فكرة إسرائيل .. نحو تجريم الصهيونية مجددًا
تاريخ النشر: 14th, March 2024 GMT
سرايا - شكّل العدوان الحالي على غزة مرحلة فارقة على صعيد سمعة دولة الاحتلال دوليًا، وتذكيرًا بالنكبة عام 1948، وما تخللها من جرائم حرب وتطهير عرقي، وفتح الباب على محاكمتها أمام الرأي العام العالمي والقضاء. تشكل جرائم الحرب المرتكبة مادة صالحة للاستثمار لإدانة الصهيونية وليس فقط دولة الاحتلال، كما أن للأمر ما يدعمه أكاديميًا في نتاج عدد من الباحثين المجدّين وفي مقدمتهم "إسرائيليون" سابقون، أبرزهم إيلان بابيه.
الإبادة عدَّت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الصهيونيةَ شكلًا من أشكال العنصرية في قرارها رقم 3370 لعام 1975 بموافقة 72 صوتًا، مقابل 35 صوتًا ضده، وامتناع 32 دولة عن التصويت. ثم ألغت الجمعية هذا القرارَ بالقرار رقم 46/86 لعام 1991 بموافقة 111 دولة، ومعارضة 25، وامتناع 13 عن التصويت، وغياب 15 دولة، بعد أن اشترطت "إسرائيل" إلغاء القرار للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام.
اليوم، مع تخطي ضحايا العدوان في غزة الـ 100 ألف بين شهيد ومصاب ومفقود، ومع التدمير الكامل للبنية التحتية، وأي مقومات للحياة في القطاع بشكل ممنهج ومتعمد، بما في ذلك الاستهداف المستمر والمقصود للمستشفيات وكامل القطاع الصحي، تتواتر وتتراكم أدلة وقرائن على حرب الإبادة ضد المدنيين.
ومما يدعم فكرة أن ما يحصل ليس عفويًا ولا "أضرارَ جانبية تحصل في الحروب" كما يردد بعض الساسة في الغرب، وإنما خطة معتمدة ومنهج مقصود بذاته، عدد كبير من تصريحات المسؤولين في دولة الاحتلال يهيئ الأرضية لهذه الجرائم ويبررها ويطالب بالمزيد منها.
فقد بدأ العدوان بتصريح وزير الحرب يوآف غالانت الذي قال؛ إن جيش الاحتلال يواجه "حيوانات بشرية"، ثم تأكيده على فرض حصار شامل على القطاع بحيث "لا يدخله ماء ولا طعام ولا كهرباء ولا وقود"، ثم تصريح رئيس دولة الاحتلال بأنه "ليس هناك بريء في غزة"؛ لتبرير قتل الجميع.
وقد شهدت الحرب توقيع عشرات الأطباء "الإسرائيليين" وثيقة تطالب باستهداف المستشفيات في غزة، وقال أحد الصحفيين في برنامج على الهواء مباشرة؛ إنه لن ينام قرير العين إلا بعد قتل 100 ألف فلسطيني، كما أكد الحاخام إلياهو مالي قبل أيام أنه ينبغي "قتل الجميع في غزة" بمن فيهم النساء والأطفال "تطبيقًا للشريعة اليهودية"، وَعَدَّ المؤرخ بيني موريس "العرب في إسرائيل قنبلة موقوتة"، ولذلك فالتطهير العرقي الذي نفذ بحقهم لم يكن خطأ، وإنما كان الخطأ هو الإبقاء على بعضهم أحياء.
وقد تواترت التقارير المصورة الموثقة في معظمها عن حالات القتل الميداني وإعدام الأسرى من المدنيين، وتعذيب من يبقى منهم على قيد الحياة، فضلًا عن الحصار والتجويع واستهداف التجمعات البشرية التي تنتظر استقبال المساعدات الإنسانية والإغاثية، وغيرها مما يعدُّ بوضوح جرائمَ حرب.
يقول كل ما سبق وأمثاله؛ إن ما حصل ويحصل ليس مجرد قرار سياسي لحكومة متطرفة، وإنما تناغم بين السياسات الحكومية والإجراءات العسكرية والأمنية من جهة والتعاليم والتوجهات الأيديولوجية من جهة ثانية، ويعضد هذه الفكرة تأييد أغلبية المجتمع "الإسرائيلي" للحرب على غزة (وكذلك على حزب الله في لبنان)، وبما يتجاوز نسبة 60% رغم ما يتخللها من جرائم، بل ويعدُّها الكثيرون "غير كافية وأقلّ من المطلوب".
استخدِمَ بعض مما سبق كأدلة وقرائن لمحاكمة دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، ورفع قضايا ضد بعض مسؤوليها أمام المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم المحلية في بعض الدول، لكن يبقى من الممكن والمطلوب محاكمة الأيديولوجيا التي تبرر كل ما سبق، بل وتدعو إليه، وأقصد هنا الصهيونية.
الصهيونية هذا التوجّه لا تدعمه فقط القرائن الميدانية، ولكن أيضًا البحوث الأكاديميّة التي تدرس الأسباب والدوافع وليس فقط المظاهر، ولعل من أهم ما يمكن التسلح به واستثماره في هذا الإطار الأكاديمية "الإسرائيلية" نفسها. كاتب هذه السطور ممن يعتقدون أن حرب الإبادة الحالية تمثيل متكرر لما حصل في النكبة عام 1948، ولذلك يمكن للدراسات التي عنيت بالنكبة وما بعدها من السنوات أن تكون ركنًا رئيسًا في الجهد المطلوب، ويأتي في مقدمة من يمكن الاستعانة بهم إيلان بابيه.
يعدُّ بابيه أحد أهمّ رموز "المؤرخين الجدد" في "إسرائيل" ممن أطلق عليهم تيار "ما بعد الصهيونية"، وقد سطّر في كتابه: "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" فضلًا عن كتب أخرى الكثير عن سنوات ما قبل تأسيس دولة الاحتلال، ثم النكبة وما تبعها من سنوات، مركزًا نقده على الصهيونية كمحرك رئيس لكل الجرائم المرتكبة.
وقد تحدث بابيه عن ثلاث موجات في الأكاديمية "الإسرائيلية": الصهيونية التقليدية التي انقادت تمامًا للسلطة، وتغاضت حتى عن ذكر الفلسطينيين وما تعرضوا له، ثم ما بعد الصهيونية التي تعرضت لمظلومية الفلسطينيين معلنة موقفًا مبدئيًا وشبه أخلاقي، ثم الصهيونية الجديدة (نيو صهيونية) التي بدأت مع الانتفاضة الثانية عام 2000، وساهمت في انقراض تيار ما بعد الصهيونية داخل دولة الاحتلال، مثبتة كل ما تعرض له الفلسطينيون، لكن هذه المرة من باب التبرير والتأييد.
يزخر الكتاب بالكثير من المعلومات الموثقة والأبحاث الأكاديمية لعدة باحثين "إسرائيليين" تؤكد المظلومية الفلسطينية والجرائم التي تعرضوا لها، وفي مقدمتها التطهير العرقي المخطط له مسبقًا (أرنون غولان: فلسطينيو إسرائيل: أقلية عربية في دولة يهودية).
يؤكد الكتاب خرافة أن اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين واستوطنوها لهم حق بها من باب أنهم امتداد لليهود الغابرين قبل قرون عديدة (بواز إيفرون: الحساب الوطني)، وأن الحركة الصهيونية كانت على تواصل مع النازيين في ألمانيا، وتناغمت معهم في هدف تهجير اليهود لإجبارهم على الذهاب لفلسطين (قصة السفينة إكسودوس إس إس)، وتجاهلت وقت الهولوكوست مساعدة أي يهودي لم تكن فلسطين وجهته (خطاب لبن غوريون)، وخططت لتفجيرات ضد اليهود في بعض الدول كالعراق للهدف ذاته (يهودا شنهاف: يهود العراق).
وفيما يتعلق بسنوات النكبة وما بعدها، يثبت الكتاب نقلًا عن عدة باحثين من بينهم أن طرد الفلسطينيين كان مقصودًا لذاته من العصابات الصهيونية في إطار خطة دالت (أو الخطة دال)، ويثبت كذلك حالات القتل الجماعي للمدنيين غير المحاربين، وهدم القرى (داني هداري، حرب استقلال إسرائيل)، والإعدامات الميدانية وعمالة الأسرى (أهارون كلاين: الأسرى العرب في حرب الاستقلال)، وغير ذلك من الجرائم.
كما يتحدث بابيه عن أن العنصرية ركن رئيس في سياسات دولة الاحتلال، منذ ما قبل تأسيسها بتأثير من الأيديولوجيا الصهيونية، ليس فقط ضد الفلسطينيين الذين احتلتهم وطردتهم من أراضيهم ومنعتهم من العودة إليها، واستولت على أراضيهم وبيوتهم بقوانين عنصرية، ولكن أيضًا ضد الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، واليهود "الإسرائيليين" القادمين من دول عربية (إيلي أفراهام: الإعلام في إسرايل: المركز والمحيط)، وحتى المرأة داخل دولة الاحتلال.
تشعر "إسرائيل" منذ أكثر من عقدين ربما منذ اجتياح لبنان عام 1982 بأن روايتها لم تعد مسلمًا بها على الساحة الدولية، وأن الرواية الفلسطينية تزاحمها وتكسب أرضًا جديدة مع الوقت، وأن سمعتها في تراجع و"مظلوميتها" لم تعد كافية لكسب الرأي العام الدولي لصالحها.
ولذلك فقد أطلقت في 2005 "وسم إسرائيل" كحملة علاقات عامة للترويج لنفسها وردَّةِ فعل على عدة تطورات في مقدمتها حركة مقاطعة "إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها (BDS)، لكنها أقرت في تقييمها اللاحق لها فشلها في تحقيق أهدافها رغم الميزانيات الضخمة التي رصدت لها.
لقد خسرت دولة الاحتلال جولات ذات رمزية خلال العقدين الماضيين، مثل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص جدار الفصل العنصري (2004)، ووسم بضائع المستوطنات في دول الاتحاد الأوروبي (2016)، والقرار الأولي لمحكمة العدل الدولية مؤخرًا بخصوص الإبادة وقبول التحقيق بعدِّها احتمالًا قائمًا.
لقد غيرت المعركة الحالية بكل ما تخللها من جرائم تصل حدود الإبادة الكثيرَ، وذكّرت بمثيلاتها من الجرائم التي ساهمت في تأسيس دولة "إسرائيل" بعد تهجير الفلسطينيين واحتلال أرضهم. ولذلك، فلم يعد كافيًا أن تُحاكم الجرائم و/أو الدولة والمسؤولون الذين يقومون بذلك، ولكن أيضًا البارادايم الفكري الذي يدعو لذلك ويجعله ممكنًا ويبرره، وتمثل الصهيونية الركن الرئيس فيه.
إن تجريم الصهيونية اليوم ممكن ومطلوب وضروري، لإثبات الحق الفلسطيني تاريخيًا وحمايته مستقبلًا، ومواجهة الجنون القائم في غزة واحتمالاته المستقبلية. وهنا، يمثل جزء من الأكاديمية "الإسرائيلية" أداة فاعلة في هذه المعركة ذات الأبعاد العلمية/الأكاديمية والسياسية والقانونية لا سيما الاعتماد بشكل رئيس على أرشيف دولة الاحتلال نفسها في سنوات ما قبل النكبة وخلالها وما بعدها.
إقرأ أيضاً : مسؤولون بالبيت الأبيض يخططون للقاء قادة الجالية العربية والمسلمة والفلسطينية بشيكاغو الخميسإقرأ أيضاً : نصر الله: "إسرائيل" خسرت الحرب حتى لو ذهبت إلى رفح وجيشها مستنزفإقرأ أيضاً : تقرير: أمريكا أجرت محادثات سرية مع إيران بشأن هجمات البحر الأحمر
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: دولة الاحتلال فی غزة ما بعد
إقرأ أيضاً:
تجريم التحريض الطائفي بسوريا ممر حتمي للعدالة والسلم الأهلي
شهدت سوريا خلال الأشهر الثلاثة الماضية نقاشات غير مسبوقة حول ظاهرة التحريض الطائفي وخطاب الكراهية، شاركت فيها عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي مكونات اجتماعية متنوعة، مقابل نخب محلية تنتمي إلى ما يوصف بـ"أقليات" وصلت إلى حدود الصدام الكلامي.
وفي حين أكد أغلب المشاركين وقوفهم إلى جانب الدولة وحكومتها الجديدة في الدفع باتجاه ثقافة عابرة للطوائف، أبدى آخرون معارضتهم، انطلاقا من رؤية تدعو إلى الانكماش الطائفي داخل كانتونات مغلقة، تهدد بتداعياتها السياسية -حسب خبراء- وحدة البلاد وهويتها الوطنية، وتجرها إلى صراع أهلي طويل الأمد.
وكان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قد حذر من محاولات تهدف إلى تفكيك المجتمع السوري، وزرع الفتن فيه، لضرب نسيجه الوطني، وشدد في كلمة أمام القمة العربية 34 التي انعقدت في العاصمة العراقية بغداد في مايو/آيار الماضي، على أن "أي مشروع يهدف إلى إضعاف الدولة، أو اقتطاع جزء من أراضيها، تحت أي ذريعة كانت، أمنية أو إثنية أو طائفية، أو يدعم مجموعات انفصالية خارجة عن القانون، هو مشروع مدان مرفوض رفضا قاطعا".
ونسب الخبير في الشأن السوري عبد الله بارودي التحريض الطائفي، الذي يجري الحديث عنه على نطاق واسع، إلى مجموعات توصف بـ"الأسدية"، وهو مصطلح شاع استخدامه خلال حكم الأسد الأب، للدلالة على فئة تدين له بالولاء الأعمى، على الرغم من أن المرحلة التي حكم فيها البلاد 1970-2000 كانت تتصف، حسب بارودي بـ"الكلبتوقراطية"، أي حكم اللصوص، إذ خلقت تمايزا طبقيا غذى حقدا طائفيا، بقي خافتا كالجمر تحت الرماد.
ولفت البارودي، في حديث للجزيرة نت، إلى أن تطور التوجه الإثني والطائفي نحو مشاريع سياسية تحت مسميات متنوعة كالإدارة الذاتية أو اللامركزية أو الكونفدرالية، إنما يخفي وراءه مشروعا انفصاليا محتملا، سبق أن عانت سوريا منه خلال فترة الاحتلال الفرنسي، حين استثمرت فرنسا في الطوائف والأقليات من أجل تعظيم مصالحها الاستعمارية.
في استحضار للتاريخ، تظاهر مقابل قصر العدل في"بورت دو كليشي" بالعاصمة الفرنسية باريس، سوريون مناهضون للعهد الجديد في سوريا، أطلقوا خلالها شعارات طالبت بحماية دولية عاجلة للأقليات، على خلفية ما عُرف بأحداث الساحل السوري، في سعي محموم لتحديث رواية قديمة مضى عليها أكثر من 100 عام، رفعت الشعار ذاته، حسب خبراء.
إعلانويرى محللون أن اختيار باريس مكانا لإعلان هذا المطلب، لم يكن مجرد مصادفة، بل جاء بناء على دراية تامة بأن الطائفية كمشروع سياسي لم تغب عن سوريا، منذ أن احتل الجيش الفرنسي الساحل السوري في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي.
وتعزز وثائق أرشيف الخارجية الفرنسية هذه النظرة، من خلال رسالة وجهها الجنرال هنري غورو -مفوض الحكومة الفرنسية في لبنان وسوريا- إلى وزير الخارجية ستيفان بيشون في 2 أغسطس/آب 1920، يقترح فيها تقسيم سوريا إلى دول طائفية، منها دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز، تحت مسمى تنظيم الأراضي الموكلة إلى فرنسا بموجب نظام الانتداب.
وتُجمع تحليلات معمقة لباحثين في شؤون الشرق الأوسط على أن إستراتيجية الحكومة الفرنسية التي حملها غورو إلى سوريا كانت تهدف إلى تشكيل خارطة سياسية واجتماعية جديدة، تعتمد على الطوائف والأقليات، لاستخدامها كقوة موازية، أمام أكثرية كانت ترفض الانتداب، وتتطلع إلى دولة موحدة مستقلة، لا تعترف بأي نظام سياسي يعتمد المحاصصة الطائفية في الحكم.
في هذا السياق، أكد الباحث المختص بشؤون الطائفة العلوية كمال شاهين أن مفهوم الأقليات الذي ابتدعته فرنسا هو مفهوم استعماري، فحين ادعت حماية المسيحيين في لبنان -على سبيل المثال- أنتجت دولة طائفية بامتياز، مثلما أوصلت الولايات المتحدة العراق بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين في عام 2003 إلى النتيجة نفسها.
المسيحيون: لا مساس بوحدة البلاد
إلى ذلك، بقي المسيحيون -بخلاف معظم الأصوات التي تتحدث باسم الأقليات- يرون في وجودهم جزءا أصيلا من الجسم السوري، ضمن تشاركية غير مسبوقة، رفعت السياسي المسيحي فارس الخوري إلى مناصب رئيسية في الدولة، كان من أهمها بعد رئاسته للحكومة والبرلمان، إدارته في عام 1944 وزارة الأوقاف الإسلامية.
وفي السياق، ينظر السياسي السوري المسيحي إدوار حشوة إلى دور المسيحية الشرقية، وغيرها من الطوائف، من خلال الباب الوطني وتحالفها مع الأكثرية، لا الوقوف ضدها، ويرى أنه كلما كانت الطوائف متحدة مع الأغلبية كجزء منها، كلما كان دورها أكبر.
وقال حشوة، في حديثه للجزيرة نت، "في بداية الفتح الإسلامي، كانت سوريا مسيحية بالكامل، لكنه مع الوقت انتقل الكثيرون إلى الإسلام، واحتفظوا بأصولهم المعتدلة والمتسامحة، ولذلك فإن أغلب مسلمي سوريا اليوم هم أبناء عمومة مع المسيحيين، والاستثناءات فيها قليلة".
ولفت حشوة إلى ضرورة أن يبقى الدور المتقدم للأغلبية محترما، ومحل إقناع، ومن يعتقد بغير ذلك -حسب رأيه- أشبه بمن يشعل حربا لم تربحها أي أقلية عبر التاريخ.
وفي الأثناء، رفض ثلاثة من رجال الدين المسيحي، يمثلون أبرشية اللاذقية المارونية وأبرشية عكار وتوابعها للروم الأرثوذكس، والطائفة الإنجيلية في سوريا ولبنان، بشدة -عقب أحداث الساحل- أي تعدٍّ يمس وحدة الأراضي السورية أو يحاول تقسيمها.
واستنكروا الدعوة التي وجهها فلول الأسد للمسيحيين في مدن الساحل الثلاث، اللاذقية وطرطوس وجبلة، من أجل ضمهم إلى التحريض الطائفي الذي ينشطون له.
وأكد رجال الدين الثلاثة، في بيان مشترك، أن الكنائس المسيحية بكهنتها ومؤمنيها ومثقفيها، ترى "ضرورة وضع حد لهذه الدعوات، التي تعمل على تمزيق السلم الأهلي، وتتنافى مع كل قيمنا الإنسانية والأخلاقية والوطنية". واعتبروا "ما يُنشر من دعوات مشبوهة للنيل من وحدة الوطن واستقراره عبر مطالبة المجتمع الدولي بإدارة ذاتية للساحل السوري، إنما يشكّل تصعيدا خطيرا".
يرصد محللون الطائفية والإثنية في سوريا كظاهرة متعددة الأبعاد، فهي -علاوة على تشابكها الديني والتاريخي والسياسي- تمثل أيضا صراعا على السلطة والموارد، ويفسر ذلك تاريخ سوريا في الفترة التي سيطرت فيها عائلة الأسد على مقدرات البلاد ومواردها.
إعلانويذهب الخبير المختص بعلم الاجتماع سعيد البني إلى أن عائلة الأسد استخدمت الطائفية كأداة للنهب المنظم والحشد والتعبئة، كما استعانت لإنجاح مسعاها بسرديات عن الطوائف الأخرى أوصلت العلاقة المجتمعية إلى حدود العداء والصراع.
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن استئثار الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد بمراكز القوة في الدولة، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، أحدث شرخا كبيرا مع المكون الاجتماعي الرئيسي، وتفاقم الوضع أكثر، عندما تعرض الأخير لحرب امتدت نحو 14 عاما، فقد فيها مئات آلاف الضحايا.
ولفت إلى أن "أوليغارشية" النظام البائد ونهجه المتسلط المستبد فتت المجتمع، وأفقده هويته الوطنية، كما تعامل مع مكوناته الأخرى كمواطنين من الدرجة الثانية، ما يفسر -حسب البني- تصاعد حدة الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية الذي تم تبادله في الآونة الأخيرة.
لا تعايش من دون عدالة
يدفع التحريض الطائفي نحو تمايزات -ما تحت الوطنية- وصراعات جانبية يسيطر عليها العداء المتبادل وخطاب الكراهية على نحو يهدد أمن وسلامة المجتمع في كثير من الأحيان.
وفي هذا الإطار، يرى المختص بالقانون الجنائي الدولي والباحث في قضايا حقوق الإنسان المعتصم الكيلاني أن السلم الأهلي لا يبنى فقط عبر نزع السلاح، بل عبر تجفيف منابع الخطاب الذي يحرض على الكراهية والتمييز، ويفكك تاليا النسيج الاجتماعي الذي لطالما كان متماسكا قبل استيلاء البعث على السلطة في سوريا.
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن الانتقال من الحرب إلى السلام، ومن الانقسام إلى الوحدة، يتطلب وجود عدالة انتقالية، ولا يمكن للعدالة أن تشق طريقها ما لم يتم تفكيك الخطاب الطائفي التحريضي والتعامل معه بطريقة قانونية تحد من انتشاره.
وقال الكيلاني إن تجريم الطائفية وخطاب الكراهية هو ترجمة واقعية لمبدأ العيش المشترك، الذي نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت، علاوة على أنه ضمانة أخلاقية لبقاء سوريا دولة موحدة، آمنة، تحترم مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم، مشيرا إلى أن وجود مادة دستورية تجرم التحريض الطائفي وخطاب الكراهية بشكل صريح سيكون بمثابة خط الدفاع الأول لحماية التعايش بين المكونات الدينية والعرقية.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أصدر إعلانا دستوريا مؤقتا في مارس/آذار الماضي، تضمن 4 مواد تشكل، حسب الخبير، قاعدة قانونية لتجريم الطائفية وخطاب الكراهية. نصت على: التزام الدولة بتعزيز السلم الأهلي ومنع التحريض على الفتن الطائفية والعنف، والمساواة بين جميع السوريين دون أي تمييز، ووجود هيئة خاصة بالعدالة الانتقالية، وتجريم الإشادة بجرائم نظام الأسد أو إنكارها.
توصيات لمنع التحريض وتحقيق العدالة
ويوصي الخبير الكيلاني بضرورة تفعيل النصوص الآنفة عبر ما يلي:
إصدار قانون خاص بتجريم خطاب الكراهية، يستند إلى ما ورد في الإعلان الدستوري، ويحافظ على المعايير الدولية لحرية التعبير. دعم الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، ومنحها صلاحيات تتعلق برصد وتوثيق الخطاب التحريضي. تفعيل الرقابة على المنصات الإعلامية والدينية ومنع استغلالها في إشاعة الفتن والتمييز. إصلاح مناهج التعليم وتبني ثقافة التعدد والمواطنة.وفي السياق ذاته، طالب مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا الحكومة بتحمل مسؤولية محاسبة المجرمين، ورأى في بيان صدر مؤخرا أن تحقيق العدالة، وحفظ وحدة الصف، وصون الدماء والأعراض، هي من أبرز الضمانات لحماية المجتمع من الفتنة، وأن استيفاء الحقوق يجب أن يتم عبر المؤسسات الشرعية المختصة، لا عبر ردود الأفعال الفردية، مشددا على أن تجاوز القانون من شأنه أن يفتح أبواب الفتنة، ويهدد أمن وسلامة المجتمع.