبها الإنجليز والعصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه.

كما يوثق الكتاب "ثورة المظاهرات عام 1933" وصولا إلى الثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت في 19 أبريل/نيسان 1936، واستمرت أحداثها حتى عام 1939، ويوثق الكتاب أحداثها وجرائم الاحتلال الإنجليزي والعصابات الصهيونية حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1938، وهو الشهر الذي صدر فيه هذا الكتاب النادر الذي خشي مؤلفه وضع اسمه عليه خوفا من بطش الاحتلال الإنجليزي الذي كان يعتقل ويقتل على الشبهة في تلك المرحلة الحرجة من التاريخ الفلسطيني.

تعرية الأكاذيب الصهيونية-الإنجليزية

اللافت في هذا السجل هو استخدام مؤلف هذا الكتاب منهجية علمية لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي تستخدمها التقارير الحقوقية الدولية هذه الأيام في وقت مبكر من القرن الماضي، لم تتبلور فيه بعد ماهية المنظمات الحقوقية المعروفة لدينا اليوم ولا منهجيتها في التوثيق.

وبشأن أهمية هذا الكتاب ومنهجيته التي تعتمد على التوثيق بالصورة وتحديد التاريخ الدقيق للأحداث التي تدحض الأكاذيب الصهيونية من أن فلسطين أرض بلا شعب، يقول عميد كلية الآداب في جامعة فيلادلفيا الأردنية، الأستاذ الدكتور محمد عبيد الله، إن "المقاومة التي يصورها هذا الكتاب التوثيقي المهم تمثل صورة أصيلة وتاريخية من تراث المجابهة والدفاع عن حق الحياة والوجود، وتفضيل الإنسان الفلسطيني الموت بكرامة على الحياة المهينة في ظل استبداد المستعمر".

وأضاف عبيد الله "تحمل الشعب الفلسطيني أشكالا لا تحصى من محاولات التدمير والإبادة والمحو، ولكنه ما زال يحيا ويقاوم، وما صور اليوم التي تأتي من غزة، ومن سائر المناطق الفلسطينية إلا دليل على أن روح المقاومة لا يمكن استئصالها، وإنما المستعمر هو الذي سيستأصل ذات يوم غير بعيد".

عبيد الله: الشعب الفلسطيني تحمل أشكالا لا تحصى من محاولات التدمير والإبادة والمحو ولكنه ما زال يقاوم (الجزيرة)

ويؤكد عبيد الله أن "توثيق الجرائم بالصورة والصوت وبكل وسيلة ممكنة أمر ضروري، وهو أقل ما يمكن فعله إزاء الضحايا الذين لم تستطع الإنسانية حمايتهم، على الأقل حتى لا يفلت الجاني بجريمته، وأن نؤرخ ونسجل من أجل الحاضر والمستقبل هذه الوثائق الدالة على هذه الجرائم. والعمل على أن تكون جزءا من ملفات أوسع ليتم مقاضاة مجرمي الحرب الجدد، بل حتى الاستعمار البريطاني نفسه، والاستناد إلى هذه الوثائق المهمة لقدمها ولطبيعة الأحداث والوقائع التي توثقها، ومساءلة الدولة الوريثة ومقاضاتها بأثر رجعي"، بحسب تعبيره.

وأوضح عبيد الله أن بريطانيا "هي التي هيأت بجرائمها ومساندتها الطريق أمام الصهيونية، سواء بإصدار وعد بلفور الذي يمثل أكذوبة لا تستند إلى أي حق بإصدار مثل هذا الوعد، ولذلك فإن كتاب فلسطين الشهيدة هو وثيقة مهمة تذكرنا بهذا التاريخ الدامي، وبأن هذه الجرائم ليست أحداثا فردية، وإنما هي نابعة من أيديولوجيا احتلالية استعمارية".

من جانبه، يقول أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة البلقاء التطبيقية، الدكتور أحمد خليف العفيف، "رغم أن مُعد الكتاب مجهول وكذلك الجهة الناشرة، فإنه يحتوي بالمجمل على مادة تعد غاية في الأهمية عن الفترة التي تناولها، قد لا تتوفر في المصادر الأخرى الصحفية والوثائقية، وتتمثل بمجموعة كبيرة من الصور التي تبرز حقيقة المخطط الصهيوني الإجرامي الرامي إلى تفريغ فلسطين من أهلها، وتنفيذ أبشع الجرائم في سبيل تحقيق المخطط الصهيوني الساعي لإقامة دولة يهودية في فلسطين عاصمتها القدس، هذا المخطط الذي برزت ملامحه بكل وضوح من خلال المجازر التي ارتكبتها إسرائيل وبريطانيا منذ بدايات الحرب العالمية الأولى كما تبين الصور المنشورة في هذا الكتاب".

ويؤكد الشاعر الفلسطيني جميل أبو صبيح أن "كتاب فلسطين الشهيدة يحتوي صورا توثق الحياة اليومية في فلسطين قبل النكبة، بما يضفي عليه دحضا مضادا للمقولة الصهيونية التي نشرتها الوكالة الصهيونية في نهاية القرن الـ19 من أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ومن هنا جاءت أهمية هذا الكتاب في تعريف سيطرت عليه، وبثته الدعاية الصهيونية وإعلامها المنتشر عالميا مقابل ضحالة الإعلام العربي، وهيمنة الاستعمار الأوروبي على العرب".

أبو صبيح: كتاب "فلسطين الشهيدة" يحتوي صورا توثق الحياة اليومية في فلسطين قبل النكبة (الجزيرة)

ويوضح أبو صبيح أن الأمة عاشت "ضعفها وغياب قدرتها على دعم الفلسطينيين ومساندتهم على المقاومة منذ الثورات الأولى عام 1921 وعام 1928، والثورة الكبرى عام 1936 التي أفشلها الخداع البريطاني باتساق معظم العرب مع هذا الخداع لأسباب فيها كثير من الخضوع والخنوع للموقف البريطاني الذي أصدر "الكتاب الأبيض" المتضمن إيقاف الهجرة اليهودية، بسبب المقاومة الشرسة التي أبداها الشعب الفلسطيني أثناء الثورة الكبرى".

ويضيف أبو صبيح "حتى إذا هدأت الثورة، وانتهت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية، عادت لعدوانها وغدرها فأصدرت "الكتاب الأسود" الداعم للاستيطان اليهودي ليدرك الفلسطينيون حجم الخديعة والمؤامرة التي تعرضوا لها، وما زالت فصولها مستمرة حتى الآن" بحسب أبو صبيح.

هل يعيد التاريخ نفسه حقا؟

مما يثير الدهشة في هذا السجل النادر، هو تكرار الفعل، فكأنما يعيد التاريخ نفسه بصور مختلفة لذات الفعل، فجرائم قتل الأطفال والمدنيين العزل، وقصف البيوت، بل نسف قرى وأحياء ومربعات سكنية بأكملها، وتهجير الشعب الفلسطيني قسرا من بيوته ومدنه، وبحث الفلسطينيين عن بقايا أثاث ومتاع بين ركام منازلهم المدمرة تتكرر الآن في غزة كما حدث سابقا في طول فلسطين وعرضها على يد جنود الاحتلال الإنجليزي والعصابات الصهيونية.

ويقول عبيد الله ردا على هذا السؤال "ربما لا يعيد التاريخ نفسه، ولكن الاستعمار بأشكاله المختلفة وبأذرعه المتنامية هو الذي يكرر نفسه، فيعيد إنتاج الجرائم نفسها، مع تطوير ما يلزم منها وفق أحدث تكنولوجيات الحرب ووسائلها".

ويؤكد عبيد الله أن "الصهيونية هي وريثة الاستعمار الغربي وهي خلاصته وجامع شروره وأطماعه، ولذلك فإنها تتفوق عليه في أدائها، وفي نهج التخريب والتدمير الذي تتبعه، إنها ليست مجرد احتلال أو قوة عسكرية غاشمة تستعرض قوتها، بل أبعد من هذا، فهي تنطلق من رغبة مكبوتة في مسح وجود الإنسان الفلسطيني والعربي لتطمئن إلى حلولها في مكانه، ذلك أنها تدرك أنها حرب وجودية، وليست خلافا عرضيا على تفاصيل محددة".

ويتابع عبيد الله "من هنا، فإن فشل "محاولات السلام" يعود إلى هذه الأيديولوجيا الصهيونية بوعيها الاستعماري الذي لا يكتفي باحتلال الأرض والممتلكات، ولكنه يريد قتل الإنسان وإلغاء وجوده ليصل إلى تصديق الكذب الذي وقع فيه، من أن أرض فلسطين "بلا شعب" فارغة، لا تحتاج إلا إلى سكان "متحضرين" لتعميرها، هذه هي الحجة الاستعمارية القديمة، التي تنطلق من مركزية الذات الغربية في انطلاقها من مبدأ التفوق والأفضلية على الآخرين، ولذلك لا ترى الآخر إنسانا بل حيوانا أو أقل".

من جانبه يقول الأستاذ الدكتور أحمد العفيف "على الرغم مما يمارسه الصهاينة بدعم من القوى الكبرى المتحالفة معهم من ممارسات همجية إجرامية بشعة ضد الشعب الفلسطيني على مدار قرن من الزمان بصورة تخالف كل القيم السماوية والإنسانية، فإنه لا يمكن القول بأن التاريخ يعيد نفسه تماما إذا ما قارنا بين ما حدث في الماضي، وما يحدث الآن في غزة وفلسطين من جرائم إبادة جماعية بشعة على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في العالم".

ويوضح الدكتور عفيف أنه "ورغم التشابه الكبير بين المجازر التي ارتكبها اليهود وحلفاؤهم البريطانيون تجاه الشعب الفلسطيني على أرضه خلال النصف الأول من القرن الـ20، فإن المشهد التاريخي الآن مختلف تماما، وبشكل خاص فيما يتعلق بالجانب الفلسطيني من حيث القدرة على المقاومة والتنظيم والاحتراف القتالي في مواجهة التعنت والإجرام الصهيوني، حيث تظهر المقاومة الفلسطينية الآن بكل تمكن واقتدار في مواجهة قوات الاحتلال، وتلحق خسائر فادحة بها، وتواصل مواجهتها لفترات طويلة على خلاف المراحل السابقة التي كان الاعتماد فيها يتم على الجيوش العربية القادمة من خارج فلسطين، ففعل المقاومة الآن هو فعل فلسطيني بحت".

وثيقة تاريخية وليس مجرد كتاب مصور

وعن أهمية طبع هذا الكتاب وترجمته ونشره على أوسع نطاق، كونه كتابا نادرا غير متوفر، رغم وجود نسخة مخطوطة منه متاحة للتحميل عبر الإنترنت، ومع ذلك لم تقم أي جهة أو دار نشر حكومية أو خاصة بإعادة طبعه وتوزيعه، رغم أهمية المعلومات الواردة فيه، يقول الدكتور محمد عبيد الله "هذا كتاب مقاوم بالصورة والمعلومة، وينتمي حقا إلى موروث المقاومة وتاريخها، ويؤرخ لوقائع الجرائم ويثبتها بدقة، فهو بهذا المعنى وثيقة وليس مجرد كتاب تاريخي مصور. لذلك فإن تجديده والعمل على نشره يدعم فكرة المقاومة ويذكر بتاريخها ويضع الجرائم الراهنة في سياق أوسع طالما أقدم عليه الاستعمار في تاريخه الدموي".

ويوضح عبيد الله "يتضمن هذا الكتاب المصور مشاهد مؤلمة توثق بعض ما أقدمت عليه سلطات الانتداب وجنودها، وبعض ما تدربت عليه المجموعات الأولى من العصابات الصهيونية لدى تلك السلطات وبدعم مباشر منها، وهو جدير بالاهتمام والعناية بكل الطرق الفنية الحديثة، لإحياء الذاكرة باتجاه تاريخ المقاومة وتاريخ الاحتلال، ذلك أن الصراع لم يبدأ اليوم، وإنما يمتد لأكثر من 100 عام، وما زال شعبنا يواجه صنوف التهجير والتدمير والقتل والإيذاء بالصبر والمواجهة ورفض الاستسلام. لكل ذلك لا بد من مشاريع وطنية تتصل بالأرشفة، وتشجيع مبدأ المقاومة بالأرشيف، بما فيه من وثائق وصور تبقي سجل الجريمة مفتوحا حتى يحاسب الجاني والمجرم على أفعاله، ولو أمام الأجيال والتاريخ".

ويختم الدكتور عبيد الله بالقول "إن إحياء الأرشيف المقاوم وأرشيف الجريمة يسهم معرفيا في إنصاف الضحية، والشعب الفلسطيني بأسره ضحية همجية الحضارة الأوروبية الحديثة كما يبدو، وصور كتاب "فلسطين الشهيدة" تريك جانبا مما ارتكبته "الإمبراطورية"، وآن الأوان أن يتم الردّ عليها بالكلمة والصورة والوثيقة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاحتلال الإنجلیزی یعید التاریخ نفسه الشعب الفلسطینی هذا الکتاب عبید الله بلا شعب

إقرأ أيضاً:

قصة حُلم معطّل (8)

 حمد الناصري

   نظرت كاترينا إلى سعيد وأردفت: أنا معك سعيد.. صيّرني كيف تشاء. ردّ سعيد، ردّاً على همسها الموسوس له، لكني لم أفهم ذلك التبادل ولا أعي تجارة المنفعة.. ردّت الفتاة الطويلة الشقراء كاترينا، فكّر جيداً فجمع المال ليس بالأمر السَهْل، ومشاكلك المالية والجسدية ليس لها حلول سحرية، فكُل عمل له نشاط وكل لذّة لها مُتعة، ولكل منهما ثمن، ومن يُفرّط فيها يندم ويخسر ويتحسّر، نحن سنعمل معاً، ونضع أموالنا معاً ثم نكون كيف شِئنا. فردّ سعيد بهدوء كأنه يتغابى أو يستغبي، مُتجاهلاً ما تعنيه، رغم أنّ مشاعره صادقة نحوها ... لكن الطريقة والنتيجة غامضتين ولا تُوحيان بالثقة أو بالأمان.

   تدخّل ميلاد إبراهيم وكان قريباً منهما.. وسمع محاورتهما، وقال: الشي الذي نطلبه منك.. أن تكون جاهزًا وحاضراً معنا وداعِمًا لنا، ولك الأمان والمال نقتسمه بالتساوي. عقّبت كاترينا، لا يبدو في الظاهر أنّ سعيداً جاهزاً، ولكنّهُ في الباطن يُقرّ برغبته في العمل بجدّ. فـ سعيد الحوز يُحب أن يكون بعيداً عن تصرّف الآخرين، وأن لا يكون تحت أمرتهم، وهو ليس مُلزماً للعمل معنا في المجال الفندقي أو الاهتمام بضوابط مرتادي الفندق الفارهين.. لا يزال يبذل ُ في العمل من أجل تأمين لقمة عيشه وتلبية احتياجاته، لكنه يريد أن يعرف، ما هو دوره الحقيقي معكم؟ فردّ سعيد: صدقت "مدائن "ما هي خطّتكم وما هو عملكم؟ ردّ ميلاد إبراهيم قائلا: على كل فتاة دفع مائة ريال في الشهر كأجر تنقل للأماكن التي ستذهبن إليها.. ناهيك عن عمولة الأمان من خلال ما ستحصل عليه فوراً، والقسمة مُناصفة بيننا، فلهن النصف بثلاثتهن ولنا النصف ونقتسمه بيننا ـ أنا وأنت ـ أيّ لكل منا النصف.. وأي فائض مُسْتحق، كالإكرامية. ستكون القسمة عادلة، أي تكن قسمتها على أربعة ولن يكون سعيد مسؤولاً عن أي شيء، فقط عليك تأمين السرّية لهن واحترام الاتفاق بيننا، فعندما تلتقي المصالح تختفي الخلافات والمشاكل، أو ما يُسميها البعض، لُعبة المصالح لا بُد لها من منافع والمنافع لا تكون إلا بالمُبادلة.

       قال سعيد على عُجالة، وأنت ما هو عملك؟ فردّ ميلاد إبراهيم، أنا سأكون برفقتهن، أفاوض في كل شيء.. وأدير أمورهن. وأنت بعيد عن كل تلك التفاصيل إلا في خدمة التوصيل وتأمين السرية.. لا غير. ولك عليهن حق، في الوقت المُناسب. هُن يَقمن بعمل كل شيء لا دخلك فيهن، لا نسألكَ فِعْل شيء غير ما اتفقنا عليه، ولا تسألنا عن شيء بعدها. ولا دخل لك، غير إيصالنا إلى وجهتنا.

    تنبّه سعيد الحوز لصوت الفتاة الشقراء التي أعجبته، لا تأمن في كل شيء.. خذها من عندي وزيادة ... انتفض قلبه وطار عقله، وارتعدت أطرافه واهتزّ جسده.. وبدأ قلبه يخفق بقوة وسرعة.. وتصبّب العرق من جبينه.. ماذا يعني ذلك كله؟ أنا أكون سمسارا للنساء؟ بمقابل إشباع رغبتي؟ هل وصل بي الحال إلى هذا الدرك السافل؟ لا.. لا.. لن أفعل ذلك ولن أقبل، حتى لو وضعوا السكين على رقبتي؟ هذا فسق وفجور واضحين لا لُبْس فيهما.. حرنَ بقوة في عين ميلاد إبراهيم وتمتم في داخله، أنا طيلة حياتي كنت مع الموثِق الشريف؟ مع مبدأ الإلتزام؟ ومع مبدأ العمل الشريف والكسب الصحيح.. لن أفعل ذلك مطلقاً. المال الذي يأتي بهذه الطريقة القذرة يُورث الندم والحسرة بل ويحلّ الشُؤم والبَلاء على من يتخذ ذلك الطريق الفاسد.. فالفضائل لا تتبدّل إلى فِعْل مُسْتقذر.. تأسّف في نفسه وتحسّر من دناءة تفكير ميلاد إبراهيم، وقال في نفسه: ماذا لو فعلتُ ذلك القبح ألا أستحيي من نفسي ومن أهلي؟ ألا أخشى من السقوط في ذلك الحضيض الآسن أو النزول إلى هاوية عميقة ليس لها قرار وعاد يُحدث نفسه، أفعال تُنكرها النفوس الواعية.. وتُجرّمها العقول المُدركة الواعية؟ فاستوقفته الكلمات وحتى كاترينا نالت من غضبه الكثير، فقد أدركت حين ولّى غاضباً بطريقة مستفزة، ودلّف إلى الداخل ، وغرق في الهذيان، وكأنّ تفكيره انقسم على بعضه، كأنّ هناك من يشوش على قاعدة تفكيره السليم.. أرى أنّ تعطيل المُحرّمات واجب تُفرضه الأحوال الحياتية، لم تزل شاباً يافعاً، قوي البُنية، لديك طاقة ونشاط وفي حاجة ماسّة لجسد يُريح بالك ونفس تقترب منك.. لوّح رأسه واحمرّ وجهه، وزوّت عينيه، خوف يتحوّل إلى سوداوية إلى وساوس وقلق، لا يُمكن أن تكون لطيفاً وتستسلم لتعاملات مشبوهة، وتقترب من الانحراف، لا بُدّ أن تنتبه، لا بدّ أن تعيها بكل يقظة طالما علاقتها ترتبط بالقيم، لا سلام مع ضمير ميّت، لا أمان مع قاتل ولا حياة مطمئنة مع جلاّد.

    تقوقع سعيد نائيًا بنفسه عن كلما يستخف بالقِيم والسّمت.. وأشار إلى نفسه.. أنا لستُ بأقلّ من الآخرين.. الذين خرجوا من بيوتهم بحثاً عن عمل، ولم يأتوا بشيء مُهين أو بفعل يُنظر إليه بدونية ومهانة وإذلال.! بل كانوا رجالًا يتمتعون بالعزّة والكرامة، وكان حماسهم أفضل من خطوة تُؤدي إلى تقليل قيمتهم.. فلا تحزن إذا تطاول عليك من لا يَسوى نزوة كبريائك.

     اعتكف في أقصى رُكن في الصالة، جدران الصالة كُتِب عليها أرقاما مُتعرجة وإشارات مختلفة وعبارات مقطوعة، هزّ رأسه ربما هي مقطوعات موسيقية، واستغرق في التفكير، مال برقبته إلى صدره.. تتنازعه نوازع، وتستحثّهُ رغبات وتستوقفه مخاوف وروادع أخلاقية ودينية، انسحب العقل إلى عاطفة مَشوبة بالخوف. فكانت النتيجة صِدامًا بين قوتين؛ قوة الرغبة الجسدية العمياء وقوة السّمت المُنتصر. فزادته قوة السّمت مناعة عقلية وجسدية.. ومكّنته من أن يتغلّب على تلك العلائق المَشوبة بالرغبة العارمة.
    
       رنّ هاتف كان إلى جانبه، على طاولة صغيرة بالقرب من سعيد.. آلووو تعال.. أدخل.. أنا في الغرفة 56، تحسّس وجهه الحليق، ألقى نظرةً إلى ملابسه وقال في نفسه، هل سيشهد اليوم حدثاً لا يخطر على البال؟ وتساءل في نفسه بضيق، لماذا تفعل تلك الفتيات بأنفسهن ذلك الفِعل المُشين؟ لماذا يبعنَ أجسادهن مقابل ثمن بخس؟ ولماذا يسمحن لمن يَملك المال بتدنيس أغلى ما عندهن؟ فجأة كان عند باب غرفتها الـ 56، طرق الباب وبدا عليه التردّد، وسَئل نفسه، لماذا أنجرّ إلى حبائلهن لربّما مكيدة أو مصيدة يفتعلنها ؟، ثم ماذا؟ فضيحة بين العُربان؛ هكذا قالها بالعامية الدارجة.. واقتربتْ منه، وتبادلا الابتسامات والترحيب والتحايا، وبدتْ تعرّفه على نفسها وهي تضع قاعدة جسدها على الكرسي الفخم، قرّبت يديها منه، شعرت أنّه يسحب يده بتلقائية، مطّت بوزها، وتمتمت في داخلها: مهلاً سعيد، سنضرب الحديد بالحديد وسنشدّ القبضة على الحرير، وتمتصّ المشاعر بعضها، عُذوبة ونعومة، تتجاذب فيما بينها، وحرّكت رأسها بنشوة، وإذا ما ارتسمت ملامحها كزيتونة شقراء، وازدادت شُحنة مَلساء، فلا شيء بَعدها ، لا شُحنة ولا شُقرة ولا مَلساء وستنسى أيها الحبيب، ما أحزنك.

      تنهّدت بعمق.. ابتسمت.. كسرت عينيها عمّا رأتْ؛ خشية العُجالة في ما يُنجز، فالمُهمة تحتاج إلى مُداهنة.. انتبهَ سعيد إلى انكسار نظرتها، بعدما فتنت نفسها بنظرة، ظنّتها إيجابية، قالت بمكر النساء.. ألن تضع جسدك على الفراش؟ يبدو أنّك مُتعب نفسياً، وعقلك غارقٌ في تفكير لا أعلمه.. لا تخف يا سعيد.. فالحكمة تقول: داري من يُداريك، وأنسى من اختلف عنك وخالفك. حرّكتْ كرسي كان حاجزاً بينهما، واقتربت أكثر.. اسمي مدائن، لكن كاترينا هو اسم للشغل فقط.. ضحكتْ.. وضغطتْ بضربة خفيفة على ركبته.. ابتسم سعيد، وهزّ رأسه دون أن يبزم.. وفي نفسه.. مدائن.. اسم لذيذ كما لو أنّه فاكهة بدون بُذور.. قالتْ وكأنّها تتحسّس بطنها.. وأشارت.. هيَ فارغة.. معدتها تصرخ.. نظر سعيد إلى حركة إشارة سباباتها.. ولم يُحدّثها، لكنّه ألقاها على نفسه.. المُتعة لمن يستحقّها.. ابتعد قليلا.. وتنحىّ جانباً.. وقبع غارقاً في تفكير، يُقاوم شيطانه.. سحبته من ذراعه ليقترب منها وأردفت: أنتَ تستحق كل شيء، كل ما ترى، هدية لك.. دسّت شيئاً ما باحترافية في جيبه.. ابتعدت عنه قليلاً، كانت مدائن أو كاترينا ماكرة، كما لو أنّ ثعلبة تُحاول أن تغلبهُ بمكرها، فأحسّت بقوة تملؤها نشوة الانتصار، تلفّتت يمنة ويسرة، سُرور بالغ في داخلها، دمعة الفوز بمن عشقته بين كفّيها وفرحة سرتْ في داخلها وانبساطٌ عمّ أرجائها، بينما سعيد الحوز أكتفى بكيّها بتتابع نظراتٍ غير حارقة، نظرات تخنقها العَبْرة والحُزن على ما فرّط فيه حُلمه، وهزّ رأسه بضيق شديد، وتمتم، ما قد تعطّل لا تصلحهُ نعومة ولا تردّهُ خشونة.. أغنية تهلّل بها، بصوت فنان لا أحد يعرفه، قال لـ كاترينا، إنه فنان قديم، من الزمن الجميل، ربما كان من المُعطّلين جسدياً.. لم تفهم كاترينا كثيراً رغم أنّها ماكرة في شغفها وكيدها، توقّفت أمام كلمته وإشارته.. وهزّت رأسها بلا فهم لمغزى رسالته.. وتمتمت.. هات نسمعها بصوتك.. كنت ترددها في غرفتك، أليس كذلك؟ هزّ رأسه إيجاباً.. عقّبت: طيب، هات، اسمعني إيّاها بصوتك ... فرفع صوته قليلاً، وتمايل وهو يغني.. أنا موجود بالمدينة.. وعشت في القرية.. لا خائف ولا قلق.. أنا موجود.. أنا معكم، اسمع وأرى، لكنّ طبعي لا قدرة له ولا سند ومصدره لا يلتفت.. كم قلتها، هي حاجتي، تغلب حاجتي مطلبي، مصدري بلا سند.. أنا موجود ولكن لا اختبار له.. والخوف غارق في طاقتي والعُطْل حاجتي.. أنا موجود، ازداد صبراً، والصبر قوتي لا اختياري. كما السكون لا شأن له بالسّمت ولا حال للصّمت ولا شأنا.

     صرخت في وجهه ما هذه السذاجة، ما هذا الاستخفاف؟ أأنت مجنون أم بكَ جِنة أو هوس وحماقة أو اضطراب نفسي؟! سكتتْ ثم ضحكتْ.. كانت مدائن فتاة رائعة، تزدان بهيبة طولها ورقّة جسدها، عذبة الصوت تمتلك حنجرة ذهبية، حنجرة ملساء ناعمة كشَفتيها وأشيائها الطاغية.. وبمكر نسوة المدينة الصاخبة، تمتمت، يُعجبني كلام المجانين وسذاجتهم إلى حدّ بعيد، المجانين هم مصدر القوة.

   ليلٌ مضى مَشحون بالقلق والمخاوف، ليلٌ يُودّع آلاماً من وجع حقيقي لا يُحفّز على الأدب والعطاء ولا على الخير، ليالٍ رغم دِفئها لا طُمأنينة فيها، لياليها جفّت من الفضائل وسادت فيها الخيانة وانتشر الفساد في البر البحر والرمال وفي رؤوس الجبال المُحيطة بالمدينة الزاخرة بالرّفاه والمتاع. 

يتبع 9

مقالات مشابهة

  • قصة حُلم معطّل (8)
  • نبيلة عبيد 30 يونيو: كانت صرخة وطن.. رجعتلنا الأمان والكرامة
  • من تونس إلى الأردن ولبنان: اعترافات عربية بتفوّق الدور اليمني في نصرة فلسطين
  • “حماس” تدعو الشعب الفلسطيني إلى مواجهة الجرائم المتواصلة للصهاينة في الضفة
  • انتصار يعيد رسم موازين القوة
  • حميد عبيد من أوائل الثانوية: «انصدمت»!
  • محللون وخبراء: المهلة الزمنية التي حددها ترامب لوقف إطلاق النار بغزة غير واقعية
  • «المصور مات وكملنا عادي».. سلمى أبو ضيف تروي ما حدث معها أثناء التصوير
  • «البديوي» يدين استمرار الهجمات العدوانية التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني الأعزل
  • أمين مجلس التعاون يدين استمرار الهجمات العدوانية التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني