لجريدة عمان:
2025-05-24@11:03:39 GMT

خطأ نبوءة توماس فريمان بعودة الثنائية القطبية

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

في مقالة رأي طويلة بصحيفة نيويورك تايمز، يعلن الخبير توماس فريدمان عن «صراع جيوسياسي هائل بين شبكتين متعارضتين من الدول والفاعلين غير الحكوميين، كل منهما تريد الهيمنة لقيمها ومصالحها على عالم ما بعد الحرب الباردة» (نيويورك تايمز، 26 يناير 2024، صفحة A26). وليس هذا بالتصور السخيف. فالهيمنة أحادية القطب جوهريا التي حظيت بها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة تتعرض ولا شك للقصف، فيما بدأت تشكيلات من القوى والنفوذ في التكون.

لكن وصف فريدمان للصراع الناشئ لا يعدو خليطا غير ناضج من النظرية والأخلاقية الأولية. إذ يبدو أشبه بمعلق رياضي على مباراة بين الأشرار والأبطال من المصارعين أو الملاكمين.

مرحبا بكم في صراع القرن! في الركن الأقصى من الحلبة (شبكة المقاومة)، وتشكيلها يتكون من بلاد من قبيل إيران وروسيا ومنظمات من قبيل حماس وحزب الله، وهي شبكة «مكرسة للحفاظ على أنظمة منغلقة استبدادية يدفن الماضي فيها المستقبل» (يمكن الآن أن يعلو صفيركم). وفي ركن الحلبة القريب يوجد، لا، ليس روكي بالبوا، وإنما (شبكة الاحتواء) «التي تحاول صياغة أنظمة أكثر انفتاحا وترابطا وتعددية يدفن المستقبل فيها الماضي».

خمِّنوا إلى أي شبكة تنتمي الولايات المتحدة وبلاد الناتو وإسرائيل وأوكرانيا! نحن في بلاد «المتعلمنين، التعدديين، المنطلقين بدافع من السوق»، نحن موجة المستقبل، وعلى حد تعبير فريدمان، نحن موطن «مؤتمرات الأعمال، ومؤسسات الأخبار، والنخب، وصناديق التحوط، وحاضنات التكنولوجيا، وطرق التجارة الرئيسية». شارع وول ستريت هو الشارع الرئيسي عندنا. نحن الذين ننسج معا الأشياء كما ينبغي أن يفعل أنصار عولمة التكنولوجيا المتقدمة، فلا يقتصر جزاؤنا على القوة والشرعية.

أما أشرار المقاومة في المقابلة فيريدون الرجوع بنا إلى عفن الماضي وتنافس القوى العظمى والثقافات الرجعية. لا يحسنون شيئا عدا «الهدم والتخريب». فما الذي يقاومونه على وجه التحديد؟ لا يستطيع فريدمان أو لا يريد أن يقول. خلاصة ما يصل إليه هو أن أعضاء هذه الشبكة «لا يبدون مقدرة على إقامة حكومة أو مجتمع يود شخص أن يهاجر إليه، ناهيكم عن أن يحاكيه»، بينما يمتلك الاحتوائيون في المقابل «القدرة على إعادة تعريف هياكل القوة وخلق نماذج جديدة للاستقرار الإقليمي».

عجبا! سيجد الذين يبلغون من العمر ما يكفي لأن يتذكروا الحرب الباردة أنهم يألفون تمام الألفة هذا الضرب من تحليل الأخيار في مقابل الأشرار (إن جاز أن يوصف بالتحليل أصلا). نحن «العالم الأحر»، الأقوياء أصحاب الفضيلة، كنا فريق السياسة الحرة، والمشاريع الحرة، وساحات القتال الحرة. وهم المتآمرون الشيوعيون ما كانوا يناصرون إلا اللاحرية. كنا نحن المستقبل التقدمي، بل أن سدنة الحرب الباردة من أمثال فرانك فوكوياما كانوا يعلِّمون الطلبة أنه لن يوجد بعدنا تاريخ. هم كانوا الماضي الهمجي المنتمي إلى ما قبل التاريخ.

وفي بقية مقاله يتناول فريدمان الآثار السياسية المترتبة على هذه الصور النمطية. ومن ذلك مثلا أننا (أي الولايات المتحدة) ينبعي أن نمنح الأوكرانيين كل ما يطلبونه لمحاربة الروس وأكثر، وذلك لأنهم يمثلون مصالح شبكة الاحتواء في أوروبا، ونمنحهم ذلك بسعر مخفض. ويجب أن نقنع بيبي نتانياهو بقبول «دويلة» فلسطينية عديمة الأذى حتى يتسنى لإسرائيل ودول الخليج أن يصبحوا «مركزا للثقافة والاستثمار والمؤتمرات والسياحة والتصنيع» يسيطر على الشرق الأوسط ويقوض قوة شبكة المقاومة.

افترضوا لوهلة أن ثنائية قطبية جديدة تنشأ في الشؤون الدولية، حيث روسيا وإيران والصين وحلفاؤها في جانب (برغم أن تعامل فريدمان الشاذ مع الصين ـ وسنناقش هذا بعد لحظة ـ تعكر الصفو) والولايات المتحدة وحلفاؤها في الجانب الآخر. لو أن الأمر كذلك، ما الذي يحرك الصراع؟ علام يدور الصراع؟ وماذا عن اللاعبين الأساسيين غير المنحازين حتى الآن، من قبيل البرازيل وتركيا والهند؟ إن الرد الأخلاقي في الحرب الباردة الجديدة هو التمييز بين ما «لنا» من مؤسسات أرقى ونوايا خيرة وما «لهم» من مؤسسات أدنى ونوايا آثمة، واعتبار عدم الانحياز منافاة للأخلاق. لكن هذا كله لا يمنحنا مدخلا إلى فهم الأفكار والمشاعر والمصالح الحقيقية الفاعلة في كلا الجانبين.

وصمت فريدمان عن هذا الصدد صمت محسوب. فما لا يريد الاعتراف به هو أن المقاومين إنما يقاومون سيطرة الدول الأغنى والأفضل تسليحا في تاريخ العالم، أي الولايات المتحدة وحلفائها في مجموعة السبعة، خلفاء الإمبراطوريات الأوروبية التي استعمرت واستغلت شعوب العالم غير الغربية منذ القرن السادس عشر وما بعده. وفور أن يدرك المرء الطبيعة التاريخية لهذه المقاومة، يفهم أن الصين -التي كانت من قبل أفقر بلاد الأرض والبلد الذي تعرض لأقسى أشكال الاستعمارـ ليست محض عضو في هذه الشبكة وإنما هي زعيمتها.

وهذا بطبيعة الحال هو السبب الذي يجعل نخبة الولايات المتحدة شديدة اللهفة حاليا إلى إقامة «محور» من الشؤون الأوروبية والشرق أوسطية إلى آسيا، وسبب السعي الحثيث إلى إقامة معادل آسيوي للناتو يضم اليابان بعد إعادة تسليحها وكوريا وتايوان.

ومع ذلك لا يعترف الخبير بالصين شريكا في «الصراع السياسي الهائل» الذي يزعم أنه يصفه، وبالطبع لا يعترف بزعامتها عليه. وبدلا من ذلك نراه يصف العملاق الآسيوي بالحياد. فالقادة الصينيون «بقلوبهم، وبجيوبهم في أغلب الحالات، في صف المقاومين» في ما يرى «لكن رؤوسهم في صف الاحتوائيين». وللوهلة الأولى يبدو هذا التصنيف غريبا تام الغرابة. ثم يفكر المرء في الجهود الصينية لإحلال السلام بين الشبكتين المتنافستين، من قبيل مساعي بكين إلى الوساطة بين إيران والمملكة العربية السعودية. غير أن دافع فريدمان يتضح في النهاية، وهو أن الصين مستثناة من شبكة المقاومة؛ لأنها اقتصاديا وتكنولوجيا شديدة التقدم! قد يكون حكمها استبداديا لكنه لا يلائم الصورة النمطية للمجتمع بادي التخلف الراكد اقتصاديا عديم المستقبل الذي يقيمه الخبير من أجل أن ينال من المقاومين.

«رؤوسهم مع الاحتوائيين» حقا! ولكن ما من شك يذكر في أن الصينيين سوف يستمرون في تحدي سيادة الولايات المتحدة وحلفائها على كل الجبهات تقريبا، باستعمال برامج من قبيل «مبادرة الحزام والطريق» ومنظمات من قبيل منظمة شنغهاي للتعاون وتحالف البريكسفي تحقيق أهدافهم وأهداف المقاومين. وقد نجد نفعا حقيقيا في الصورتين النمطيتين الاستعماريتين الجديدتين اللتين يطرحهما فريدمان للاحتوائيين التقدميين والمقاومين المتخلفين في تحديد أهدافهما. فالقوى الإمبريالية زعمت دائما السيادة الثقافية والسياسية على رعاياها، ولطالما كانت أكثر «تقدما» من أوجه معينة. فالثروة العظيمة والأمن المادي يعطيان السادة مساحة للمناورة، والمخاطرة، والابتكار تفوق المساحة الممنوحة لخدمهم المفقرين المعرضين للخطر. لكن في حال تعامي المرء عن الانقسام الأساسي بين «كلاب القمة» و«كلاب القاع» (بتعبير يوهان جالتونج)، تغيب عنه تماما النقطة التي تلتقي فيها القوة و«التنمية».

لا يريد المقاومون احتواءهم في نظام السادة العالمي. إنما يريدون القوة لتقرير مصيرهم. ومثلما كتب فرانز فانون في «المعذبون في الأرض» فإن أبناء البلد لا يريدون مكانة المستوطنين، إنما «يريدون مكانه». كذلك كتب فانون منتقدا عجز أبناء البلد الأوليجاركيين والسياسيين المرتبطين بالشبكات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة عن تمثيل قيم شعبهم ومصالحه الحقيقية. ولقد حان الوقت لأن تنتهي السيادة العالمية الغربية، لكننا لم نر بعد هل سيكون النظام الجديد الذي يقول به المقاومون سيكون أكثر من محض نسخة محدثة من الحكم الإمبريالي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الحرب الباردة من قبیل

إقرأ أيضاً:

التعدين في قاع البحار.. هل تستطيع الولايات المتحدة تحويله إلى واقع؟

في مخزن واسع بمصنع لمعدن النيكل في مدينة هاشينوهي شمال اليابان جلس رجال يرتدون سترات رسمية ويعتمرون خوذات على الأرض لتفحص أطباق تحتوي على مادة خام سوداء تتفتت في اليد ومكعبات معدنية لامعة.

وجهت شركة التعدين الكندية "تي أم سي" الدعوة لهؤلاء الرجال لعرض "بضاعتها" عليهم، وهم تجار من شركتي ميتسوبيشي كوربوريشن وجلينكور لتجارة السلع ومدراء لشركات معادن صينية وكورية وشركة إنتاج البطاريات اليابانية "باناسونك إنيرجي".

المواد المعدنية التي شاهدوها انتُشلت من قاع المحيط الهادي على بعد 4000 متر تقريبًا تحت سطح الماء قبل نقلها إلى المصنع لصهرها ومعالجتها، ويقول دايسوكي ساساكي ممثل شركة باسيفيك ميتالز التي تملك المصنع: "بنفس هذه الكمية من الطاقة يمكننا الحصول على المزيد من المواد كالنيكل والكوبالت والنحاس والمنجنيز وهذه الطريقة أرخص وأفضل للبيئة من التعدين في البر".

أمر تنفيذي

التعدين في أعماق البحار لم يبارح عالم الخيال وينتقل إلى أرض الواقع على مدى قرن أو يزيد، ولم ينقطع الرجاء في استخراج المعادن التي توجد في قاع البحر ورفعها إلى السطح وتحويلها إلى مواد مفيدة (وقَيِّمة) منذ اكتشاف ترسباتها هناك، ويأمل البعض أن يقلل تعدينها من النفايات السامَّة وانتهاكاتِ حقوق الإنسان المرتبطة بالتعدين في اليابسة.

لكن حتى وقت قريب ظل التعدين تحت البحر إلى حد بعيد من قصص الخيال العلمي؛ فالعمل في أعماق سحيقة وفي إحدى البيئات الأشد قسوة في كوكب الأرض معقَّد تقنيًا وباهظ التكلفة، كما تشكل المخاوف من أن يزعزع الحفر في قاع البحر استقرار الحياة البحرية التي تزدهر هناك تحديًا أعظم مع خضوع التعدين واسع النطاق في المياه الدولية لحظر "فعلي" منذ تسعينات القرن الماضي.

دشن المقاولون المقيمون في بلدان تشمل الولايات المتحدة والصين والهند واليابان والنرويج اختباراتِ للمعادن دون أن ينتقلوا إلى استخراجها على نطاق تجاري، والمفاوضات حول كيفية تحويل التعدين في المياه الدولية إلى واقع تجري منذ سنوات، لكنه دخل دائرة الاهتمام مع احتدام التنافس من أجل المعادن المستخدمة في البطاريات وشبكات الكهرباء وصناعة الصلب وتسليط حرب التجارة الضوء على قبضة الصين الخانقة على سلسلة التوريد.

في الشهر الماضي أوضح دونالد ترامب أنه يرغب في أن تقود الولايات المتحدة ما دعته حكومته "التدافع القادم نحو تعدين الذهب"، وبعد تعرض حكومته إلى ضغوط من شركة تي أم سي المدرجة في مؤشر ناسداك والتي يعتقد أنها تقود مجموعة من الشركات الخاصة وقَّع ترامب في الشهر الماضي أمرًا تنفيذيًا يؤكد أن الولايات المتحدة لها الحق في إصدار رخص التعدين في المياه الدولية. وأشار الأمر التنفيذي الذي دعا إلى التعجيل بإصدار مثل هذه الرخص إلى أن معادن قاع البحار يمكن تخزينها كأصول استراتيجية.

هذا التحرك واحد من سلسلة تحركات هدفها تأمين الوصول إلى معادن حساسة وشملت مساعٍ لعقد صفقات مع بلدان مثل أوكرانيا وجرينلاند وجمهورية الكونجو الديموقراطية.

هوجم الأمر التنفيذي على الفور بواسطة المفوضية الأوروبية والصين، ليس أقله لأنه يناقض إجماعًا انعقد منذ فترة طويلة بأن الرُّخَص الخاصة بالمياه الدولية يمكن إصدارها فقط بواسطة سلطة مفوضة بواسطة الأمم المتحدة هي الهيئة الدولية لقاع البحار، وفي الشهر الماضي حذرت وزارة خارجية الصين من "أن يتجاوز أي بلد الهيئة الدولية لقاع البحار أو القانون الدولي".

أعتبرت ماكسين ديكستر عضوة الكونجرس عن الحزب الديموقراطي التعدين في قاع البحر "مسعى ينطوي على مخاطرة عالية ومردود متدني"، وكانت ديكستر تتحدث في جلسة اجتماع لجنة تابعة للكونجرس عن الموارد الطبيعية في الشهر الماضي.

يخشى أنصار البيئة من أن ذلك قد يفتح المجال لكل من هبّ ودبّ ويتسبب في ضرر دائم لأحد الأنظمة البيئية الأقل تأثرًا بنشاط البشر ولا يُعرف عنه الكثير، ويشعر المحللون بالقلق من أن يبتدر نزاعاتٍ بحرية حول كل شيء من كوابل قاع البحر إلى حقوق صيد الأسماك ومن القطب الشمالي إلى بحر جنوب الصين.

تقول مونيكا ميدينا مساعدة وزير الخارجية لشؤون المحيطات في إدارة بايدن: "يستخدم المجرمون أعالي البحار في تجارة السلاح والمخدرات"، وتضيف: "أكرَه أن أرى التعدين وهو يصبح أحد هذه الأنشطة".

هنالك أيضًا عدم يقين حول ما إذا كان التعدين في أعماق البحار سينجح على الإطلاق بدون مشاركة الصين التي تسيطر على ثلاثة أرباع إنتاج العالم من البطاريات ولديها ميزة تنافسية في تقنيات البنية التحتية للنقل البحري واستخراج المعادن وصهرها.

ويتساءل العديدون عن الجدوى التجارية لهذا التعدين، وذكرت ديسكتر في جلسة الاستماع أن "النماذج المالية لصناعة التعدين البحري ترتكز على افتراضات شاطحة في تفاؤلها وتقلل من تقدير التحديات البالغة في العمل تحت ضغط عالٍ جدًا وفي درجات حرارة تحت الصفر وظروف تآكلية (تهدد بتآكل المكونات المعدنية)".

ويقول براديب سينغ وهو خبير قانوني لمؤسسة أوسيانو آزول ومقرها لشبونة: "إنها لفرصة طيبة أن تتوحد الدول في معارضة (هذا التعدين)، سيكون هنالك استقطاب لضمان ألا يتحول إلى مأساة فقط لأن بلدًا واحدًا يريد أن يمضي في هذا الاتجاه".

عُقَيْدَات متعددة المعادن

أثناء رحلة لترسيم قاع بحار العالم في سبعينيات القرن التاسع عشر دهش العلماء الذين أبحروا على متن السفينة البريطانية "أتش أم أس شالينجر" عندما انتشلوا أجسامًا سوداء غريبة وبيضاوية الشكل اتضح أنها مكونة من عناصر معدنية.

قبل ملايين السنين وفي قاع ما يسمى الآن المحيط الهادي بدأت ذرات ضئيلة من المعادن العالقة في الماء تتراكم حول أنقاض أو بقايا عضوية كأسنان سمك القرش وحبيبات الطمي وشكلت في نهاية المطاف ما يعرف بالعُقَيدات متعددة المعادن، وفي حين وُجِدت المعادن أيضًا في القشور الصخرية بالقرب من مواقع النشاط البركاني تحت الماء أو في النتوءات بين الصفائح التكتونية إلا أن أكداس العقيدات الكثيفة التي وجدت في قاع المحيط الهادي الشرقي هي التي جذبت معظم الاهتمام.

ولم تبدأ أولى المحاولات لاستغلال الخامات المعدنية في قاع البحر إلا بعد قرن من ذلك، ففي عام 1970 شرعت الشركة الأمريكية "ديب سي فينتشرز" في إجراء اختبارات قبالة ساحل كارولاينا الشمالية باستخدام تقنية تفريغ هيدروليكي بسيطة لاستخراج العقيدات المعدنية.

أعلنت الأمم المتحدة في ذلك العام أن قاع البحر "ميراث مشترك للبشرية"، وبعد ثلاثة أعوام لاحقًا كتبت الشركة إلى وزير الخارجية وقتها هنري كيسنجر مطالبة بحصانة دبلوماسية للتوسع في اختباراتها في المياه الدولية، وتكشف وثيقة لوكالة الاستخبارات المركزية رُفعَ عنها غطاء السرية أن الطلب رفض لأسباب قانونية.

وعندما أوجدت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 إطارًا قانونيًا أفقد انهيارٌ في أسعار المعادن الفكرةَ قدرًا كبيرًا من جاذبيتها، وفي عام 1994 بدأ أخيرًا سريان المعاهدة وتأسست جهة تنظيمية هي الهيئة الدولية لقاع البحار اتخذت مقرها في جامايكا، وقاد ذلك فعليًا إلى تعليق التعدين في المياه الدولية، ورفضت الولايات المتحدة التصديق على المعاهدة لكنها وقعت على اتفاقية تعترف ببنود المعاهدة المتعلقة بقاع البحار، وهي تحضر اجتماعات الهيئة بصفة غير رسمية.

ولدت صناعة تعدين قاع البحار الحديثة في العشرية الثانية من هذا القرن عندما بدأت الحاجة تشتد للمعادن مع التحول إلى الطاقة الخضراء، ومن بين الشركات الرائدة في هذا المجال الآن "تي أم سي" وشركة "جلوبال سي مينرال ريسورس" البلجيكية للتعدين البحري، وعلى الرغم من أن التقنية لم تختلف كثيرا عن السابق (وتتمثل في رفع أنظمة شفط ضخمة عُقيداتِ المعادن إلى سفن التجميع التي تنتظر عند سطح البحر) ألا أن كلتا الشركتين حاولتا إيجاد طرق جديدة للتقليل من الإضرار بالحياة البحرية.

أيدت حكومات عديدة من بينها سنغافورة وبلجيكا وبريطانيا والهند وروسيا إصدار عقود الاستكشاف التي منحتها الهيئة الدولية لقاع البحار في السنوات الأخيرة، ووفقًا للهيئة ساندت الصين منحَ المزيد من العقود أكثر من أي بلد آخر،

وورد في تقرير عن مسح جيولوجي أجرته الولايات المتحدة عام 2022 أن العقيدات والقشور الغنية بالمعادن "تشكل خزانًا معدنيًا كبيرًا"، وأبلغت شركة تي إم سي المستثمرين بأن النيكل والكوبالت والمنجنيز أكثر توافرًا في أعماق المحيط من اليابسة، لكن الخبراء يشككون في هذه المقارنة.

قرصان تعدين

يقول المحللون إن جمع المعادن وتحويلها إلى شيء مفيد (دع عنك التربح منها) يمكن أن يكون أشد صعوبة إلى حد بعيد من إيجادها.

يقول المستشار المستقل لايل تْرَتين: "لدينا أدلة كافية على أن (التعدين في البحار) ممكن فنيًا؛ (لكن) هل سيكون اقتصاديا؟ ومقبولا اجتماعيا؟ وهل ستنشأ سلسلة توريد؟ كل هذه علامات استفهام (مُعلَّقة)".

في الشهور السابقة لإصدار ترامب أمره التنفيذي اشتدت ضغوط مسؤولي شركة تي أم سي على الإدارة الأمريكية، ويقول رئيسها التنفيذي جيرارد بارون إنه قدم هدية شخصية للرئيس عبارة عن عُقَيدَة معدنية من قاع المحيط الهادي في الشهر الماضي (لم يستجب البيت الأبيض عندما طلب منه التعليق على ذلك).

في أبريل ذكرت الشركة أنها قدمت طلبًا للحصول على رخصة تعدين في المياه الدولية عبر إجراءات "الموافقة السريعة" التي تديرها الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي، وتقول إنها تتوقع الحصول على الرخصة في موعد لا يتعدى العام القادم مما يمهد الطريق لاستخراج المعادن على نطاق تجاري بحلول عام 2027.

قال هاوارد لوتنك وزير التجارة الأمريكي في جلسة الاستماع الخاصة بتأكيد توليه الوزارة في يناير: "كل ما ليس لدينا في اليابسة نحتاج إلى استخراجه"، وكانت شركة الوساطة "كانتور فيتزجيرالد" التي يقودها لوتنك وقتها تعمل كوسيط استثمار رئيسي لشركة تي إم سي للمعادن في ديسمبر، وفقًا لوثيقة نشرها جيرارد بارون على الإنترنت، وتقول كانتور فيتزجرالد أن رئيس مجلس إدارتها السابق "لم يعد لديه أي دور تشغيلي سواء رسميًا أو غير رسمي في شركتنا".

وفي محاولة لإقناع المشرعين الأمريكيين اقترحت شركة تي إم سي معالجة عقيداتها المعدنية في تكساس لتعزيز صناعة البطاريات المحلية، وزعمت أنها يمكنها المساعدة في الإبقاء على سلاسل التوريد محليًا.

اعتبر البعض حماسَ الإدارة الأمريكية للتعدين في البحار لعبة جيوسياسية، ففي السنوات الأخيرة تزايد قلق بعض المسؤولين الأمنيين والساسة في واشنطن من حيازة الصين قصب السبق في تطوير تقنيات التعدين البحري، وذكرت وسائل الإعلام الحكومية في الصين أن العلماء الصينيين أجروا تجربة في جمع العقيدات المعدنية على عمق يزيد عن 4000 متر تحت المحيط الهادي الغربي في يونيو الماضي، وذكرت شركة تشاينا مينْميتالز كوربوريشن وشركة بايونير هاي تك ديفيلوبمنت كوربوريشن وهما صينيتان أنهما تستعدان لإجراء اختبارات استكشافية في قاع البحر في وقت لاحق هذا العام.

كما تدفع الصين بقضيتها إلى الهيئة الدولية لقاع البحار، ويقول مستشار تعدين طلب عدم ذكر اسمه إن الصين سعت بوضوح إلى التأثير على الهيئة من خلال تعهدها بتمويلها هذا العام بمبلغ يفوق ما يقدمه أي بلد آخر.

وكما هو الحال مع تأمين صفقة المعادن الأوكرانية يأمل بعض المشرعين الأمريكيين في أن يُحَيِّد التفوقُ على الصين في تعدين قاع البحار قدرتَها على الرد في حرب تجارية أو صراع عسكري، وأوضحت شركتا تي إم سي والأمريكية "أمبوسيبل ميتالز" قدرة صناعة التعدين في تعزيز استغناء الولايات المتحدة عن سلاسل التوريد الصينية.

لكن الآثار البيئية للتعدين واسع النطاق في أعماق البحار لا تزال غير واضحة، لقد أنفق العلماء سنوات في مناقشة قضايا من شاكلة كيف يمكن أن تحدِث إثارةُ الرواسب اضطرابًا للكائنات الحية في أعماق البحار، ولا يزال من الممكن مشاهدة آثار الحفر في قاع المحيط والتي نتجت عن اختبارات أجرتها شركة جيبسي فينتشرز قبالة ساحل كارولاينا الشمالية عام 1970، حسب مسح أجري مؤخرًا.

يقول أنصار التعدين البحري إنه يمكن أن يساعد العلماء على اكتساب المزيد من المعرفة عن المناطق الأكثر غموضًا في كوكب الأرض وتمويل المزيد من الأبحاث، وتقول شركة "أمبوسيبل ميتالز" إنها صممت مركبة ذاتية القيادة تتحرك تحت الماء وتستخدم التصوير بالذكاء الاصطناعي لكي تضمن أنها تجمع فقط العقيدات التي ليست بها علامات مرئية تشير إلى وجود حياة بحرية كبيض الأخطبوط مثلًا.

لكن بالنسبة لدوجلاس مكولي أستاذ علم المحيطات بجامعة كاليفورنيا سانتا باربارا المضي قدمًا في هذا الاتجاه دون حل القضايا البيئية سيجعل من الولايات المتحدة "قرصان تعدين".

تقول الشركة الفرنسية لتعدين النيكل والمنجنيز "أيراميت" إنها لن تنفذ عمليات استكشافية تحت الماء "بدافع مبدئي"، كما ترى شركة التعدين الكبرى"ريو تنتو" عدم وجوب المضي في التعدين إذا كان من المرجح أن يحدث ضررًا بيئيًا.

حتى شركة تشغيل المصاهر المعدنية اليابانية (باسيفيك ميتالز) لا يمكنها أن تشرع في التعدين مهما كانت التكلفة، حسب رئيسها ماسايوكي أوياما، يقول "اعتقد علينا أن نتوصل إلى أحكامنا بعناية وبعد الانتباه إلى الكيفية التي يتحرك بها المجتمع ككل".

ضوابط تنظيمية

في يوليو سيجتمع الدبلوماسيون من أكثر من 150 بلدًا في جامايكا للمشاركة في آخر اجتماع للهيئة الدولية لقاع البحار هذا العام، يهدف الاجتماع إلى وضع اللمسات الأخيرة لإطار يغطي التعدين تحت البحر ويوضح القواعد المتعلقة بالضرائب والإتاوات (العوائد الحكومية) والأثر البيئي، كما سيشمل أيضًا العقوبات على عدم الامتثال.

وحذرت عالمة المحيطات ليتيسيا كارفاليو التي تقود الهيئة من أن اتجاه الولايات المتحدة لإصدار رخص تعدين بدون تصديق من الهيئة يمكن أن يشكل "انتهاكًا للقانون الدولي"، وذكرت في بيان في أبريل أن انفرادها بذلك يشكل مخاطر تمتد من "العلاقات بين الدول إلى أمن الاستثمارات".

تموضع الصين نفسها باعتبارها الأكثر تعقلًا في جانب التفاوض حول الحقوق في قاع البحار، لكنها لم تستبعد رفع الرهان كما ذكر مستشار مرتبط بالصين طلب عدم ذكر اسمه، يقول: "إذا مضت الأمور في الاتجاه الخاطئ سينظر (الصينيون) في خياراتهم المتاحة فيما يتعلق بالتجارة والعقوبات والرسوم الجمركية".

لا تبدي إدارة ترامب ما يشير إلى تراجعها، ويقول ستيفن جروفز الخبير في القانون الدولي بمؤسسة هيرتدج المحافظة إثارة المخاوف من احتمال أن يقود تحرك الولايات المتحدة لمنح رخص إلى مقاطعة المعادن المستخرجة من قاع البحار ليست أكثر من تهويل للأمور، ويقول: "لا اعتقد أن شيئًا مثل هذا سيتسبب فجأة في انهيار النظام البحري العالمي".

ويقول مساعد برلماني في الكونجرس طلب عدم ذكر اسمه: إذا اتُّهِمت الولايات المتحدة بانتهاك القانون الدولي ستشير ببساطة إلى انتهاكات الصين؛ فبكين ادعت ملكية معظم بحر جنوب الصين، ومن بين مخالفات مزعومة أخرى، تجاهلت حكمًا قضائيًا صدر في عام 2016 بوقوع الشعب المرجانية تحت مياه جزيرة سبراتلي ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة للفلبين.

يقول دنكان كوري المحامي والناشط بتحالف المحافظة على أعماق البحار إن الصين إذا تم تجاهلها "قد تقول: عظيم، سنأخذ بحر جنوب الصين إذن، شكرًا لكم".

هنالك أيضا شكوك حول مزاعم شركة تي أم سي بأنها ستساعد في تقديم بديل لسلاسل التوريد التي تهيمن عليها الصين لمعادن أعماق البحار، فقد زارت ثلاث شركات صينية من بينها "سي أن جي آر" وهي شركة رائدة في إنتاج المواد الكيماوية الخاصة بالبطاريات مدينة هاشينوهي اليابانية لاستكشاف إمكانية التعامل مع " تي أم سي" في الشهر الماضي (هاشينوهي هي موقع مصهر شركة تي أم سي لمعالجة العقيدات متعددة المعادن والتي يتم جمعها من منطقة كلاريون كليبرتون في قاع المحيط الهادي، كما ورد في بداية هذا التقرير - المترجم).

إلى ذلك، ذكر تاو وو، نائب رئيس مجلس إدارة سي أن جي آر، للفاينانشال تايمز أثناء زيارة المصهر أن شركته تتفاوض مع شركة تي أم سي منذ سنوات، وأضاف إنه نصح الشركة بالتعامل مع الموردين الصينيين، يقول: "المال يذهب إما إلى كندا وإفريقيا وأستراليا لتشييد مناجم على اليابسة أو دعم شركات مثل تي أم سي، ويضيف: "التنقيب عن المعادن في البرِّ له مشاكله".

في الأثناء تظل الرغبة في التعدين التجاري متدنية، فقد أيدت شركات جوجل وسامسونج أس دي آي لصناعة البطاريات وبي أم دبليو وفولفو "وقفًا تحوطيًا" أو تعليقًا للتعدين في أعماق البحار، وانضمت بذلك إلى بلدان من بينها البرازيل وبريطانيا وفيجي، كما ذكر بنك لويدز أنه لن يمول عملاء للتعدين في قاع البحار واستبعد ستاندارد تشارترد تمويل هذه المشروعات بشكل مباشر.

في الأثناء تحوطت شركة التعدين جلينكور ببيع حصتها من أسهم شركة تي أم سي في الشهر الماضي مع احتفاظها بحق تعاقدي لشراء النيكل والنحاس من الشركة.

ولم تفصح شركة لوكهيد مارتن التي عاونت في تطوير تقنيات التعدين في قاع البحار في الفترة بين سنوات السبعينيات والتسعينيات عن خططها بشأن رخصتين للاستكشاف في المحيط الهادي يُعتقد أنهما وُضِعتا جانبًا في السنوات الأخيرة، وتقول الشركة إنها "تقدِّر" الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، لكنها لم تعلن عن خطواتها التالية.

يعتقد توم لاتوريت وهو عالم بمركز الأبحاث "راند كوربوريشن" أن جدوى صناعة التعدين في أعماق البحار "تعتمد تمامًا على من تتحدث معه"؛ لكنه يقول: "من الممكن ألا يبدو يبدو موقف الولايات المتحدة منها محمودًا".

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة ترفع رسميا العقوبات عن سوريا
  • الولايات المتحدة غير مؤهلة أخلاقياً لتجريم الآخرين
  • الدبلوماسي العاري.. من هو المبعوث الأممي توم فليتشر الذي يقف في وجه إسرائيل؟
  • بسبب غزة وأوكرانيا.. بريطانيا تبتعد عن مسار الولايات المتحدة
  • التعدين في قاع البحار.. هل تستطيع الولايات المتحدة تحويله إلى واقع؟
  • ترامب يهدد بفرض رسم جمركي 25% على آبل ما لم تصنع هواتف آيفون في الولايات المتحدة
  • الرجل الخفي الذي يقرب واشنطن من أبوظبي ويقود الصفقات التريليونية.. من هو؟
  • حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه
  • نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تقبل رسميا طائرة فاخرة أهدتها قطر لترمب
  • تحذير أميركي من صواريخ مدارية نووية صينية قد تضرب الولايات المتحدة من الفضاء