يتفق الأطراف في حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أن أي اعتداء يستهدف عضوًا أو أكثر يعتبر هجومًا ضد جميع الأعضاء، وبالتالي في حال وقوع مثل هذا الاعتداء يكون للأعضاء الحق في اتخاذ التدابير بشكل منفرد أو جماعي للدفاع عن النفس، على النحو المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

آمل أن تفهموا أن حلفاءكم في الناتو لم تتح لهم الفرصة لتقييم ما إذا كان عليهم الالتزام بحماية تركيا ضد الاتحاد السوفييتي إذا اتخذت تركيا خطوة من شأنها أن تؤدي إلى التدخل السوفييتي دون موافقة وتفهم حلفاء الناتو.

رغم أنه كان من الممتع مشاهدة الصدمة والذعر الذي أحدثته تهديدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الأخيرة ضد الناتو (سحب عضوية الولايات المتحدة من الحلف)، إلا أنها تضمنت في الوقت عينه إيقاعًا مأساويًا للغاية. وكان موضوع اليوم مفاجأة. ولهذا السبب تم تكليف نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس بتهدئة الموقف.

لكن وبدلاً من التعبير عن الوعي بأهمية اللحظة التاريخية وضرورة التصرف بحذر، اختارت هي أو من كتب خطابها أن يكون الخطاب المشار إليه خشبيًا ومملاً للغاية؛ ويركز على ضرورة الدفاع عن القواعد والأعراف الدولية.

قالت ذلك في الوقت الذي استخدمت فيه الولايات المتحدة حق النقض ضد سلسلة من قرارات مجلس الأمن الدولي التي تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، مثبتة عجز واشنطن التام حيال منع إسرائيل من انتهاك هذه “القواعد والأعراف الدولية”.

هل في العالم أحد يصدق هذه الترهات في الوقت الذي لا يلتزم أو لا يستطيع المسؤولون في واشنطن الارتقاء إلى مستوى ما يسمى “المثل العليا”؟.

حقيقة تركيا في الناتو
بصفتي مراقبًا للعلاقات التركية الأمريكية منذ 25 عامًا، لم يتبادر إلى ذهني أبدًا التعاطف مع التهديدات التي أطلقها ترامب ضد أعضاء الناتو الذين لم يوفوا بالتزاماتهم المالية في الإنفاق الدفاعي، لا أستطيع أن أتعاطف على الإطلاق مع هذا الكم من القلق الذي أحدثته تهديدات ترامب في معظم عواصم الناتو.

فمنذ يونيو/ حزيران 1964 أدركت تركيا حقيقة مفادها أن معاهدة حلف شمال الأطلسي ليست اتفاقية دفاع مشترك تربط كافة الأعضاء على قدم المساواة، ولا يمكن تطبيق المادة الخامسة إلا إذا قررت واشنطن ذلك.

وعلى عكس ما زعمه المستشار الألماني أولاف شولتس، أدركت تركيا منذ فترة طويلة أن الناتو ليس بالضبط مبدأ “واحد من أجل الجميع، والجميع من أجل واحد”. وقال شولتز، الذي لم يُظهر أي وعي تاريخي مستكينًا لضرورات اللحظة الراهنة: “إن أي إضفاء لضمانات المساعدات التي يقدمها الناتو هو أمر غير مسؤول وخطير ويصب في مصلحة روسيا فقط”. وأنا أتفق تماما مع هذا.

ومع ذلك، عندما تسربت الرسالة سيئة السمعة التي بعثها الرئيس الأمريكي السابق ليندون بينز جونسون إلى أنقرة إلى وسائل الإعلام، أصبح أعضاء الناتو الآخرون يشعرون بالقلق بشكل خاص من أن سلوك الرئيس الأمريكي الذي يشكل انتهاكًا لميثاق الناتو.

وما زاد الطين بلة، هو وصف الإدارة الأمريكية آنذاك تركيا بأنها جهة فاعلة “لكن غير جديرة بالثقة”، وقد ذهبت الولايات المتحدة وقتها إلى حد فرض عقوبات على أنقرة بعد العملية العسكرية التركية في قبرص عام 1974.

لقد أجبر هذا الموقف من واشنطن تركيا على تطوير صناعتها الدفاعية المحلية خلال الأربعين عامًا الماضية، واضطرت تركيا أيضًا إلى استخدام انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو كوسيلة لانتزاع تنازلات من أعضاء الحلف الآخرين، وذلك لشعور أنقرة بعدم امتلاك “حقوق متساوية” مع باقي الأعضاء في الناتو.

أما القضايا التي تتعلق بها هذه التنازلات فهي تتمحور حول تحديث طائرات F-16، وفك الحظر على توريد الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية من السويد وكندا، وموقف حلف الناتو تجاه منظمة “بي كي كي/ ي ب ك” الإرهابية في سوريا وأوروبا.

في الواقع هذه القضايا لا يمكن اعتبارها قضايا سياسية على الإطلاق، كما لا ينبغي أن تكون في بوتقة القضايا التي يجب الحصول على تعاون فيها بالإكراه.

إن السياسات التي انتهجها سائر أعضاء الناتو بشأن هذه القضايا كانت معيبة منذ اللحظة ولو تعاملت واشنطن وعواصم الناتو الأخرى مع هذه القضايا بشكل منطقي وحيادي وصادق، لكانت العلاقات بين أنقرة وبقية أعضاء الناتو أكثر سلاسة على مدى السنوات العشر الماضية، ولصبت بالضرورة في صالح الجميع.

المصدر: تركيا الآن

كلمات دلالية: تركيا الناتو الولايات المتحدة ترامب الرئیس الأمریکی أعضاء الناتو

إقرأ أيضاً:

استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم

تُعدّ استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 إحدى أكثر الوثائق تأثيرا في رسم ملامح السياسة الدولية خلال العقد المقبل، إذ لا تكتفي بتحديد التهديدات التقليدية، بل تقدّم رؤية أعمق تعكس تحوّلا أيديولوجيا في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة موقعها في العالم. فوفق تحليلات مؤسسات بحثية بارزة مثل معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن الوثيقة تمثل انتقالا من "إدارة النظام الدولي" إلى "التنافس على تشكيله"، في لحظة عالمية يغلب عليها الاضطراب وتراجع اليقين. هذا الانتقال من "الإدارة" إلى "التشكيل" هو جوهر التحول الاستراتيجي؛ إنه اعتراف بأن العصر أحادي القطب قد انتهى، وأن واشنطن تسعى لفرض نموذجها وقيمها في مواجهة نماذج بديلة.

الصين من "منافس استراتيجي" إلى "خصم حضاري شامل"

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة.

وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن هذه هي المرة الأولى التي  تنظر فيها واشنطن إلى الصين باعتبارها قوة نظامية تريد تشكيل قواعد اللعبة الدولية بدلا من التكيّف معها. ولذلك تنتقل المنافسة بين الطرفين إلى مجالات استراتيجية تشمل التكنولوجيا المتقدمة، وسلاسل التوريد، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتأثير المؤسسات الدولية. استخدام مصطلح "الحضاري" يعمق الانقسام الأيديولوجي، مما يرفع المنافسة لتكون صراعا وجوديا بين نموذجين متنافسين يمتد ليشمل المؤسسات الثقافية والتعليمية.

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة. روسيا تهديد يمكن احتواؤه لا منافسته

على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، تتعامل الاستراتيجية الأمريكية مع روسيا بوصفها تهديدا "حادّا ومباشرا" لأمن أوروبا، لكنها ليست منافسا شموليا للنظام الدولي كما هي الصين. وتتبنى واشنطن مقاربة "إدارة الصراع"  مع موسكو، في محاولة للحفاظ على تركيزها الاستراتيجي على آسيا.

ويرى خبراء في "تشاتام هاوس" أن هذا التحوّل قد تكون له انعكاسات مباشرة على الأمن الأوروبي، حيث يُخشى أن يؤدي إلى تقليص انخراط الولايات المتحدة تدريجيا في القارة، ما يدفع الأوروبيين إلى تطوير مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي"  بشكل أسرع، مهما كانت العقبات السياسية والاقتصادية. هذا التمييز يكرس "الانتقائية الاستراتيجية" الأمريكية، حيث تُعتبر روسيا تحديا تكتيكيا ومؤقتا يجب "إدارته" لتجنب تشتيت الانتباه عن محور التنافس الحاسم في آسيا.

أوروبا الحليف المتوتر والعاجز عن حماية هويته

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي.

وقد أثار هذا القسم جدلا واسعا، حيث اعتبر "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أن واشنطن أصبحت تنظر إلى أوروبا بوصفها الحلقة الأضعف في النظام الغربي. وتبدو هذه الرؤية إشارة مباشرة إلى الأوروبيين بأنهم مطالبون بتقليل اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحولات المتسارعة في موازين القوى العالمية. هذا القسم يؤكد أن الولايات المتحدة تستعد لـ "تقاسم العبء" بشكل أكثر صرامة، ويربط الأمن بالهوية، مما يظهر قلقا أميركيا عميقا يتجاوز القدرات العسكرية وصولا إلى تماسك النموذج الغربي نفسه.

تحالفات جديدة قائمة على الهوية والقيم

تتبنى الاستراتيجية الجديدة مبدأ "التحالفات المعيارية"، حيث تمنح الولايات المتحدة الأولوية للتعاون مع الدول التي تشترك معها في الهوية الحضارية والقيم السياسية، أكثر من تلك التي تتقاطع معها في المصالح وحدها. ويرى مركز "بروكينغز" أن هذا التحوّل قد يعمّق الانقسام الدولي، لأنه يعيد اصطفاف الدول وفق اعتبارات أيديولوجية وثقافية، بدلا من المنطق البراغماتي الذي حكم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول يمثل عودة إلى الاصطفافات الأيديولوجية والثقافية، مما قد يعمّق الانقسام بين المعسكرات الدولية، على حساب العلاقات القائمة على المصالح المادية وحدها.

عالم متعدد الأقطاب.. ومع ذلك مضطرب

توضح الاستراتيجية أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية مضطربة، حيث تزداد القوى المؤثرة وتتناقص القدرة الأمريكية على ضبط الإيقاع العالمي. وتبرز آسيا كالمسرح الرئيس للتنافس، مدفوعة بصعود الصين والهند وتوسع تأثيرهما في الاقتصاد والتكنولوجيا.

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي. وتؤكد الوثيقة أن التكنولوجيا ـ وخاصة الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية، والأنظمة ذاتية التشغيل، وحروب الفضاء والفضاء السيبراني ـ ستكون الميدان الرئيس للصراع القادم. وفي هذه البيئة، تدخل أوروبا مرحلة من الشكوك العميقة حول مستقبل الضمانات الأمريكية، بينما تتزايد الدعوات لإنشاء منظومة دفاعية أوروبية أكثر استقلالا.

ويرى "تشاتام هاوس" أن العقد المقبل سيشهد تحالفات مرنة وصراعات طويلة وتنافسا أعمق بين النماذج الحضارية، في عالم تتداخل فيه القوة العسكرية مع التكنولوجيا والقيم في آن واحد. النقطة الجوهرية هنا هي أن "من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل". هذا يرفع من قيمة "التنافس التكنولوجي" ليصبح مساويا في الأهمية للتنافس العسكري والجيوسياسي.

بداية عصر جديد من التنافس الشامل.. واستشراف لمستقبل مضطرب

تكشف استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 أن الولايات المتحدة ترى نفسها في قلب صراع طويل على هوية النظام الدولي. فالصين خصم حضاري شامل، وروسيا تهديد يمكن ضبطه، وأوروبا حليف يحتاج إلى إعادة تأهيل، بينما تتحول التكنولوجيا إلى الركيزة المركزية للقوة في القرن الحادي والعشرين.

وتشير هذه الرؤية إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى تركيز جهودها على آسيا، باعتبارها محور التنافس الحاسم. وهذا سيقود على الأرجح إلى تراجع نسبي للدور الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط، ما قد يخلق فراغات استراتيجية لن تستطيع القوى المتوسطة ملأها بسهولة.

أما على المدى البعيد، فإن العالم يبدو أنه متجه نحو نظام متعدد الأقطاب لكنه عالي التوتر، حيث تتداخل المنافسة في ثلاثة مجالات رئيسية: التكنولوجيا الفائقة، والموارد الاستراتيجية، والتحالفات القائمة على الهوية الثقافية والقيم.

وإذا لم تُطوَّر آليات دولية لإدارة هذا التنافس، فإن العالم قد يدخل مرحلة "اللاسلم واللاحرب المستدامة"  التي يتوقعها العديد من الباحثين في الأمن الدولي مرحلة لا تشهد حروبا كبرى، لكنها لا تعرف سلاما مستقرا كذلك.

إن هذه الاستراتيجية، في جوهرها، ليست وثيقة أمنية فحسب، بل خريطة للعالم القادم: عالم تتقاطع فيه الجغرافيا مع التكنولوجيا، ويتنافس فيه المنطق الحضاري مع المصالح الاقتصادية، وتعود فيه القوة إلى معناها الأكثر تعقيدا: من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل.

السيناريو المستقبلي المتوقع هو نظام عالمي غير مستقر، حيث تكون المنافسة المستمرة هي القاعدة الجديدة، بدلا من السلام المستدام.

مقالات مشابهة

  • «الإياتا» تدق ناقوس التغيير: ضغوط تشغيلية وتحديات بيئية تعيد تشكيل مستقبل الطيران العالمى
  • أمريكا تستعد لمصادرة مزيد من السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • غولان: كان بالإمكان إعادة محتجزين بغزة أحياء لولا تعنت حكومة نتنياهو
  • عرض جديد من برشلونة لضم حمزة عبد الكريم مهاجم الأهلي
  • بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل الفنزويلي؟
  • واشنطن تحمّل إسرائيل المسؤولية الكاملة لإزالة الدمار في غزة
  • واشنطن تطالب إسرائيل بإزالة الأنقاض والنفايات بقطاع غزة وتحمل التكلفة
  • استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم
  • واشنطن: خدمة الأمن الدبلوماسي تتعاون مع الفيدراليين لتطوير تكنولوجيا الأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار
  • ترامب يتباهى: أحرر المعتقلين في تركيا بمكالمة مع أردوغان!