د. محمّد محمّد خطّابي منذ سَنواتٍ بعيدةٍ خلتْ، عندما كنتُ ما زلتُ أتابع دراستي العليا فى  في مدينة  المُعزّ لدين الله الفاطمي التي تعلو سماءها المحروسة ما ينيف عن الألف مئذنة مدينة القاهرة  السّاحرة ،عدتُ ذات مرّةٍ  راكباً المترو الرابط إبّانئذٍ  بين كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقرب من ميدان العبّاسية إلى منطقة روكسي وراء نادي هيليوليدو بمصر الجديدة، وفى شارع “المعالي” حيث كنت أقطن، كان هناك باعة متجوّلون،ومستقرّون كُثُر تغصّ عرباتهم، ودكاكينهم بأطنان ممّا لذّ وطاب من مختلف أصناف الفواكه، وأنواع الخضروات ،كانت عربة أحدهم ملأى بالمُوز البلدى الصّغير الحجم الذي يطلق عليه (موز الراسكادلي) وهو ذو لون أصفر ورْس لامع تعلوه نقط دقيقة داكنة سوداء، المعروف بحلاوة طعمه اللذيذ ، الموجود بكثرة كذلك فى البلدان الأسيويّة وفى بلدان أمريكا اللاتينية إذ رأيته، واشتريته،وأكلته في المكسيك ، والبيرو، وبنما،والإكوادور، وفنزويلا، وفى كولومبيا على وجه الخصوص، خلال إقامتي وعملي بها ممثّلاً لبلدي لمدّة خمس سنوات ونيّف ، كان هذا الصنف من الموز يُسمّى عندهم (البُوكاديّيو)…المُهمّ، بعد أن نزلتُ من الميترو بشقّ الأنفس إذ كان غاصاً ، مزدحماً، مكتظاً بالمسافينإتّجهت إلى أحدى العربات التي تعوّدتُ التبضّع منها واشتريتُ اثنين كيلو غرام من هذا المُوز، كانت الأسعار على أيامنا زهيدة جدّاً فى القاهرة .

. وضع البائع الموز ولفّه بعناية فائقة فى “جُورنال” عتيق ..وعندما وصلتُ المنزل بعد صعود سلاليم أو أدراج خمسة أدوار مهرولاً على عَجَل بدون مِصعد.. عندئذٍ تذكّرت سلاليم أو أدراج منزل الكاتب الصعيدي العصاميّ الكبيرعبّاس محمود العقاد رحمه الله بمصر الجديدة الذي لم يكن به مصعد أيضاً،والذي تحدّث عنه بإفاضة بأسلوبه الآسر الرشيق الكاتب المصري الصّديق الراحل  أنيس منصور فى أحديثه الشهيرة عن العقّاد ،والذي كنت قد أجريتُ معه آخر إستجواب أدبي قبيل وفاته رحمه الله عن رغبة الأدباء الشباب في النشر المُبكّر والأبواب الحديدية ،فأخبرنا أنّ  العقّاد  قال ذات مرّةٍ عن سلاليم بيته عندما كان فى مُقتبل العُمر ???? كنتُ أصعدها ركضاً ثلاثاّ.. ثلاثاً ..وبياض شعري يتوارى فى سواده .. والآن ( بعد أن بلغ من السنّ عتيّا) أصعدها  بتؤدة واحدةً .. واحدةً.. وسواد شعري يتوارى فى بياضه.. ! . المهمّ عندما وصلتُ المنزل صاعداً إليه على حال صعود العقاد لسلاليم منزله فى شبابه،وضعتُ اللفّة على طاولةٍ خشبيّة كانت تتوسّط باحة المَسكن ، (كنّا نستعملها للأكل، والمطالعة، والمذاكرة ،وللمكوىَ “المصلوح” كما يُقال فى العامية المغربية أو “بلانشا”  كما يُقال فى شمال المغرب) وكانت لنا فى هذه الطاولة كذلك مآرب أخرى كلعب الورق بالطريقتين المصرية العربية ” البصرة” والمغربية الإسبانية  “الرّوندة” )..! . عندما هممتُ على فتح لفّة المُوز والتهام موزتين أوثلاث مُوزات… وبعد أن فتحتُ الجريدة القديمة على مصراعيْها وباعدتُ بين صفحات أوراقها التي كانت تميل للصّفرة، تراءت لي فيها فى صدفةٍ غريبة لم تكن مُنتظرَة، ولم تخطر على بالي أبداً صورة عبّاس محمود العقاد بالبريه المعهود الذي اعتاد على وضعه على رأسه ،وإلى جانب الصورة تبدّى لي مقال حامي الوطيس للأديب الألمعيّ مصطفى صادق الرّافعي مع صورته الشّهيرة وهو يرتدي طربوشه الوطني الأحمر المأثور،والمشهور، كان الرّافعي ينتقد فى هذا المقال ديوانَ العقاد فى عمود تحت عنوان (على السفّود) حيث صدر له فيما بعد كتاب مشهور تحت نفس هذا العنوان …فقلتُ مع نفسي عندئذٍ آآآآهٍ يا صاحبَ “سارة”، أيّها المثقف الصّنديد  الكبير الذي كانت ترتعد وترتعش منك أقلام معاصريك أصبحتَ على أيامنا تُباع،وتُشترىَ،وتُلفّ صُورُك ومقالات لك وعنك فى اتنين كيلو مُوز.. يكيل لك فيها صاحب ” من وحي القلم” أقسى الضربات، وأعنف  اللكمات ،وهو يشوي حروف ديوانك فى ( سفّوده) على نارٍ هادئة حامية  بنقدٍ لاذعٍ ،قاسٍ ،فظيع  !!! فى هذه اللحظة عدلتُ عن فكرة أكل المُوز ، وانهمكتُ دون أن أدري فى الاستمتاع بقراءة هذه ” النقائض” الجديدة فى أدبنا العربي الحديث المُمثلة فى مقالات الرّافعي عن هذا الصّعيدي العنيد، والكاتب العصامي ّ الجسُور صاحب “العبقريّات”!. والعكس ،.وزاد تأملي، وشطّ خيالي، وحلّق بي فكري بعيداً ولسانُ حالي يقول: عجباً للأيّام كيف تمضي ، وحمداً لله على هذه الذاكرة الوَهِنة التي ما زالت تقاوم تحاتّ الزّمن وانسياب، وانصرام، ومرور الأعوام مرور البرق الخاطف ،والتي ما فتئت تبذل قصاراها بالكاد فى إستحضار ، واستذكار،واستظهار، واسترجاع ذكريات حلوة خلت فى حلاوة ذلك الموز البلدي المصري إيّاه..! .  ذكريات ومعايشات أمست بعيدةً عنّا في الزمان والمكان لابدّ ولاجَرَم َ ولا مناص أنّها  أصبحت تتراى لنا اليوم وتتراءى كذلك للرّائي عبر الزمن السّرمدي الأثيري النائي البعيد كما كانت تتراءى للشاعرالعربي  الشاب المنكود الطالع طرفة بن العبد آثار جدران أطلال خليلته خولة ببرقة ثمهدِ .. تلوح كباقي الوشم فى ظاهر اليدِ..!!  إنها أيام انقضت، وانصرمت وذهبت لحال سبيلها بأهلها حميدةً، وئيدة،عنيدة ،وهي تنتقص تنازلاً ببطء ..رويداً.. رويداً بلا هوادة من أعمارنا القصيرة لتزيد أبداننا إنهاكاً وتعباً، ونفوسَنا كدراً وضنكاً،وعقولنا كللاً وعياءً، وقلوبَنا أشجاناً وأحزانا.. فى عتمة  داليز زمننا هذا الرّديئ، و فى متاهات عصرنا هذا الكئيب.  قال الشاعر الذائع الصّيت أحمد أبو الطيّب المتنبّي  الذي ملأ الدنيا وشغل الناس:  صَـحـِبَ الـناس قبلنا ذا الزّمانا *** وعـنـاهُـم مـن شأنه ما عنانَا . وإذا لـم يـكـن مـن الموت بدٌّ *** فـمـن الـعـجز أن تموت جبانَا. *كاتب وباحث ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم -بوغوطا- كولومبيا.

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

مع الهندى كرت كانت في الدامر

كرت(بكسر الكاف) كانت قولابداس دوشي هندى/ هندوسي من أعمدة وأعلام مدينة الدامر ذهبت إليه في دكانه العتيق -تاج محل – بالسوق القديم أبحث عن نظارة قراءة فكانت هذه الموانسة
——-
(١)
اسكن الدامر منذ عقود واشتريت فيها بيت وبعد هذا العمر لن اذهب الى اي مكان فالجيران هنا أصبحوا لنا أهل
(٢)
اعمل في هذا الدكان منذ سنين طويلة -نظر للسقف -المروحة هذه مدورة منذ أكثر من أربعين سنة وانا ماكل وشارب منه وفي ثقافتنا ما تغير العتبة البخيتة -!
(٣)
نعم اذهب للهند زيارات في المناسبات ونحن من قجرات واغلب هنود السودان منها وجاءوا في الأصل تجار وصاغة ولهم تاريخ طويل في سواكن تشهد له اقفال (طبل)الدكاكين القديمة الضخمة
(٤)
كثيرة هي المشتركات بين الهند والسودان في الثقافة والعادات مثل الزي -العراقي والسروال خاصة عند الرعاة والثوب الأبيض عند المرأة الكبيرة وتفاصيل المطبخ واستخدامات الزينة مثل الحنة والمحلب والصندل
(٥)
بالنسبة للهنود المهاجرين مافي مثل السودان والسودانيين الناس قلوبها بيضاء وكريمة
وانا مثلا لم اذهب المحكمة إلا مرة واحدة شاهد وكل من رآني فيها اول مره استغرب!
(٦)
نعم عندى صداقات كبيرة في الدامر واغلبهم للأسف رحلوا رجال مثل عبدالله طالب الذي كان عمدة حقيقي وعمنا النجار الذي اشتهر بشنبه الكبير وفاروق النجار وعمر ابراهيم نصار وبابكر عوض درملي وأحمد عبدالله حسن ومجذوب وعزالدين برسي وعلى المطبعجي وأولاده وعوض الكريم خالد والشيخ الاحمدى
(٧)
انا هندوسي ولكن الله واحد وعندي مثل كل هنود وأهل الدامر عقيدة في الشيخ المجذوب واذكر أن رجل صالح في الهند قال لي عندكم رجل صالح في بلدكم بالسودان- يقصد المجذوب -عليكم بزيارة ضريحه هو والشيخ قمر الدين وكانت زوجتى قبل ذلك لا تزور الشيخ المجذوب ولكنها أصبحت مواظبة على زيارته وانا احتفظ ببركة من تراب الشيخ المجذوب في دولابي
(٨)
هنود الدامر الذين يأتون من امريكا وكندا وأوروبا وغيرها يحرصون على زيارة الشيخ المجذوب وله معنا كرامات كثيرة
(٩)
نعم نحن هندوس وعندنا بيت لله في ام درمان وفي غيره نمارس العبادة في بيوتنا
(١٠)
ولدى ينيش أسلم وتزوج مسلمة في الدامر وقلت له خليك معانا في البيت ناكل سواء وكل واحد يعبد لوحده والحمدلله حافظت عليه وعلى الأسرة
(١١)
استأذنت العم كرت للحاق بمباراة السهم -الدامر وهلال كريمة وسألته في الختام عن فريقه بالدامر فقال لي أنا بشجع السهم موت منذ أن كنت صبي -قالها وقد قام من مجلسه وهو يتخير أفضل عطر وبخور هندى ويهديه لي وقد بلغت منى المشاعر الحنجرة وانا أطالع جغرافيا وتاريخ بلدى في وجه هذا الرجل الهندى الأصل الهندوسي الديانة المجذوبي الطريقة والسهمابي موت!!
بكري المدنى

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم السبت 21-6-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا
  • وزير التموين يعقد اجتماعًا مع رئيس الشعبة العامة للمخابز لمتابعة انتظام عمل منظومة الخبز البلدي المدعم
  • رئيس الوزراء يتابع موقف توفير الأدوية والمُستلزمات الطبية
  • مع الهندى كرت كانت في الدامر
  • أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الخميس 19-6-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا
  • انهيار منزل الفنان نور الشريف في السيدة زينب.. وابنته تعلق! (صور)
  • اللغة العربية في المخاطبات الرسمية.. قرار في الاتجاه الصحيح
  • العلامة فضل الله استقبل عضو بلدية بيروت عماد فقيه : لإبعاد العمل البلدي عن التجاذبات السياسية
  • أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الاربعاء 18-6-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا
  • منزل نور الشريف بقى كوم تراب.. حصيلة عدد ضحايا عقار السيدة زينب المنهار