بقلم: محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)
●لقد كتب الكثيرون عن الأزمة السودانية وجذورها التأريخية منذ قبل إعلان ميلاد "الدولة الحديثة" في الفاتح من يناير 1956م ، وكيف عملت صفوة سياسية صغيرة على هندسة السودان وفق رؤى ومشاريع أحادية في وطن متعدد ومتنوع ثقافياً وعرقياً ودينياً ، حيث عملت على فرض مشروع إسلاموعروبي وحددت هوية غير واقعية للبلاد، واستغلت جهاز الدولة ومواردها في الهيمنة وبسط نفوذها ومقاومة أي تغيير يقود إلى بناء دولة مواطنة متساوية ، وهمشت الغالبية العظمى من أطراف السودان ثقافياً وإقتصادياً وإجتماعياً وتنموياً، إلا أن الأقاليم السودانية لم تستكن لهذه الهيمنة وقاومت سلمياً عبر تكوين تنظيمات مطلبية ولاحقاً أجبرت على حمل السلاح بعد عجز الوسائل السلمية، فكان تمرد توريت 1955 أول حركة مقاومة مسلحة في السودان ومن بعد حركة الأنانيا الأولى والثانية ظهرت حركات الكفاح الثوري المسلح ومن أبرزها الحركة الشعبية لتحرير السودان 1983 وحركة/جيش تحرير السودان 2002.
●من المفارقات أن أكثر المناطق والمجموعات الإجتماعية تهميشاً في السودان (حزام البقارة) الممتد من الجبلين إلى أم دافوق قد وقف أغلبه ضد حركات التحرر التي تنادي بالعدالة والمساواة ودولة المواطنة المتساوية ، وأصبح مسرحاً للتجنيد والتمليش وحائط الصد الأول لمنع توغل قوات الحركة الشعبية شمالاً، وقد كان السبب المباشر في تأخير التغيير في السودان على (نموذج شرق إفريقيا)، ونفس هذه المجموعات قد تم تمليش بعضها إبان إنطلاق الثورة المسلحة في دارفور فيما عرف بمليشيات الجنجويد التي إرتكبت بإشراف وأوامر من قادة الحكومة والجيش السوداني جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية التي بموجبها أصبح عمر البشير وقائمة خمسين من أركان نظامه مطلوبين لدي المحكمة الجنائية الدولية.
●لولا وقوف هؤلاء المهمشين في الجانب الخاطيء من التأريخ لما تأخرت عملية التغيير في السودان ولما وصلت بلادنا إلى هذه الحالة التي وصلت إليها اليوم، ويجب التذكير بأن هنالك عدة أسباب قد جعلت هؤلاء المهمشين يقفون ضد التغيير الذين هم أول المستفيدين منه وضد خلاصهم وتحريرهم من التهميش المتعمد ، منها الجهل وعدم الوعي، وقصور إعلام الحركات الثورية والدعاية الحكومية وسيطرتها على وسائل الإعلام، وسياسة فرق تسد واللعب على التناقضات في المجتمعات وتسييس صراعاتها حول الماء والكلأ والأرض، فأستغلت الحكومة الدين في صراع جنوب السودان وصورت الحرب على أساس إنها جهاد مسلمين ضد كفار وأغلب غرب السودان شارك وفق هذا المنطق المعوج، أما في حالة دارفور فقد إستغلت الحكومة عامل العرق لجهة أن "الجميع مسلمين" وقسمت المجتمعات إلى عرب وزرقة وزرعت بينهم الفتن والغبينة ، رغم أن كل هذه الحروب لا علاقة لها بالدين أو العرق إنما نتاج للظلم والتهميش وعدم العدالة والمساواة بين بنات وأبناء الوطن الواحد.
●إن حرب 15 أبريل 2023م ورغم إختلاف السودانيين حولها إلا إنها بطبيعة الحال إمتداداً للصراعات السابقة بكل ما تحمل من أبعاد عرقية وسياسية وثقافية وإجتماعية، ومع إختلاف الفاعلين في مسرحها الآن إلا أن الخصم والعدو واحد وهو "الجيش المؤدلج" الذي قام على حماية ونفوذ وإمتيازات الصفوة السياسية التي ورثت الحكم من المستعمر ، وهو الذي قاتل كل حركات التحرر الثوري في السودان ، وهو من قام بتكوين كل المليشيات المساندة ذات الطابع العرقي والديني والجهوي والمناطقي، منها: مليشيا القوات الصديقة، مليشيا التوم النور دلدوم، مليشيا فاولينو ماتيب، مليشيا المراحيل ، مليشيا كافي طيار البدين ، مليشيا الجاو، مليشيا الجنجويد ، مليشيا أبو طيرة، مليشيا الشرطة الظاعنة ، مليشيا حرس الحدود ثم قوات الدعم السريع التي قالوا عنها "خرجت من رحم القوات المسلحة" وتم تقنينها عبر قانون تم أجازه برلمان نظام البشير وعندما إختلفت معهم وقاتلتهم وصفوها ب"عرب الشتات" والأجانب والمرتزقة وهلمجرا..فإذا كانوا كذلك فمن الذي جلبهم للسودان ومنحهم الجنسية حتى يريدون منا تصديق هكذا ترهات أو نكون في خانة العملاء والمأجورين؟!
●إن الحرب وبكل بشاعتها وأهوالها وتشريدها للملايين وقتلها لعشرات الآلاف من الأنفس البريئة إلا إنها قد وضعت السودانيين أمام الحقيقة التي لا مفر منها، وهي أن الدولة السودانية (تركة الإستعمار) لا يمكن أن تستمر، وأن التغيير وبناء دولة مواطنة متساوية بين جميع السودانيين أمر حتمي للمحافظة على ما تبقى من السودان، وواجب الجميع السعي نحو وقف وإنهاء الحرب بأسرع ما يكون عوضاً أن يكونوا أطرافاً فيها بدعم هذا الطرف أو ذاك، لجهة أن هكذا أفعال ستعقد من الأزمة وتطيل أمد الحرب، ولا حسم عسكري يلوح في الأفق ، وإن تحقق فسيكون بكلفة مادية وبشرية باهظة وربما يكون الثمن وحدة السودان.
●في ظل سيادة خطاب الكراهية والعنصرية والعرقية والجهوية والتحشيد المتهور الذي نراه وتأدية فروض الولاء والطاعة لمن كانوا سبباً في شقاء السودان، والحج إلى "وادي سيدنا" لإظهار الدعم والمساندة ل"جيش الفلول" بلا شك سيقود السودان نحو حرب أهلية شاملة (حرب الكل ضد الكل)، ويتوقع دخول أطراف جديدة إلى حلبة الصراع سواء من داخل أو خارج السودان مما سيعقد المشهد أكثر، وحينها سيكون الحل عبر التفاوض والحوار حلماً بعيد المنال، لأنه من الصعوبة بمكان أن تتفاوض وتتحاور مع أطراف عديدة تختلف في الرؤاي والأهداف ومبررات دخولها للحرب، كما أن المستنفرين من الولايات المختلفة سيكونوا مليشيات مسلحة جديدة وبالتالي ستكون لديهم مطامع وأهداف سياسية ومشاركة في السلطة وهندسة السودان أو اللجوء إلى قتالهم ومحاربتهم.
●لا أستطيع إستيعاب وهضم مسألة فئة من المهمشين كانت تنادي بالتغيير وبناء "سودان جديد" وقاتلت وقدمت أرتالاً من الشهداء والجرحي والملايين من المشردين ، أن تضع يدها مع من كانت تقاتلهم، وهم كانوا حماة للدولة المركزية القابضة ومشروعها الأحادي، ويدها الباطشة التي ظلت تقتل وتسحق كل أطراف السودان التي نادت بحريتها وحقوقها، وتفعل نفس ما فعلته مجموعات المهمشين في "حزام البقارة" التي أشرت إليها في صدر المقال، مما يؤكد أن أزمة الهامش والمهمشين مركبة، ويعانون من عطب في التفكير والتحليل وتحديد الأولويات ومعرفة العدو الإستراتيجي والخصم التكتيكي، ويعاني بعضهم من نفسية تأبى الخروج من قوقع العبودية إلى رحاب الحرية، وتنطبق عليهم مقولة: (لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات).
26 مارس 2024م
elnairson@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
سقوط مشروع اخوان السودان أمام إرادة الشعب
سقوط مشروع اخوان السودان أمام إرادة الشعب
حسب الرسول العوض إبراهيم
لم تهدأ وتيرة الحرب التي أشعلها اللاسلاميون في البلاد، ولم يخفت صوت المدافع والرصاص. كانت هذه هي الحرب التي أرادوها بلا تردد، حرب دفعت الشعب كله إلى جحيم مستعر ، ففي مناطق العمليات يحضر القتل والنزوح والتشريد، وفي المناطق التي لم تبلغها المعارك يحضر المرض والجوع والغلاء والفقر. وفي المقابل، ينعم المتكسبون من هذه الحرب وأسرهم بالأمن والرخاء، يعيشون في عواصم ومدن تؤمّن لهم أعلى مستويات التعليم والعلاج ورفاهية العيش، بعيداً عن نيران الحرب التي دفعوا الشعب إليها.
ورغم طول أمد الحرب إلا أن حقيقتها وحقيقة من أشعلوها تتكشف كل يوم. فقد نشر طه عثمان إسحق أحد أعضاء قوى الحرية والتغيير وثائق تكذّب ادعاءات الكيزان بأن الاتفاق الإطاري كان سبباً في اندلاع الحرب وكشف فيها تورط البرهان في المراوغة ورفض تنفيذ الاتفاق الإطاري الذي كان من شأنه أن يجنب البلاد الانزلاق إلى هذا الجحيم.
وفي خضم هذه التطورات برزت معلومات تشير إلى أن البرهان تقدم بشروط جديدة لوفد الرباعية ، تتضمن الشروط الآتية :
تحديد عمر الفترة الانتقالية بست سنوات .
عدم فتح ملفات تمكين النظام السابق .
عدم فتح ملفات محاكمة رموز النظام السابق.
عدم فتح ملف المحكمة الجنائية الدولية .
وأن تفتح هذه الملفات فقط في ظل حكومة منتخبة.
هذه الشروط تفضح بوضوح كذب الإسلاميين وتكشف مخططهم الحقيقي لإشعال الحرب ، فهي ذاتها مطالبهم وهي الأسباب الرئيسة وراء اشعالهم للحرب وهذا يؤكد حقيقة جوهرية وهي أن الإسلاميين (الكيزان) أدركوا استحالة حسم الحرب عسكرياً ولم يعودوا يعارضون وقفها لكن بشروط تضمن لهم الإفلات من المحاسبة على ما ارتكبوه وتمنع تحميلهم المسؤولية عما جرى.
وقد يكون هدفهم أيضاً القفز فوق مسؤوليتهم عن الكارثة والمشاركة في ترتيبات ما بعد الحرب أو السعي لتمديد سيطرتهم ست سنوات أخرى بلا تفويض شعبي مستندين فقط إلى “شرعية الحرب” وكأن 36 عاماً من الحكم لم تكن كافية لهم وما زالوا يطمعون في المزيد.
ومن ملامح الفترة الماضية أيضاً ما قد يفسر تحرك الإسلاميين نحو قبول إنهاء الحرب هو فشل حملة الاستنفار والتعبئة التي أعقبت سقوط الفاشر والتي قوبلت برفض شعبي واسع. فقد تجاهلها السودانيون تماماً في تعبير صريح عن رفضهم استمرار الحرب ورغبتهم العميقة في وقفها. تلك الحملة كانت تهدف للتغطية على ما جرى في الفاشر من انتهاكات ارتكبها الدعم السريع والتي أثبتت مجدداً أن المدنيين هم الضحية الأولى والأخيرة لهذه الحرب.
ويعزز هذا الفشل ما جرى في معارك شمال كردفان التي قادتها قوات درع السودان والتي تكبدت خسائر فادحة وأصيب قائدها أبوعاقلة كيكل وسط تكتم شديد حول حالته. وتبرهن هذه المعارك واستمرارها مرة أخرى على حقيقة لا تقبل الجدال ان استمرار الحرب عبث كامل ولا جدوى من مواصلتها.
كاتب ومحلل سياسي
[email protected]
الوسومإخوان السودان إرادة الشعب الثورة الحرب حسب الرسول العوض إبراهيم