ترجمة ـ قاسم مكي -

دشَّنت الولايات المتحدة تنافسا استراتيجيا شاملا مع الصين في ديسمبر 2017 عندما طرحت إدارة دونالد ترامب استراتيجيتها الخاصة بها للأمن القومي. منذ ذلك التاريخ استمر التنافس الاستراتيجي للولايات المتحدة لأكثر من ست سنوات مع استلام إدارة بايدن الراية من سابقتها.

إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنجد أن الرئيس الأمريكي السابق ترامب وهو سياسي معادٍ لمؤسسة السياسة التقليدية دشن التنافس الاستراتيجي بطريقة «عنيفة» أما الرئيس بايدن السياسي المنحاز لهذه المؤسسة فظل يُحَدِّث ويُعَقْلِن الاستراتيجيات التنافسية الأمريكية ضد الصين منذ توليه الحكم في عام 2021.

في أكتوبر 2022 كشفت إدارة بايدن عن أول استراتيجية أمن قومي رسمية لها جاء فيها أن «جمهورية الصين الشعبية هي المنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام العالمي وأيضا القوة المتزايدة باطراد اقتصاديا ودبلوماسيا وعسكريا وتقنيا للقيام بذلك. ... في المنافسة مع جمهورية الصين الشعبية كما في ميادين أخرى من الواضح أن السنوات العشر القادمة ستكون عقدا حاسما».

وأوضح أيضا أن استراتيجية الولايات المتحدة للمنافسة الشاملة مع الصين والمرتكزة على تنافس استراتيجي وطويل الأمد تبلورت وبانت ملامحها. إنها باختصار مقاربة ذات أربعة أبعاد.

أولا، تحاول الولايات المتحدة فك ارتباطها تدريجيا وانتقائيا بالصين في المجالات الاقتصادية والتجارية.

كانت الحرب التجارية التي ابتدرتها إدارة ترامب بداية التنافس الاستراتيجي الشامل مع تطوير إدارته لهذه الحرب إلى «فك ارتباط».

لكن حقبة الإصلاح والانفتاح التي تجاوزت 40 عاما قادت إلى تكامل بعيد الغور للاقتصاد الصيني مع العالم الخارجي بما في ذلك مع الولايات المتحدة. لذلك ستنهض أو تسقط كل البلدان مع اقتصادها. ولن تحتمل الولايات المتحدة أو حلفاؤها فك ارتباط فجائي مع الصين. أصبح ذلك واضحا من خلال كل ما حدث منذ أن شنت الولايات المتحدة حربها التجارية ضد الصين وأثناء جائحة كوفيد-19.

على أية حال، تعتقد الولايات المتحدة أنها يجب عليها فك الارتباط مع الصين لاحتواء صعودها. وهكذا بعد اعتلائه سدة الحكم استبدل الرئيس بايدن فك الارتباط بمصطلح «تقليل المخاطر» وهو ليس أكثر من تعبير لطيف عن فك الارتباط الانتقائي والتدريجي. ولم تجر إدارة بايدن أية تعديلات للرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضتها إدارة ترامب على الواردات من الصين.

تقليل المخاطر لديه جانبان. الجانب الأول يتمثل في مقاربة «الساحة الصغيرة والسياج العالي» في قطاع التقنية الرفيعة والتي تحاول عزل الصين عن الغرب بزعامة الولايات المتحدة من أجل المحافظة على القيادة التقنية لأمريكا. (تدعو هذه المقاربة إلى التحديد الدقيق للتقنيات المفتاحية للمصلحة القومية الأمريكية مثل تقنية الجيل الخامس وأشباه الموصلات واتخاذ اللازم لحمايتها من هيمنة الصين- المترجم)

الجانب الثاني يتعلق بالتبادلات الاقتصادية والتجارة إذ تحاول الولايات المتحدة نقل بعض سلاسل الصناعة الحساسة من الصين إلى بلدان قريبة وبلدان صديقة لتقليل اعتمادها على الصين. والهدف النهائي هو بناء سلاسل صناعية تستبعد الصين وإيجاد نظامين للسوق مترابطين ولكنهما غالبا متوازيان.

ثانيا، في الجغرافيا السياسية تكرر الولايات المتحدة ما سبق أن فعلته للاتحاد السوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة.

على الرغم من مزاعم الرئيس بايدن ومسؤولين في إدارته بأن الولايات المتحدة لن تخوض حربا باردة مع الصين إلا أن تحركات أمريكية عديدة تبدو شبيهة بما قامت به ضد الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة.

مثلا تعزز الولايات المتحدة نظام تحالفاتها الثنائية ودور الحوار الأمني الرباعي الذي يجمع الولايات المتحدة مع اليابان والهند وأستراليا ودور الشراكة الأمنية الثلاثية «اوكوس» بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وتروِّج لتوسُّع الناتو شرقا.

كل هذه التحركات من جانب الولايات المتحدة تستهدف الضغط على الصين بتعظيم دور نظام تحالفاتها وشراكاتها.

أيضا تعزز الولايات المتحدة وجودها وانتشارها على طول «سلسلة الجزيرة الأولى» خصوصا حول بحر الصين الشرقي ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي. وهي تهدف إلى إيجاد ميدان تنافس استراتيجي مع الصين من خلال قضية تايوان. هذا هو المقصد النهائي لحشد الولايات المتحدة المزيد والمزيد من الموارد الاستراتيجية في منطقة تايوان في السنوات الأخيرة.

فيما يتعلق ببسط النفوذ على القوى المحايدة قامت الولايات المتحدة بالاشتراك مع حلفائها بتحركات عديدة لتشويه وتخريب تعاون «الحزام والطريق.» ومؤخرا ظلت تتودَّد إلى الاتحاد الأوروبي والهند في محاولة لإقصاء الصين من جنوب العالم. كل هذه التحركات الأمريكية تهدف إلى التنافس مع الصين من أجل التأثير بقدر أكبر على مواقف القوى المحايدة.

ثالثا، تشرع الولايات المتحدة في إحياء «نظام عسكري» من النمط الأمريكي في الداخل. قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية لم يكن لدى الولايات المتحدة نظام أمن قومي قوي للتعامل مع منافسة بلد كبير بسبب تنوع المصالح الاجتماعية وقوة الدولة اللامركزية ولكن المتوازنة إلى جانب ميزة الموقع الجغرافي. بعد نهاية الحرب أجازت الولايات المتحدة قانون الأمن القومي لعام 1947 لكي يفرض إعادة تنظيم كبرى لنظام الأمن القومي نظرا لتحولها إلى القوة العظمى في العالم وصراعها أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.

أوجد القانون عدة مؤسسات منها وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية. كما عزز اشتراك الحزبين الجمهوري والديموقراطي في موقفهما ضد الشيوعية التنسيقَ بين الحكومة والكونجرس والحكومة والمجتمع. بذلك شكلت الولايات المتحدة سلسلة مصالح للأمن القومي وأوجدت التحالف العسكري- الصناعي.

محليا، تسمي الولايات المتحدة مثل هذا النظام «دولة أمن قومي.» وهو عمليا «نظام عسكري» على النمط الأمريكي. أدى هذا النظام دورا حاسما في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكنه اضمحل في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. تم تنشيط هذا النظام جزئيا بعد هجمات الحادي من سبتمبر الإرهابية في عام 2001 خصوصا بإجازة قانون محاربة الإرهاب (باتريوت). وبعد اندلاع الأزمة المالية اقترح بعض الاستراتيجيين في الولايات المتحدة تبني مقاربة «كلِّ الحكومة» بالتنويه ولفت النظر إلى تجارب تعبئة الموارد الحكومية والاجتماعية أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي واستحضار وتلخيص تجارب الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب. تهدف هذه المقاربة إلى حشد كل الموارد وتوحيد كل القوى للمنافسة مع الصين على كل الجبهات.

رابعا، تبذل الولايات المتحدة ما في وسعها للترويج لما يسمى الدبلوماسية المرتكزة على الأيديولوجيا والقيم. ففي الموضوعات المرتبطة بالأيدلوجيا ظلت الولايات المتحدة تؤكد على سياسة الهوية القومية وتعظِّم من آثار الاختلافات في الأنظمة السياسية وتسوِّق لفكرة أن الغرب لا يمكنه أبدا الاتفاق مع الصين. تهدف الولايات المتحدة بذلك إلى حشد كل الموارد لتشكيل إجماع مضاد للصين في الداخل واجتذاب المزيد من البلدان إلى معسكر يعاديها على الصعيد الدولي.

المجالات الأربعة المذكورة أعلاه هي المكونات الرئيسة للتنافس الاستراتيجي الشامل للولايات المتحدة مع الصين.

في السنوات الأخيرة عانت العلاقات الصينية الأمريكية من مصاعب جمَّة. السبب الأساسي لذلك أن بعض الناس في الولايات المتحدة يتشبثون بعقلية الحرب الباردة ولعبة المجموع الصفري ومهووسون بالنظر إلى الصين باعتبارها المنافس الأهم والتحدي الجيوسياسي الأخطر للولايات المتحدة. هذا التصور المشوه تماما للصين سيقود حتما إلى سياسات وتصرفات ونتائج خاطئة.

ني فنغ مدير معهد الدراسات الأمريكية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية وزميل باحث أول بالمعهد القومي للاستراتيجية الدولية بالأكاديمية.

الترجمة لـ عمان عن صحيفة تشاينا ديلي (الصين اليومية).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاتحاد السوفییتی الولایات المتحدة للولایات المتحدة الحرب الباردة الصین من مع الصین

إقرأ أيضاً:

وجه هجوما مبطنا للصين.. أوستن يربط أمن أميركا بأمن آسيا

ربط وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أمن بلاده بأمن منطقة آسيا والمحيط الهادي، موجها هجوما مبطنا للصين بعد يوم من لقائه النادر بنظيره الصيني دونغ جون -أمس الجمعة- على هامش "منتدى شانغريلا" الدفاعي المنعقد في سنغافورة والذي يختتم أعماله غدا.

وقال أوستن -اليوم السبت- أمام المنتدى الذي بات مقياسا لمستوى العلاقات الأميركية الصينية "لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون آمنة إلا إذا كانت آسيا آمنة، ولهذا السبب حافظت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على وجودها في هذه المنطقة".

وأضاف الوزير الأميركي أنه على الرغم من الصراعات في أوروبا والشرق الأوسط، فإن منطقة المحيطين الهندي والهادي "تبقى مسرح عمليات ذا أولوية لنا".

وكان لقاء دونغ وأوستن أمس الجمعة أول اجتماع معمق بين وزيري دفاع البلدين منذ 18 شهرا، مما أثار الآمال في مواصلة حوار عسكري قد يسهم في منع خروج النزاعات عن السيطرة.

وقال أوستن إن الولايات المتحدة والصين ستستأنفان الاتصالات العسكرية "الأشهر المقبلة". من جهتها، رحبت بكين بـ"استقرار" العلاقات الأمنيّة بين البلدين. وأضاف اليوم "لقد أخبرت الوزير دونغ بأنه إذا اتصل بي بشأن مسألة عاجلة، فسوف أرد على الهاتف. وآمل -بالتأكيد- في أن يفعل الشيء نفسه".

لكن وزير الدفاع الأميركي بدا يهاجم الصين في خطابه اليوم قائلا إن "حقبة جديدة من الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادي بدأت في الظهور، وأن الأمر لا يتعلق بفرض إرادة بلد ما ولا بالترهيب أو الإكراه".

وأضاف أوستن "هذا التقارب الجديد يتعلق بالاتحاد، وليس بالانقسام. الأمر يتعلق بالخيار الحر للدول ذات السيادة".

وشدد الوزير الأميركي على أن التزام الولايات المتحدة الدفاع عن الفلبين بموجب معاهدة الدفاع المشترك لا يزال "ثابتا"، في وقت أصبحت فيه الاشتباكات بين السفن الصينية والفلبينية في بحر جنوب الصين أكثر تواترا، مما يثير مخاوف من اندلاع نزاع أوسع نطاقا.

ويعقد "منتدى شانغريلا" الذي يحضره كثير من مسؤولي الدفاع من مختلف أنحاء العالم، بعد أسبوع على مناورات عسكريّة كبيرة نفذتها الصين، وفرضت خلالها سفن حربية وطائرات مقاتلة صينية طوقا حول تايوان التي تطالب بكين بالسيادة عليها.

وتسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفاتها وشراكاتها في منطقة آسيا والمحيط الهادي، خصوصا مع الفلبين، بينما تعمل على مواجهة نفوذ الصين وقوّتها العسكريّة المتنامية.

كما تكثف واشنطن التدريبات العسكرية المشتركة وتنشر بانتظام سفنا حربيّة وطائرات مقاتلة في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، مما يثير غضب القادة الصينيّين.

وباتت الفلبين المرتبطة بالولايات المتحدة، بموجب معاهدة دفاع مشترك، في صلب الجهود التي تبذلها واشنطن في المنطقة. وسيكون الدعم المُقدّم من الفلبين، البلد المطل على بحر جنوب الصين والقريب من تايوان، حاسما بالنسبة إلى الولايات المتحدة في حال حدوث نزاع.

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع الصيني: بكين مستعدة لوقف استقلال تايوان “بالقوة”
  • خبير اقتصادي أميركي: سياسة بايدن التجارية اتجاه الصين خطأ فادح
  • التنافر الخطير الذي يعيب السياسة التجارية الأمريكية
  • الصين: الولايات المتحدة تنتهك التزاماتها بدعمها القوى الانفصالية في تايوان
  • وجه هجوما مبطنا للصين.. أوستن يربط أمن أميركا بأمن آسيا
  • أوستن: “لا يمكن لأميركا أن تكون آمنة إلا إذا كانت آسيا آمنة”
  • قيس سعيد يلتقي الرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين
  • أسباب استقالة مسئولين أمريكيين من إدارة جو بايدن (فيديو)
  • القاضي البولندي اللاجئ في بيلاروس: بولندا تعهدت للولايات المتحدة بالمشاركة في الحرب ضد روسيا
  • الحرب الباردة للتكنولوجيا الخضراء: الصين ضد أمريكا بسباق السيارات الكهربائية