في خاتمة المقال السابق أكدنا أن التطبيع بهذا الاعتبار "ذاكرة" و"حالة يكمن في خلفها خطط واستراتيجيات" و"عملية، بل وعمليات" و"علاقات تتطور وربما تصير تحالفات" و"سياسات" و"مسارات ومؤسسات وأدوات ومجالات" و"عقبات وتحديات" و"تدافع وتدافعات" و"مقاومة ومواجهات" و"آثار ومآلات"، كل ذلك وضمن هذه الامتدادات التي تتعلق بالفعل التطبيعي؛ فإن الأمر يستحق الدرس والفحص.

في ضوء كل هذا فإن التطبيع بأشكاله المختلفة خيانة ومقاومته ومدافعته أمانة؛ كان مقصدنا من تلك الكلمات أن ننبه الى ضرورة النظر الى التطبيع كمنظومة أو منظومات هذا النظر الاستراتيجي والحضاري، حتى تكون المقاومة المكافئة له التي تعادل استراتيجياته وخططه بالمقاومة الحضارية الشاملة.

إنها حالة تكمن خلفها خطط واستراتيجيات؛ تهدف الى صناعة حالة من الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة، وتحويل علاقات الصراع بينه وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية، وأكثر من ذلك التخلص من القضية الفلسطينية تحت عنوان التسوية بالتصفية في سياق استراتيجيات تقوم عل كل تلك الاستهدافات تحت عنوان "صفقة القرن"؛ وهي أخيرا حرث الأرض العربية لتحقيق الهيمنة للكيان الصهيوني وضمان أمانه؛ قاصدة خلق قابليات نفسية للتعايش مع العدو المغتصب والمحتل وإسقاط ما أسموه الحاجز النفسي، والقفز على حقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني بكونه صراعا حضاريا مصيريا وجوديا.

وفي ذاكرتنا الحضارية تَمثل في عمليات متسللة ومتدرجة في بداية أمرها كان يحاك لها وجودا وتعاونا سريا، ثم تطور الأمر إلى عمليات واضحة فجة في كافة المجالات؛ وعلى رأسها الديني من خلال ما أُسمي الديانة الإبراهيمية كسبيل لدخول الكيان الصهيوني الساحة العربية والإسلامية تحت هذا العنوان الذي يتخفى في جمع الديانات المنزلة على صعيد واحد، ولم يكن يقصد بهذا إلا تسكين الحالة الصهيونية وجعلها مقبولة في العالم العربي والإسلامي؛ ذلك يعني أن الصيغة "الإبراهيمية"، كمحاولة لاختراق الوعي الديني تطبيعيا، هي مشروع تهويد للمسيحية والإسلام، وبالتالي تهويد وعي أتباعهما. وإذا كان مشروع إنشاء "مسيحية متصهينة" قد قطع شوطا بعيدا في الغرب، وما برحت المسيحية المشرقية تأنف منه، فإن "الإبراهيمية" هي مشروع إنشاء "إسلام متصهين"، والإسلام والمسيحية من بدعة "الإبراهيمية" براء؛ كما يقول ويؤكد في عبارة عميقة وبليغة "الأستاذ إبراهيم علوش": الأمر أبعد من كونه بدعة، إنها خدعة كبرى تتدثر بالدين وما هي كذلك.

عقد اتفاقيات السلام لا يحقق للاحتلال الأمن الذي يطمح إليه، ولا يكفي لضمان استقراره على هذه الأرض، ذلك أن الخطر الذي يتهدد الكيان الصهيوني يأتي من قبل الشعوب، والسبيل إلى هؤلاء لا يكون إلا بالتطبيع، والذي يمكن من خلاله تهيئة الشعوب وترويضها على قبول هذا الكيان
وترافق مع ذلك تطبيع ثقافي من قبل مثقفين يا للأسف الشديد تسارعوا الى كسر القواعد الاستراتيجية في التعامل والتعاون والترويج لكافة هذه العلاقات المشبوهة التي غلفوها بفوائد الاستقرار المزعوم والرفاه المحتمل؛ واتخذ أشكالا وأوعية مختلفة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسياحي والإعلامي... الخ. ثمة ثلاثة أنماط من التطبيع نشأت وتكرست، حتى الآن، في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية على مر السنوات، هي:

الأول: تطبيع غير رسمي يتميز بوجود علاقات ثنائية بين الدولتين، بصورة أساسية إسرائيل والدولة العربية المعنية (من دون إقامة علاقات دبلوماسية).

الثاني: تطبيع رسمي وظيفي ربما كان جزئيا، مفروضا أو اختياريا، يتميز بالتعاون في مجالات الأمن والاستخبارات بشكل رئيس، وربما الاقتصاد في بعض الأحيان. ويستند هذا النمط، أساسا، على وجود مصالح مشتركة وأعداء مشتركين ويجري من وراء الكواليس، رغم احتوائه على بعض المظاهر العلنية الناجمة عن وجود علاقات دبلوماسية بين الدولتين.

الثالث: تطبيع شرعي وكامل يتميز بوجود تعاون متعدد الأوجه والمستويات، على الصعيدين الحكومي والشعبي على حد سواء. في هذا النمط، يلعب النظام الحاكم في الدولة العربية المعنية دورا حاسما، إذ يقود من الأعلى سيرورة تعاون متشعب ومثمر مع إسرائيل يجري الجزء الأكبر منها في العلن وبصورة مكشوفة، بينما يجري جزؤه الآخر في الخفاء.

أما كون التطبيع ذاكرة وعلاقات وسياسات كانت في حدها الأدنى تطورت مع حالة الهرولة التطبيعية؛ إلى أشكال أخطر قد ترقي مع النظم الرسمية إلى تحالفات، فهو أمر يستحق المتابعة ومزيد من الدراسة والبحث الذي يتابع تطورات طرأت على هذا المسار التطبيعي في العلاقات والسياسات التابعة لها. فمنذ شاعت كلمة التطبيع والتي شُرّعت مع اتفاقيات كامب ديفيد المشؤومة التي وقعت في 17 أيلول/ سبتمبر 1978  حيث وردت عبارة علاقات عادية وطبيعية؛ تسعى سياسات لجعل التطبيع عاما شاملا لجوانب الحياة، ويتيحون للعدو الصهيوني اختراق المنطقة حد الامتلاء، ويسعون لجعل العلاقة مع العدو الصهيوني طبيعية كأنها سجية، والمقصود إنهاء حال المقاطعة.. التي انتهت بقرار رسمي في شباط/ فبراير 1980.

أما الهدف الاستراتيجي الرئيس فمفاده وفقا للرؤية الصهيونية والغربية كسب المعارك التي تحقق للاحتلال الإسرائيلي جميع الأهداف المنشودة، فهناك أهداف لا يمكن تحقيقها بالقوة، لذلك لجأ إلى التطبيع لتحقيق ما عجزت الحروب عن تحقيقه. فالقوة لم تستطع دمج الاحتلال في المنطقة، ولم توفر له احتياجاته الضرورية من جيرانه، لضمان استمراره وقدرته على البقاء. وقد أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بيريز أن القوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تحقق الأهداف المطلوبة، وأن الوسيلة الناجعة تكمن في تطبيع العلاقات مع الجيران.

الهدف الاستراتيجي الرئيس فمفاده وفقا للرؤية الصهيونية والغربية كسب المعارك التي تحقق للاحتلال الإسرائيلي جميع الأهداف المنشودة، فهناك أهداف لا يمكن تحقيقها بالقوة، لذلك لجأ إلى التطبيع لتحقيق ما عجزت الحروب عن تحقيقه. فالقوة لم تستطع دمج الاحتلال في المنطقة، ولم توفر له احتياجاته الضرورية من جيرانه، لضمان استمراره وقدرته على البقاء
فعقد اتفاقيات السلام لا يحقق للاحتلال الأمن الذي يطمح إليه، ولا يكفي لضمان استقراره على هذه الأرض، ذلك أن الخطر الذي يتهدد الكيان الصهيوني يأتي من قبل الشعوب، والسبيل إلى هؤلاء لا يكون إلا بالتطبيع، والذي يمكن من خلاله تهيئة الشعوب وترويضها على قبول هذا الكيان.

إنّ استراتيجية كل تلك الأدوات التطبيعية ومجالاتها المختلفة كما حددها تماما الأستاذ إبراهيم علوش في مقاله الضافي "معنى التطبيع ومناهضته في زماننا": "هي تجاوز الدفاعات المجتمعية باختراقات فردية، في البداية، يمكن أن تصبح رؤوس جسورٍ عائمة لإعادة برمجة الوعي المجتمعي تطبيعيا، إن لم تحاصر وتعزل؛ ويلي ذلك وضع برامج عامةٍ تستهدف القطاعات المجتمعية كافة من الطلاب، النساء، التجار، الإعلاميين، المثقفين، الفنانين، إلخ... وندخل في التطبيع في كل قول أو فعل يتعامل مع الاحتلال، وما يمثله، كأمرٍ طبيعي."

أما كون التطبيع "عقبات وتحديات" و"تدافعا وتدافعات" و"مقاومة ومواجهات" و"آثارا ومآلات"، فإن كل ذلك يشير الى ما يجب عمله ضمن سياسات واستراتيجيات وخطط وبرامج ضمن التدافع الإيجابي، ومواجهة كل العقبات، والاستنفار لمجابهة التحديات التي يفرضها علينا عالم المطبعين دولا أو مؤسسات وتكوينات نشأت منذ زمن لتقوم بكل ما من شأنه الترويج لهذه الحالة الخطيرة والحقيرة؛ التي صارت تتسلل في أثواب مختلفة تفضح أكثر من أن تتستر.

إن تلك المآلات التطبيعية وتوابعها وجمل الآثار السرطانية التي تتركها على كيان الأمة وصحتها وعافيتها، وهذه الآثار والنتائج الوخيمة على مقاومة الأمة وإنتاج الأثر المطلوب محليا وإقليميا وعالميا في مواصلة مسيرة التحرير والحرية.. كلها حالات وعمليات وسياسات وأنماط ومستويات تفت في عضد الأمة ومقاومتها على حد سواء؛ وهو ما يفرض على الأمة بمكوناتها استراتيجية المواجهة والمقاومة؛ استراتيجية شاملة وكاملة كما هو التطبيع فتصير تلك المواجهة حضارية بكل ما لهذا الوصف من معنى.

إن هذه النظرة المنظومية الشاملة لظاهرتي التطبيع والتصهين نظرا للعلاقة الوطيدة فيما بينهما؛ هي الأجدر أن نتبناها، وهي تدفع بحق إلى عمل ناهض مقاوم ومجاهد. وهي تعني ضمن ما تعني بناء استراتيجية شاملة لها كل جوانبها؛ دينية وما يتبعها من خطاب ديني عقدي يتعلق بأصل القضية؛ وثقافية تنهض بوعي الشعوب وواجبها التأسيسي في دعم المقاومة ومناهضة التطبيع، هذا الخطاب الثقافي تبلغ أهميته القصوى في مواجهة كل ما يرتبط بالغزو الصهيوني وعملياته التسميمية وحروبه النفسية وهو أمر لا يقل أهمية عن المعارك الأخرى.. هذه الاستراتيجية الثقافية يجب أن تستصحب استراتيجية خطاب إعلامي يصد هجمات العدوان والطغيان؛ ويؤسس في المقابل لتمكين السردية الحقيقية للقضية الفلسطينية؛ وتأسيس الوعي وترشيد السعي المرتبط بقضايا الأمة الكبرى؛ وكذلك اعتماد استراتيجية خطاب حضاري شامل؛ هذه الاستراتيجية المتكاملة وجبت وعيا وسعيا صياغة وممارسة بعد طوفان الأقصى.. وللحديث بقية.

twitter.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التطبيع الصهيونية العالم العربي إسرائيل الاحتلال إسرائيل الاحتلال العالم العربي التطبيع الصهيونية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکیان الصهیونی

إقرأ أيضاً:

ماذا تملك المقاومة في غزة اليوم لردع الاحتلال؟

منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، لم يتوقف الصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل انتقل إلى مرحلة مختلفة تُدار فيها المواجهة عبر أدوات متعددة، عسكرية وأمنية وإنسانية وسياسية.

ولا تتسم هذه المرحلة بصخب الحرب المفتوحة، لكنها تحمل ملامح صراع منخفض الوتيرة، يقوم على تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإعادة توزيع السيطرة، واستخدام الضغط غير القتالي كوسيلة تأثير رئيسية.

وتُظهر المعطيات الميدانية والسياسات المعلنة للطرفين أن ما بعد وقف إطلاق النار لا يمكن توصيفه كمرحلة استقرار، بقدر ما هو إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات"، تتحكم فيه اعتبارات السيطرة الجغرافية، والاختراق الاستخباري، وتدفق المساعدات، وإعادة الإعمار، وإدارة البيئة الداخلية في قطاع يعاني من دمار واسع ونزوح غير مسبوق.

يرصد هذا التقرير أبرز ملامح معادلة الردع التي تشكّلت بعد الحرب، استنادا إلى الوقائع الميدانية، والتحركات الأمنية، والبيانات السياسية والحقوقية.

مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار توصف بأنها مرحلة إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات" (الفرنسية)أولا: السياسة الإسرائيلية للردع بعد وقف إطلاق النار اعتماد نموذج "الرد الفوري"

اعتمدت إسرائيل عقب وقف إطلاق النار سياسة أمنية تقوم على الاستجابة السريعة والمحدودة لأي تحرك تعتبره تهديدا لقواتها أو لمناطق انتشارها داخل قطاع غزة.

وشملت هذه السياسة تنفيذ عمليات استهداف متكررة ضد أهداف ومجموعات فلسطينية، زعم الاحتلال أنها كانت تحاول تنفيذ كمائن أو عمليات إطلاق نيران أو الاقتراب من مناطق عسكرية محظورة، في حين أكدت المقاومة أن جيش الاحتلال كان يتذرع بهذه الحجج لمواصلة عدوانه على المواطنين في القطاع.

وتشير البيانات العسكرية الإسرائيلية إلى أن هذا السلوك يُعد جزءا من "تثبيت الهدوء بالقوة"، وهو نهج يهدف إلى منع الفصائل الفلسطينية المسلحة من إعادة اختبار حدود الردع أو التمركز قرب المواقع التي تتمركز فيها القوات الإسرائيلية.

إعلان

وأسفرت هذه العمليات، وفق إحصاءات طبية فلسطينية، عن استشهاد مدنيين في عدة مناطق تشهد وجودا عسكريا إسرائيليا متواصلا، ويعكس هذا النهج استمرار الخروقات الإسرائيلية رغم وقف النار، ضمن حدود لا تُفضي إلى تفجير مواجهة شاملة من جديد.

دخان يتصاعد من مخيم النصيرات بعد الغارات الإسرائيلية في 2 ديسمبر/كانون الأول 2025 (الفرنسية) سياسة منع حماس من استعادة قدراتها

تُعدّ مسألة منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس أحد أبرز محاور السياسة الإسرائيلية بعد الحرب، وتشير بيانات جيش الاحتلال إلى استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف ضد عناصر تقول إسرائيل إنهم ينتمون إلى أجنحة عسكرية أو يشاركون في أنشطة ميدانية.

ووفق مصادر فلسطينية محلية، رصدت الحركة تحركات إسرائيلية تستهدف منع عناصرها من التنقل بحرية في بعض مناطق القطاع التي تشهد وجودا عسكريا، إلى جانب عمليات اغتيال ضد شخصيات ميدانية تتهمها إسرائيل بالضلوع في نشاطات عسكرية.

وتندرج هذه الإجراءات ضمن عملية مستمرة لمنع الحركة من استعادة البنية العسكرية التي كانت قائمة قبل الحرب، خصوصا شبكات القيادة والسيطرة والاتصالات الميدانية.

السيطرة الجغرافية على مناطق واسعة في القطاع

تُظهر الخرائط الميدانية والتحركات العسكرية أن إسرائيل فرضت وجودا عسكريا دائما أو شبه دائم على مساحة تُقدر بأكثر من نصف القطاع، تشمل مناطق شريطية واسعة تمتد من شمال غزة إلى جنوبها.

ويتجلى هذا الوجود في إقامة مناطق عسكرية مغلقة، ونشر نقاط مراقبة ثابتة ومتحركة، ومنع السكان من دخول أراضٍ زراعية أو تجارية قرب خطوط السيطرة، وفرض "خطوط صفراء" تُعد مناطق حظر تنقل.

وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن هذه السيطرة حالت دون عودة آلاف النازحين إلى مناطقهم الأصلية، وأدت إلى تعطيل النشاط الزراعي والصناعي في مساحات واسعة.

وتتعامل إسرائيل مع هذه المناطق باعتبارها "جيوبا أمنية" تهدف إلى منع اقتراب الفصائل المسلحة، وإعاقة أي محاولات لإقامة بنى تحتية عسكرية جديدة.

 الاعتماد على العملاء والمجموعات المسلحة

تشير مصادر فلسطينية وشهادات ميدانية إلى وجود نشاط لشبكات تعمل بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية داخل القطاع، بعضها مرتبط بعملاء تم تجنيدهم سابقا، وبعضها ينشط ضمن مجموعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الفصائل.

وتتمثل الأدوار الموثقة لهذه الشبكات في تمرير معلومات أمنية، ومراقبة تحركات على الأرض، وخلق بيئات مضطربة لا تسمح للفصائل بتنظيم صفوفها، ودعم عمليات الاغتيال عبر تحديد المواقع.

وتُعد هذه الشبكات امتدادا لسياسة إسرائيل طويلة الأمد التي تعتمد على جمع معلومات بشرية لتعزيز قدرتها على إدارة العمليات الميدانية دون الحاجة إلى تدخل عسكري واسع.

القيود الإنسانية كأداة ضغط

تواصل إسرائيل فرض قيود على إدخال بعض أنواع المساعدات إلى قطاع غزة، وخاصة الخيام ومواد البناء والمستلزمات الطبية الخاصة، وفق آليات تنسيق تخضع للفحص الأمني. وقد أدى هذا التقييد إلى تعثر وصول الخدمات الأساسية لعشرات آلاف النازحين.

وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن المناطق الوسطى و"المواصي" في خان يونس تشهد اكتظاظا شديدا بسبب النزوح المتكرر وعدم توفر مساكن بديلة. ويأتي هذا في ظل استمرار تعرض بعض المناطق للقصف المتقطع أو التوغل المحدود.

إعلان

ولا تُقدم إسرائيل هذه السياسة باعتبارها أداة عقاب، بل تبررها باعتبارات "المخاطر الأمنية"، لكن نتائجها الميدانية تُظهر تأثيرها المباشر على الأوضاع الإنسانية، خصوصا في ما يتعلق بالإيواء والرعاية الصحية وتوفر الغذاء.

View this post on Instagram

الإعمار المشروط

تشير بيانات اقتصادية وميدانية إلى أن إسرائيل تسمح يوميا بدخول نحو 200 شاحنة فقط إلى قطاع غزة، في حين أن الحاجة الفعلية، وفق الخطط الإنسانية واللوجستية، تتطلب دخول نحو 600 شاحنة يوميا.

وتحمل الشاحنات المسموح لها غالبية المواد الغذائية والدوائية والتجارية، في حين يُقيّد إدخال مواد البناء الأساسية مثل الحديد والأسمنت، إضافة إلى المعدات الكهربائية والمولدات، تحت وصف "مواد مزدوجة الاستخدام"، أي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء.

ويرتبط السماح بإدخال هذه المواد بعدة ملفات سياسية وأمنية، أبرزها: قضية الأسرى الإسرائيليين، تثبيت وقف إطلاق النار، وضمان عدم استخدام الموارد في تعزيز القدرات العسكرية لحركة حماس.

وقد أظهر الواقع الميداني أن هذا التقييد أدى إلى تأخر عملية إعادة الإعمار بشكل كبير، إذ لا تزال آلاف المباني المدمرة دون ترميم، مع استمرار الأعطال في شبكات المياه والكهرباء، مما أثر على حياة عشرات آلاف النازحين الذين يعيشون في ظروف صعبة.

كما أدى نقص المواد الأساسية إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي المحلي، وتأخير استعادة بعض القطاعات الإنتاجية والزراعية المتضررة.

ويشكل الإعمار المشروط جزءا من إستراتيجية الردع متعددة المستويات التي تتبعها إسرائيل، حيث يجمع هذا الإجراء بين الضغط الإنساني والضغوط الأمنية والسياسية، ليكون وسيلة لفرض قواعد الاشتباك الجديدة بعد وقف إطلاق النار، من دون العودة إلى مواجهة عسكرية شاملة.

 

الخطاب الديمغرافي وتشجيع الهجرة

برز في الساحة السياسية والإعلامية الإسرائيلية خطاب يدعو إلى "تسهيل خروج سكان من غزة" أو "فتح الباب أمام خيار الهجرة الطوعية"، ويستند هذا الخطاب إلى تصوير الوضع الإنساني في القطاع على أنه بيئة غير قابلة للاستمرار، تتسم بالدمار الواسع، ونقص الخدمات الأساسية، والأوضاع المعيشية الصعبة.

توثق تقارير فلسطينية هذا الخطاب باعتباره جزءا من إستراتيجية ضغط طويلة الأمد، تهدف إلى التأثير على البنية السكانية في غزة، وتقليص القدرة التنظيمية والسياسية لحركة حماس من خلال تقليل عدد السكان القادرين على البقاء في القطاع أو المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية.

ويُنظر إلى هذا النهج على أنه امتداد للأدوات غير العسكرية في سياسة الردع الإسرائيلية، إذ يعمل على خلق بيئة اجتماعية ضاغطة تجعل البقاء في القطاع أكثر صعوبة، بما يضع السكان أمام خيار الهجرة أو التكيف مع الظروف القاسية، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف التماسك الاجتماعي والسياسي في المجتمع المحلي.

في هذا السياق، يُعد الخطاب الديمغرافي أداة ردع مجتمعي، تستهدف ليس فقط البيئة العسكرية أو التنظيمية لحركة حماس، بل أيضا التركيبة السكانية كعنصر قوة أو ضعف محتمل في إدارة الصراع طويل الأمد.

ثانيا: سياسات حماس بعد وقف إطلاق النار التحرك عبر الوسطاء

اعتمدت الحركة على قنوات سياسية مع مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة عبر الوسطاء، بهدف تحسين شروط وقف إطلاق النار، وتسهيل إدخال المساعدات، ومعالجة ملفات الأسرى، وتخفيف القيود المفروضة على المدنيين.

وكثفت الحركة اتصالاتها مع الأطراف للضغط على إسرائيل، في محاولة لتخفيف أثر الضغوط الأمنية والاقتصادية على سكان القطاع.

ضبط الأمن الداخلي وملاحقة العملاء

نفذت الحركة سلسلة من العمليات الأمنية ضد الأشخاص الذين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل، وأعلنت عن إحباط محاولات اختراق أمني. كما أعادت تفعيل وحدات أمنية محلية في بعض المناطق بهدف مواجهة الفوضى التي خلّفتها الحرب.

إعلان

وتشير معطيات محلية إلى أن هذه الإجراءات ساهمت في تقليص عدد الحوادث المرتبطة بالسرقة أو الاعتداءات، رغم أن الوضع الأمني ما يزال هشا بفعل النزوح الواسع والتدمير الكبير.

إدارة الأزمة الاقتصادية والمعيشية

اتخذت الحركة إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق، عبر مراقبة حركة التجارة وتسهيل وصول البضائع. ووفق بيانات تجارية محلية، انخفضت أسعار بعض السلع الأساسية خلال الأسابيع الماضية، خاصة تلك التي دخلت عبر المعابر في دفعات كبيرة.

وتأتي هذه الخطوات ضمن مساعٍ لتخفيف الضغوط الإنسانية التي يستخدمها الاحتلال كأداة تأثير على الحاضنة الاجتماعية للحركة.

الحركة اتخذت إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق (الأناضول)

 

إبراز تداعيات الحرب إعلاميا

استثمرت حركة حماس بشكل مكثف وسائل الإعلام المحلية والدولية لإبراز الواقع الإنساني بعد الحرب، مركزة على توثيق الدمار الواسع الذي لحق بالمباني والمرافق الحيوية، وعرض شهادات النازحين والمتضررين من مناطق متعددة في قطاع غزة.

كما قامت بنشر تقارير مفصلة عن الأوضاع الإنسانية المتدهورة، بما في ذلك نقص المياه والكهرباء والمواد الأساسية، وتوسيع دائرة التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية والهيئات الإنسانية بهدف الضغط على المجتمع الدولي لتسليط الضوء على الأزمة.

وتتضمن إستراتيجية الحركة الإعلامية أيضا إبراز الانتهاكات الميدانية الإسرائيلية، بما في ذلك الحصارات المؤقتة وعمليات التوغل والاغتيالات، مما يعكس محاولة ربط المعاناة الإنسانية بالسياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي.

وقد أسهم هذا النشاط في إبقاء قضية غزة في صدارة النقاشات العالمية، وتحريك أجندة المنظمات الدولية والإعلام الدولي، كما ساعد على تعزيز موقع الحركة السياسي والدبلوماسي من خلال التأكيد على مسؤولية إسرائيل عن استمرار التدهور الإنساني.

ويظهر من التحليل أن هذا النشاط الإعلامي جزء من إستراتيجية حماس متعددة المستويات، تهدف إلى الضغط السياسي، تعزيز ردعها الرمزي، والحفاظ على قاعدة دعم محلية وإقليمية دون الانخراط في مواجهة عسكرية مفتوحة في هذه المرحلة.

إعادة التعافي التنظيمي

تشير مصادر فلسطينية إلى جهود تبذلها الحركة لإعادة ترتيب البنية التنظيمية بعد استشهاد أو اعتقال عدد من كوادرها، واستهداف العديد من مقارها وأنفاقها. ورغم نجاحها في إعادة تفعيل بعض قدراتها اللوجستية فإن المعلومات المتاحة لا تؤكد استعادة قدرات عسكرية ذات وزن حتى الآن.

وتشير التقديرات إلى أن الحركة تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال بسبب استمرار الرقابة الإسرائيلية والوجود العسكري في مناطق واسعة من غزة وإغلاق المعابر.

ويظهر من هذه المعطيات أن عملية إعادة التعافي التنظيمي لحماس مرحلة تدريجية وطويلة الأمد، تعتمد على المتغيرات في المشهد الفلسطيني والإسرائيلي والدولي.

التنسيق مع محور المقاومة

تواصل حركة حماس تنسيقها مع محور المقاومة على المستويين العسكري والسياسي، ويشمل هذا التنسيق إيران، حزب الله اللبناني، وأنصار الله في اليمن.

وتركز الحركة من خلال هذه القنوات على رفع مستوى الاستعداد والتحرك المشترك في حال نشوب مواجهات مستقبلية مع إسرائيل، بما يتيح لها تعزيز الردع الإستراتيجي خارج حدود قطاع غزة، وتوسيع دائرة الضغط على إسرائيل من خلال البيئة الإقليمية.

في الوقت نفسه، تعمل حماس على تحريك الجغرافيا الفلسطينية الأخرى، خصوصا الضفة الغربية، بهدف تخفيف الضغط عن غزة واستعادة الزخم التنظيمي والسياسي.

تكشف الوقائع التي تلت وقف إطلاق النار أن قطاع غزة يعيش مرحلة "ردع متعدد المستويات"، إذ تعتمد إسرائيل على السيطرة الميدانية ومنع التعافي العسكري والضغط الإنساني والاختراق الأمني، في حين تحاول حماس تعزيز وجودها السياسي والأمني، وتحسين البيئة المعيشية، والاستثمار في شبكة العلاقات الإقليمية.

ولا تُظهر المعطيات الحالية مؤشرات على نهاية الصراع، بل تعكس انتقاله إلى شكل مختلف يعتمد على ضبط التوتر، وتقليل الخسائر، وإدارة النفوذ، بدل المواجهة الشاملة. وتبقى معادلة الردع بين الطرفين مرشحة للتغيير وفق أي تطور ميداني أو سياسي، في ظل غياب اتفاق يضمن استقرارا طويل الأمد.

مقالات مشابهة

  • المقاومة بين ضغط العدو وصمت القريب
  • إيرواني: يجب على العالم أن يتحرك بحزم لإنهاء الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة
  • أمن المقاومة يحذّر من منشورات دعائية ألقتها مسيّرات الاحتلال وسط النصيرات
  • مصطفى بكري يهاجم ساويرس بعد زيارته الكيان الصهيوني: لقاء القتلة الملوثة أيديهم بالدم «عار وفضيحة»
  • سرايا القدس: تم إغلاق ملف أسرى العدو!
  • ناطق سرايا القدس : أغلقنا ملف أسرى العدو الصهيوني ضمن صفقة مشرّفة ومعركة بطولية
  • ماذا تملك المقاومة في غزة اليوم لردع الاحتلال؟
  • من السيطرة المطلقة إلى القلق.. تحولات في تعامل الكيان الصهيوني مع الأمن السيبراني
  • الكيان الصهيوني ومشروع تقسيم السودان
  • سوريا تعلن انتقالها من مرحلة الصراع إلى البحث عن علاقات طبيعية ودعم دولي