حرية التعبير في عالم يُصادر الفكر
تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
حريةُ التعبير من أجمل وأفضل النعم التي خصَّ بها الله البشر عن غيرهم من المخلوقات في هذا العالم، الذي تزعم فيه كل الأنظمة الاستبدادية أنها تحرص على حرية مواطنيها في الكتابة والنقد البنّاء والتظاهر بلا قيود، وأنه لا سقف يحِد من تلك الحرية.
ولتحقيق هذا المبدأ المزعوم، يحتفل العالم سنويًا، بيوم حرية الصحافة، الذي حددته منظمة "اليونسكو" بالثالث من مايو من كل عام؛ إذ يتم في هذا اليوم استعراض المخالفات الفظيعة- كالسجن والقتل والرقابة والأذى- التي يتعرض لها من يعمل في "مهنة المتاعب"؛ وهي الصحافة الحُرّة التي تحمل شعلة الفكر وتتولى مسؤولية تنوير الأجيال بالحقائق الدامغة، والتي في العادة عبارة عن جرائم القتل والإقصاء، ونهب المال العام، والسطو على المناصب العليا دون وجه حق؛ وذلك بوضع الشخص غير المناسب في المكان الذي لا يستحقه.
إنها بالفعل محرقة القرن الحادي والعشرين في فلسطين، وذلك بالطائرات والمدافع والقنابل الأمريكية الفتاكة. وكان الحدث الأبرز هنا هو رمزية اعتصام الطلبة في أكبر قاعة في جامعة كولومبيا، ورفعهم عليها لوحة تحمل اسم الشهيدة الفلسطينة "هند رجب" والتي استُشهِدَت برصاص الجيش الصهيوني بدمٍ باردٍ في عمر الطفولة؛ إذ لم تتجاوز الست سنوات، كما إن العالم تابع المجازر التي ارتكبتها الدولة المارقة التي تسمى "إسرائيل" بحق الإعلاميين الذين يغطون الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية في غزة؛ إذ ارتفعت حصيلة الشهداء من الصحفيين في قطاع غزة فقط إلى أكثر من 143 شهيدًا منذ "طوفان الأقصى".
يبدو لي أن زمن المزاعم الكاذبة بأن الولايات المتحدة الأمريكية في العالم هي جُزر للحريات المدنية وحماية حرية التعبير، قد ذهب بلا رجعة، فلعل ما ارتكبته الولايات المتحدة من جرائم بحق الإنسانية عبر تاريخها الأسود، ليس في فلسطين المحتلة فحسب؛ بل في فيتنام وسجن أبو غريب في العراق إبان الاحتلال الأمريكي لهذا البلد وكذلك معتقل جوانتانامو سيء السمعة، والسجون السرية التي أقامتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في العديد من دول العالم خارج القانون الأمريكي، ثم كشفتها صحيفة "واشنطن بوست" قد جرَّد أمريكا وقيّد يدها عن الوصاية على الحكومات الوطنية في مختلف دول العالم.
التقرير السنوي للحريات الذي تُصدره وزارة الخارجية الأمريكية لترهيب الحكومات في العالم الثالث وابتزازها باسم حقوق الإنسان، ويعتمد على مكاتب وكالة الإعلام الأمريكية في سفارات الولايات المتحدة، أصبح يفتقد للمصداقية، ولا يساوي حتى قيمة الحبر الذي كتب بها تلك التقارير.
عمانيًا.. تابعنا خلال الأسابيع الماضية الأخبار الإيجابية التي يجب ذكرها ونحن نحتفل في اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي صادف يوم الجمعة؛ إذ اعتمد مجلس الشورى قانون الإعلام الجديد المحال إليه من مجلس الوزراء، وعدّل أصحاب السعادة ممثلو الشعب في هذا المجلس المبارك العديد من المواد التي تُشكِّل قلقًا بالغًا على الصحفيين وحرية الإعلام في هذا البلد العزيز، حيث أضافوا 13 مادة جديدة لمشروع القانون الذي يتكون في الأساس من 61 مادة. وخلصت الحوارات بين الأعضاء التي تقودها اللجان ذات العلاقة إلى حذف كافة العقوبات السالبة لحرية الإعلامي؛ ومنها إلغاء عقوبة السجن، والإبقاء على الغرامات مع تخفيفها إلى الحدود الدنيا. والأهم من ذلك كله تأكيد القانون الجديد على حق الصحفي في الحصول على المعلومة دون فرض قيود عليه من أي جهة كانت.
في الختام.. لا شك أن هذا المشروع القانوني الجديد، قد انطلق بنجاح في محطته الأولى، لكن الأصعب هو الغرفة الأخرى من مجلس عمان: مجلس الدولة؛ حيث بدأ أعضاؤه في نقاش المشروع الذي تم تحويله لهم من مجلس الشورى، وأملنا كبير هذه المرة أن مجلس الدولة لا يتسبب في تعطيل التعديلات التي قام بها مجلس الشورى؛ فعمان في نهضتها المتجددة تستأهل الأفضل. ويجب على هذا البلد العريق بأي حال من الأحوال أن يكون واحة لحرية الفكر والتعبير التي من خلالهما تزهر الأوطان، وينتشر الفكر الرشيد، وتعانق الإبدعات عنان السماء.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام (4-11)
بقلم: الدكتور عبد الله الفكي البشير
[email protected]
ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة:
“يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟”
البروفيسور آمال قرامي
أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس
نتابع الحديث عن خطاب السيد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السيادة في السودان. لقد عبَّر السيد الأزهري عن موقفه من القضاء الشرعي، في الخطاب العام الذي ألقاه يوم الاثنين 23 ديسمبر 1968، ونشرته الصحف تحت عنوان: “نص خطاب الرئيس أزهري: ستكون الكلمة العليا للقضاة الشرعيين في هذا البلد”.
لقد غذى خطاب الأزهري مناخ الإرهاب وتخويف المعارضين للقضاء الشرعي وللقضاة الشرعيين ولرجال الدين وللدستور الإسلامي. فقد أورد محمود محمد طه حديث محمد صالح عمر عن خطاب الأزهري، وأعتبر في حديثه تخويف وإرهاب للمعارضين. قال محمد صالح عمر: “إن كلام السيد إسماعيل الأزهري كلام صحيح في جوهره، ونحن نؤيده، ونرجو صادقين أن يتحقق، وأنه الإسلام لا يعرف محاكم مدنية ولا همجية أو شرعية، وأخرى غير شرعية. ونحن نتعجب هل هي حملة ضد رئيس مجلس السيادة، أم أنها جزء من الحملات المسعورة ضد الإسلام”. علَّق محمود محمد طه، قائلاً هذا هو الإرهاب والتخويف، فعبارة “جزء من الحملات المسعورة ضد الإسلام” تخيف المعارضين والأذكياء من المثقفين. فكأن مهاجمة القضاء الشرعي، والقضاة الشرعيين تعني مهاجمة الإسلام، وكأن القضاة الشرعيين والإسلام شىء واحد، “إن هاجمت القضاة الشرعيين، هاجمت الإسلام”. وأضاف محمود محمد طه، قائلاً: هذا هو الإرهاب الذي يجوز على كثير من المثقفين، وكثير من الأذكياء. لكن، يجب التمييز بين رجال الدين والدين، والأمر الصحيح هو أن “القضاة الشرعيين ضد الإسلام، وأن من يسمون برجال الدين، عاشوا على الدين طول المدى، لم يعيشوا له ولم ينصروه في أي وقت بل شوهوه في أذهان الناس.
أثناء حديثه عن مناخ الإرهاب والتخويف، أشار محمود محمد طه لمواقف المثقفين الأذكياء من خطاب الأزهري، وقال بأنهم “علقوا وخافوا”. فاستشهد بمواقف اثنين من المثقفين، قائلاً: “أنا شديد الإحترام لرجلين من [ناسنا]، بابكر عوض الله وعبدالخالق [محجوب]” ، لكن بابكر عوض الله، مثلاً، قال: “قد جاء حديث الرئيس أزهري أبعد ما يكون من الذكاء والفطنة وبعد النظر. ولم يحالفه التوفيق قط فيما قال”. لكنه عندما جاء لمواجهة الدستور الإسلامي والدعوة للإسلام، فإن هجومه، كما يقول محمود محمد طه لم يستمر، بل “ماع”، فقد قال بابكر عوض الله: “ونحن نعتبر ما قاله حركة انصرافية لشغل الناس عن مشاكل البلاد الأساسية”. رفض محمود محمد طه قول بابكر عوض الله بأن مسألة الأزهري مسألة انصرافية، وقال إذا أخذنا المسألة انصرافية، كما قال بابكر عوض الله، فكأنه يجب علينا أن نهملها، لكن المسألة في الحقيقة أساسية، فهي تأتي بالجهالة باسم الدستور الإسلامي، ولذلك فإن خطورتها كبيرة. ثم أضاف، قائلاً: بنفس قدر تورط عبدالخالق محجوب حينما اعتبر مسألة الدعوة للدستور الإسلامي عند الأزهري، مسألة انصرافية. خلص محمود محمد طه، قائلاً: “أنا أفتكر أن الإرهاب وعدم المعرفة بالإسلام، هو الذي ساق هذين الرجلين المثقفين الشجعان، إلى تمييع هجمومهم على موقف السيد إسماعيل الأزهري”.
أيضاً، لم يكن الرئيس الأزهري بعيداً عن مؤامرات القضاة الشرعية ورجال الدين من أجل محكمة الردة، إلى جانب موقفه من محاضرة محمود محمد طه، وسعيه لجعل الكلمة العليا في البلاد للقضاء الشرعيين، كان الأزهري قد تلقى نداء الأمين داود، آنف الذكر، ونسخة من كتابه: نقض مفتريات محمود محمد طه. وقد تلقى الأمين داود رداً من مكتب رئيس مجلس السيادة، جاء في نص الرد:
القصر الجمهوري: الخرطوم
في 9 ديسمبر سنة 1968
فضيلة الأستاذ الأمين داود
جامعة أم درمان الإسلامية
تحية طيبة واحتراماً
بتوجيه من السيد الرئيس إسماعيل الأزهري أنقل إلى سيادتكم شكر فخامة السيد الرئيس على هديتكم القيمة وهي عبارة عن نسخة من مؤلفكم (نقض مفتريات محمود محمد طه).
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
عبد الرحمن أحمد المهدي
مدير مكتب السيد: رئيس مجلس السيادة
تلقى السيد الفاضل البشرى المهدي، عضو مجلس السيادة نسخة من نداء الأمين داود آنف الذكر “إلى ولاة الأمر في السودان”، ونسخة من كتابه: نقض مفتريات محمود محمد طه. وقد رد السيد الفاضل البشرى المهدي برسالة كانت بتاريخ 3 نوفمبر 1968، قبل انعقاد المحكمة باسبوعين. جاء رد الفاضل البشرى المهدي متحاملاً ولا يليق بعضو في مجلس السيادة، رأس الدولة، وهو أعلى سلطة في الدولة. وقد تفوه السيد عضو مجلس السيادة في خطابه بكلمات تعكس المستوى الخفيض لقادة السودان. كما يكشف رده عن السند والدعم الذي قدمه أعضاء مجلس السيادة إلى القضاة الشرعيين وإلى محكمة الردة، بل إن الأمين داود وجد الموافقة من أعلى سلطة في البلاد، الأمر الذي يؤكد بأن السيد الفاضل البشرى المهدي بهذا الرد كان جزءاً من مؤامرة محكمة الردة، بل طالب السيد الفاضل في خطابه باتخاذ الإجراء الرادع، قائلاً: “أرجو أن يتخذ الاجراء الرادع ضده”. أدناه نص رد السيد الفاضل البشرى المهدى:
القصر الجمهوري: الخرطوم
في 3 نوفمبر سنة 1968
صاحب الفضيلة الأستاذ السيد الأمين داود
تحية طيبة وبعد:
فقد وصلتني هديتكم القيمة المفيدة، وقد تصفحتها وسررت بما قمتم به فيها من دفاعكم عن الحق بدحضكم لمفتريات الماجن المارق من الدين محمود محمد طه لعنه الله. وأرجو أن يتخذ ضده الإجراء الرادع. هذا وأرجو أن يجزيكم الله خير الجزاء على عملكم هذا مع احترامي وسلامي.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
الفاضل البشرى المهدي: عضو مجلس السيادة
كشف السيد خضر حمد، عضو مجلس السيادة عن موقفه من مؤامرة محكمة الردة من خلال رسالة بعث بها إلى محمد خير البدوي (1926- 2016) رداً على سؤاله عن محكمة الردة. كتب محمد خير البدوي في مذكراته قائلاً: “وقد أحزنتني الفتوى التي صدرت في عهد الحكم الديمقراطي بتكفير محمود محمد طه، ورأيت فيها شططاً كبيراً واعتداءً على حرية الفكر والعقيدة. وكتبت رسالة في هذا الشأن إلى الحاج خضر حمد، عضو مجلس السيادة، فرد عليّ برسالة مطولة بتاريخ 28/4/1969″. وأضاف محمد خير البدوي بأن اقتطف من رسالة خضر حمد، فكتب قائلاً إن محمود محمد طه ادعى أنه سيدنا عيسى عليه السلام. ومحمود ما زال يحاول أن يكون نبياً يشارك محمد الرسالة، فذاك الإسلام الأول ومحمود نبي الإسلام الثاني الذي يصلح للقرن العشرين. وقد استفتينا علماء السودان ومصر ومشائخ الطرق وأصحاب السبح والدراويش والعلماء في الجامعة الإسلامية وجامعة الخرطوم وجامعة القاهرة وكلهم كفَّره وخطَّأه. هل يترك ليعير أم يُسلَّم لكوبر؟”.
من الواضح أن السيد خضر حمد، عضو مجلس السيادة، كان داعماً للقضاة الشرعيين ومسانداً لمحكمة الردة، ويتفق في ذلك مع موقف السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة، ويتفق كذلك مع موقف السيد الفاضل البشرى المهدي، عضو مجلس السيادة، الذي كان أكثر تطرفاً في موقفه كما عبر عن ذلك في خطابه إلى الأمين داود.
نلتقي في الحلقة الخامسة.