سارة البريكية
sara_albreiki@hotmail.com
هكذا يكون صوت القصف من حولنا خفيفا أحيانا وأحيانا مرتفعاً وهذا رمضان الأول لي بعد استشهاد والدتي في حرب غزة ولا أعلم هل أنا أعيش أم أن جسدي فقط هذا الذي أسكنه يعيش بداخلي.. بعد رحيل أمي لم أجد للحياة معنى ولا طعماً ولا لوناً ولا رائحة، بات كل شيء مختلفاً عن السنوات الجميلة الفائتة، أتى رمضان هذا العام محملاً برائحة الفقد المحملة أيضاً برائحة دماء المطر وشهداء غزة فالجميع هنا صائمون عندما بدأت الحرب فلا حياة كباقي البشر ولا طعام يتحصل.
يُقال البعيد عن العين بعيد عن القلب، وهذا هو الذي يحدث الآن، نحن بعيدون عن العين وبعيدون عن قلوبكم وعقولكم واحتياجاتكم اليومية ومشاوريكم وسفرتكم الطويلة التي بها أصناف من المأكولات المتعددة من الحلو والمالح الأخضر واليابس، بينما هنا نموت من الجفاف نحن لا نأكل فصوت القصف الذي يمر من فوق رؤسنا ومسامعنا مرتفع وعالٍ وضخم وشديد ولا حول لنا ولا قوة إلا الاختباء لحظتها تحت أي شيء والعيش بذعر وخوف وبكاء فمن منكم يريد الموت؟ ومن منَّا يريد أن تنتهي حياته التي حلم أن تكون أفضل حياة ببؤس وضجيج وأسى.
يتراءى لي وجه أمي وهي قد اعدَّت لي وجبتي المفضلة على الإفطار وأفرح بقدومها بعد يوم شاق في العيادة التجميلية التي أملكها والتي أسستها بتعبي وبتشجيع من والدتي والتي قضت عليها الحرب، أدرك أن أمي ليست هنا وأنني أتخيل سفرة الإفطار الجميلة التي بها ما لذ وطاب وأدرك أنها مجرد خيالات لن تتحقق وحتى لو توقفت الحرب في أي لحظة فلن تعود أمي التي كانت تعد لي كل ذلك الإفطار الجميل والذي أحبه.
الشهر السادس من المخاض المؤلم ولم تفرج واليوم المليون في نزيف أرواحنا فمن غادر واستشهد قد ارتاح ومن بقي تلوح به الأفكار يمنة ويسرى فقد مات يومًا بعد آخر مات روحا وبقي جسدا مات إحساسًا وبقي وجعا.
كيف سنشفى من صوت القصف الذي كلما مر بنا أحسسنا أنها النهاية تخيل أنك تعيش في وسط غابة من الذئاب والأسود الجائعة وفي كل مرة يلتقطك أحد الأنياب وكم منظرها مخيف فكيف لمن ذاق مرارتها، كيف بمن يصحى لكي يموت وينام لكي يعيش معادلة صعبة أصبح النوم بسلام هو مطلب الغزاويين بشدة أصبحت السفرة المتلطخة بالدماء التي تجمعنا عليها لا تكفي لرصف شارعنا المتحطم والمحمل بالذكريات فما أقرب الأمس وما أبعده وما أقسى الظروف الراهنة التي تحيط بنا من كل جانب.
هناك وجه أمي يستقبلني بحب، وأختي الصغيرة التي لم أستطع رؤيتها بسبب منعهم من دخولها إلينا وأما بقية عائلتي فلم يتبق منها إلا العدد البسيط؛ فالجميع استُشهد والجميع غادر والجميع اغتالته يد الغدر الصهيونية، وبقينا نذرف الدموع على حالنا الذي يرثى عليه قد تكون رسالتي الأخيرة وقد لا أراك وقد أذهب لأمي أيضًا وقد أموت.
هكذا يتمتمون على السفرة الحزينة المليئة بالدماء والذكريات الحزينة والأسى، هكذا سيبقون يعيشون خائفين رغم قوتهم التي تزن الجبال، هكذا سيتضاءل فيني الإحساس بالآخرين، ولن نكون أناسًا حقيقيين، وإنما مجرد أجساد تمشي على الأرض لا حول لها ولا قوة، هكذا سنبقى إذا أردنا أن نبقى، وإذا أردنا غير ذلك لانطلقنا ولجاهدنا ولحققنا النصر.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزير التعليم الذي اشترى التليفون
تحكي إحدى النكت عن رجلٍ كان يسكن عمارة يوجد أسفلها مقهى (قهوة)، ولمّا لم يكن لدى هذا الرجل هاتف، فكان يعطي أصحابه ومعارفه رقم تليفون المقهى الذي في الأسفل، وكلما كان يتصل به أحد، كان صاحب المقهى يقف في الشارع لينادي عليه ليرد على الهاتف.. مع تكرار الأمر ضاق صاحب المقهى بكثرة التليفونات، وفي المرة الأخيرة نصح الرجل أن يشتري موبايل يستقبل عليه تليفوناته.. هز الرجل رأسه وذهب.. بعد عدة أيام عاد الرجل مرة أخرى ومعه هاتفه المحمول الجديد، وأعطاه لصاحب المقهى وطلب منه إذا اتصل به أحد أن ينادي عليه لينزل إليه ويرد على المتصل عبر المحمول..
تذكرني القصة السابقة بالسيد المحترم وزير التربية والتعليم في إدارته لمنظومة التعليم في مصر، فمن كرم الله أن وفق زوجتي للتخرج من المرحلة الابتدائية منذ زمن طويل قبل تولي الوزير الحالي، وأنهت حياة الجامعة منذ فترة، وتركت الكتب والتعلم منذ فترة طويلة، ولكنني منذ بداية العام رأيتها تعود يومياً مرة أخرى إلى التعلم بشكلٍ أكثر جدية، فظننت أنها ربما ترغب في استكمال الدراسات العليا، خاصة وأنها كانت تجلس على الكتب من قبيل العصر إلى قرب النوم في الحادية عشرة..
سعدت جداً في البداية حينما ظننت أن بناتي اللاتي في مرحلة الابتدائية ارتفع مستواهن حتى أصبحن يذاكرن مع أمهن، لكنني علمت بعد ذلك أن كل هذا الوقت تقضيه أمهم في مذاكرة بنتيها اللتين في مرحلة الابتدائي.. لم أتمالك نفسي من السؤال عن هذا السر الأعظم الذي يدفعهن لمجالسة كتب الابتدائي كل يوم قرابة الثماني ساعات.
لعلك الآن تسأل ما علاقة الموضوع السابق بقصة التليفون التي جاءت في بداية المقال، ولكنك لن تتفاجأ حينما تعلم أن الوزير اخترع أسلوباً لوزعياً لإجبار التلاميذ على الحضور للمدرسة وعدم التغيب، وذلك من خلال تقييمات يتم تقديمها كل أسبوع في المواد كلها منذ العام الماضي، ولما كانت الأمهات يقمن بنقل التقييمات من الإنترنت شريطة أن تكتب في كراسات التقييمات ولا يجوز أن تطبع فكن ينقلن الأسئلة والرسومات طوال الوقت.. وحلاً لهذا الأمر طبعت الوزارة كتباً للتقييمات، ولكن الكتب ليس بها أماكن لحل الكثير من الأسئلة فيضطر الأطفال لنقل الأسئلة والرسومات وحلها في كشكولٍ خارجي، ناهيك عن أن هذه الأسئلة يأخذها التلميذ من البيت ليحلها داخل الفصل، وقد ذكر لي أحد المعارف أن أبنائه يكتبون حل التقييمات من الإنترنت قبل أن يأخذوها معهم إلى المدرسة.
ما أدهشني أكثر حينما سألت عن سبب كل هذا الوقت للمذاكرة لابنتي تلميذة الصف الرابع، فقد علمت أنها تدرس 11 مادة: عربي، ماث، انجليزي، ساينس، تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات، كامبريدج ،انجليش الوزارة، فرنش،دين،دراسات اجتماعية، أي أكثر من مواد طلاب الجامعة الذين أدرس لهم والذين يتعثر كثير منهم في دراسة سبع مواد فقط، ناهيك طبعاً عن محتوى المقررات الذي فاق في الصف الرابع ما كنت أدرسه في الثانوية العامة، والذي ربما يوازي بعض مواد الكليات في الوقت الحالي، ظناً منه أن كل هذا الحشو لعقول تلاميذ يتطلعون للعب وتفريغ طاقتهم ربما يساعدهم على الحصول على نوبل في المستقبل.
وفي النهاية فلتسمح لي سيادة الوزير الحاصل على شهادة الدكتوراة من الخارج، ألم تخبرك شهادتك للدكتوراة أو أحد مستشاريك أن تلاميذ المرحلة الابتدائية الذين هم أطفال لم يتجاوز الكثير منهم الثانية عشرة من عمرهم، يحتاجون للعب بنفس قدر احتياجهم للتعلم، ألم تخبرك الدكتوراة أن قضاء اليوم كله منذ العودة من المدرسة حتى ميعاد النوم في المذاكرة يرهقهم ويمنعهم من اللعب وتنفيس طاقاتهم؟ ألم يخبرك أحد أن كتب الوزارة+ كتب التقييمات+ الأداء الصفي+ الواجبات المنزلية+ الامتحانات الشهرية أمرٌ ثقيلٌ على الأطفال وعائلاتهم؟ ألم يخبرك أحد أن الأمهات بتن يذاكرن ويقمن بحل كثير من الدورس والواجبات بدلاً من أطفالهن الذين لا يستطيعون إنجاز كل هذه التكليفات الثي أثقلتهم وأثقلت على أسرتهم؟ ألم يخبرك أحد أن التطوير لا يعني بالضرورة التصعيب ولكنه يعني تنمية المواهب والقدرات بشكل متوازن؟
أستاذ بكلية الآداب- جامعة عين شمس