لم يعد دمج الذكاء الاصطناعي في النسيج الاجتماعي والاقتصادي العالمي مجرد احتمال بعيد، بل أصبح حقيقة متسارعة. يمثل عام 2024 لحظة فاصلة، حيث تعيد القوة التحويلية للذكاء الاصطناعي تشكيل الصناعات والاقتصادات وطبيعة العمل نفسه. إن هذه الثورة التكنولوجية لا تعمل على تعزيز القدرات البشرية فحسب؛ بل تعمل على إعادة تعريف كيفية عيشنا وعملنا، مما يخلق فرصا غير مسبوقة وتحديات معقدة تتطلب اهتمامنا.



صعود الأتمتة الذكية

إن التأثير الأكثر وضوحا ومباشرة للذكاء الاصطناعي هو تسريع الأتمتة، وتشير أحدث الأبحاث التي أجرتها شركة ماكينزي آند كومباني إلى أن ما يقرب من نصف جميع أنشطة العمل يمكن أتمتتها باستخدام التقنيات الحالية. ولا يقتصر الأمر على الوظائف اليدوية؛ فالمهن ذات الياقات البيضاء مثل القانون والطب والتمويل تشهد أيضا موجة من التغييرات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. وأصبحت الخوارزميات الآن قادرة على صياغة المستندات القانونية وتشخيص الأمراض وإدارة المحافظ المالية، وهي مهام كان يعتقد في السابق أنها مجال حصري للمهنيين المدربين تدريبا عاليا.

ومع ذلك، فإن سرد "الروبوتات التي تسرق الوظائف" مفرط في التبسيط، وفي حين أن بعض الأدوار معرضة للخطر بلا شك، فإن الذكاء الاصطناعي يخلق في الوقت نفسه مسارات مهنية جديدة في مجالات مثل علم البيانات وهندسة التعلم الآلي وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. ويتوقع تقرير مستقبل الوظائف لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن الذكاء الاصطناعي سيخلق 97 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2025، وهو ما يتجاوز 85 مليون وظيفة من المتوقع أن يحل محلها. بالإضافة إلى ذلك، يعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز الأدوار الحالية، مما يسمح للعمال بالتركيز على المهام ذات المستوى الأعلى والتي تتطلب مهارات بشرية فريدة، مثل الإبداع والتفكير النقدي والذكاء العاطفي.

قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية البشرية هي موضوع نقاش حاد، فبينما تشير بعض الدراسات إلى مكاسب كبيرة في الإنتاج والكفاءة، يشير البعض الآخر إلى "مفارقة الإنتاجية"، حيث لم تتحقق الفوائد الكاملة للذكاء الاصطناعي بعد. وقد تكون هذه المفارقة بسبب الوقت الذي تستغرقه الشركات للتكيف مع التقنيات الجديدة، والحاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتدريب
نموذج اقتصادي جديد

إن تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي لا يقل عن كونه تحولا، ويقدر تقرير حديث لشركة برايس ووترهاوس كوبرز أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، أي أكثر من الناتج الحالي للصين والهند مجتمعتين. ولا يتعلق الأمر فقط بزيادة الكفاءة؛ إنه يتعلق بفتح مصادر جديدة للقيمة وإعادة تشكيل صناعات بأكملها.

"اقتصاد الذكاء الاصطناعي" بدأ يتشكل بالفعل، وتقوم شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل ومايكروسوفت وأمازون بضخ المليارات في أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويره، في حين تعمل الشركات الناشئة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي على تعطيل الأسواق القائمة بمنتجات وخدمات مبتكرة. وقد أدى هذا إلى إشعال سباق عالمي نحو التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تتنافس الدول على القيادة في هذه التكنولوجيا التحويلية. ومن المتوقع أن يخلق صعود اقتصاد الذكاء الاصطناعي أسواقا جديدة، ويدفع الابتكار ويؤدي إلى نمو اقتصادي غير مسبوق، لكنه يثير أيضا مخاوف بشأن عدم المساواة وتركيز القوة في أيدي عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا.

إعادة النظر في مفارقة الإنتاجية

إن قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية البشرية هي موضوع نقاش حاد، فبينما تشير بعض الدراسات إلى مكاسب كبيرة في الإنتاج والكفاءة، يشير البعض الآخر إلى "مفارقة الإنتاجية"، حيث لم تتحقق الفوائد الكاملة للذكاء الاصطناعي بعد. وقد تكون هذه المفارقة بسبب الوقت الذي تستغرقه الشركات للتكيف مع التقنيات الجديدة، والحاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتدريب والتحدي المتمثل في دمج الذكاء الاصطناعي في سير العمل الحالي.

ومع ذلك، هناك مؤشرات واعدة على أن هذه المفارقة بدأت في الحل، فالشركات التي نفذت الذكاء الاصطناعي بنجاح تبلغ عن مكاسب كبيرة في الإنتاجية، وتحسين عملية صنع القرار، وتعزيز تجارب العملاء. على سبيل المثال، في قطاع الرعاية الصحية، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل الصور الطبية للكشف عن العلامات المبكرة لأمراض مثل السرطان بدقة أكبر من أخصائيي الأشعة البشريين، مما يؤدي إلى تشخيصات أسرع وتحسين نتائج المرضى. وفي القطاع المالي، يقدم المستشارون الروبوتيون المدعومون بالذكاء الاصطناعي المشورة الاستثمارية الشخصية، مقابل جزء بسيط من تكلفة المستشارين الماليين التقليديين، مما يجعل الوصول إلى خدمات إدارة الثروات ديمقراطيا. وفي الوقت نفسه، في قطاع التجزئة، تعمل محركات التوصية المدعومة بالذكاء الاصطناعي على تخصيص تجارب التسوق وتعزيز المبيعات، في حين تعمل أنظمة إدارة المخزون المدعومة بالذكاء الاصطناعي على تحسين مستويات المخزون وتقليل النفايات.

الطريق إلى مستقبل مدعوم بالذكاء الاصطناعي
مستقبل العمل لا يتعلق بالبشر في مواجهة الآلات؛ بل يتعلق بتعاون البشر والآلات لتحقيق مستويات غير مسبوقة من الابتكار والازدهار، وإن احتضان الذكاء الاصطناعي مع فهم واضح لإمكاناته ومخاطره هو مفتاح النجاح في هذا العصر الجديد
لا تزال ثورة الذكاء الاصطناعي في مراحلها الأولى، لكن مسارها واضح، والعمل كما نعرفه يعاد تعريفه، والمناظر الطبيعية الاقتصادية تتغير، وطبيعة الإنتاجية البشرية ذاتها تتطور. وسيكون احتضان هذا التغيير مع التركيز على التعليم وتحسين المهارات والاعتبارات الأخلاقية أمرا أساسيا للتعامل مع هذا العصر الجديد.

ويتعين على الحكومات والمؤسسات التعليمية الاستثمار في برامج التدريب لتزويد العمال بالمهارات اللازمة للنجاح في الاقتصاد المدعوم بالذكاء الاصطناعي، ويتعين على الشركات اعتماد ممارسات الذكاء الاصطناعي المسؤولة، وإعطاء الأولوية للشفافية والإنصاف والمساءلة، ويجب على الأفراد تبني التعلم مدى الحياة للتكيف مع المتطلبات المتغيرة لمكان العمل.

إن مستقبل العمل لا يتعلق بالبشر في مواجهة الآلات؛ بل يتعلق بتعاون البشر والآلات لتحقيق مستويات غير مسبوقة من الابتكار والازدهار، وإن احتضان الذكاء الاصطناعي مع فهم واضح لإمكاناته ومخاطره هو مفتاح النجاح في هذا العصر الجديد. والطريق إلى مستقبل مدعوم بالذكاء الاصطناعي مليء بالتحديات والفرص، ويتعين علينا أن نتعامل معه بحكمة، ونضمن أن يخدم الذكاء الاصطناعي الإنسانية ويخلق عالما أكثر إنصافا وازدهارا للجميع.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الذكاء الاصطناعي العمل الوظائف التكنولوجيا العمل تكنولوجيا وظائف الانتاج الذكاء الاصطناعي سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الاصطناعی على بالذکاء الاصطناعی للذکاء الاصطناعی على تعزیز کبیرة فی

إقرأ أيضاً:

عهد عالمي جديد.. اجتماع الرياض يضع خارطة طريق للذكاء الاصطناعي

أعلن قادة البحث والابتكار العالميون المشاركون في الاجتماع السنوي الثالث عشر لمجلس البحوث العالمي، عن المبادئ المبتكرة لتوظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة البحث العلمي، وتعزيز العمل الإبداعي المشترك؛ بهدف مواجهة التحديات على المستويين الوطني والعالمي.
وأسس البيان الختامي للمجلس في ختام اجتماعهم، الذي استضافته العاصمة الرياض في الفترة من 18 - 22 مايو الجاري، عهدًا عالميًا جديدًا يقوم على الاستخدام الآمن والمسؤول للذكاء الاصطناعي، بما يُسهم في إعادة تشكيل مستقبل البحث العلمي والإنتاج المعرفي، كما أرسى ركائز تعزيز التعاون والتكامل الدولي المشترك لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

بمشاركة 200 ممثل من 66 دولة حول العالم.. #الرياض تستضيف أعمال الاجتماع السنوي الثالث عشر لـ #مجلس_البحوث_العالمي
أخبار متعلقة العالم في الرياض.. قادة الابتكار يصيغون مبادئ عصر الذكاء الاصطناعيولي العهد يعلن إطلاق شركة "هيوماين" كرائد عالمي في مجال الذكاء الاصطناعيالأول من نوعه.. إطلاق أكبر مشروع للذكاء الاصطناعي بالمسجد النبويللمزيد | https://t.co/Ze2KLTFhQH#اليوم@KACST@SaudiRDI pic.twitter.com/kbQehLHQqp— صحيفة اليوم (@alyaum) May 20, 2025أنظمة الذكاء الاصطناعيوأكد البيان، أهمية دعم الشفافية كونها ركيزة أساسية لتطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي في إدارة البحث العلمي، والكشف عن آليات عمل هذه الأنظمة، واستخداماتها، وطريقة تخزين بيانات المستخدمين ومعالجتها، مطالبًا بأن تكون جميع القرارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي خاضعة للمراقبة البشرية والتفسير المنطقي.
ودعا البيان إلى تعزيز التعاون بين الدول والمؤسسات البحثية لتبادل الخبرات ودعم المناطق ذات القدرات المحدودة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتصميم أنظمة تراعي التنوع، بما يضمن اتخاذ قرارات عادلة وشاملة تخدم الباحثين والمجتمعات العلمية.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } مجلس البحوث العالمي يضع خارطة طريق للذكاء الاصطناعي - واسدعم الأبحاثوأوصى أعضاء مجلس البحوث العالمي بضرورة تعزيز الوصول العادل إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة في المناطق ذات الموارد المحدودة، مؤكدين أهمية دعم الأبحاث لتطوير نماذج تستهلك موارد أقل؛ لسد الفجوة الرقمية وتحقيق التنمية المستدامة.
ودعا المشاركون إلى تبنّي وكالات تمويل البحوث الترويج لنماذج الذكاء الاصطناعي المجانية ومفتوحة المصدر، وإتاحتها لوكالات تمويل البحوث الأخرى، ودعم الأبحاث التي تركز على بناء نماذج ذكاء اصطناعي تتطلب قوة حسابية أقل، مع المحافظة على ثقة الجمهور من خلال النشر والتوضيح عن كيفية تدريب تلك الأنظمة، وطرق تخزين ومعالجة بيانات المستخدمين والمقترحات البحثية.معايير الخصوصية والأمانوحث البيان على نشر بيانات التدريب لأنظمة الذكاء الاصطناعي مع الالتزام بمعايير الخصوصية والأمان، وإجراء التقييم المستمر للأنظمة المستخدمة في إدارة البحوث ونشر نتائجها لزيادة الوعي بحدودها، كما دعا إلى إنشاء فريق عمل متخصص بالذكاء الاصطناعي يتمتع بمستوى عالٍ من النضج في تبنّي هذه التقنيات.
وفي مجال تعزيز التعاون الإبداعي المشترك، أوصى البيان بأهمية تحقيق مبادئ الشمولية والعدالة بما يضمن الوصول المتكافئ للموارد والفرص لكافة المجتمعات، والمشاركة الفعّالة لأصحاب المصلحة في جميع مراحل تنفيذ العمل البحثي المشترك من التخطيط، والتنفيذ، وصولًا إلى مرحلة التقييم، وتعزيز الثقافة العلمية وبناء القدرات لدى المجتمع لضمان المشاركة الهادفة للجميع، ودعم المشاريع التي تجمع بين التخصصات المختلفة وتدمج بين المعرفة العلمية والتقنية والاجتماعية، وإشراك العامة في جمع البيانات وتحليلها، ما يعزز الشفافية والمصداقية المجتمعية للبحوث.تعزيز الشفافيةكما أوصى البيان بالاستفادة من التقنيات الناشئة كالذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، وإنترنت الأشياء لتعزيز الشفافية وتحسين إدارة المشاريع المشتركة، ومراعاة تمويل تلك المشاريع للأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية، ووضع مؤشرات لقياس الأثر المستدام لها، إضافة إلى أهمية وضع هياكل تنظيمية واضحة تضمن الشفافية.
وتضمّن البيان الختامي دعوة مؤسسات تمويل البحوث إلى تبنّي مجموعة من الإستراتيجيات التي تضمن تنفيذ مبادئ العمل الإبداعي المشترك، وتشمل إنشاء بيئة رقمية متعددة اللغات تدعم التعاون الدولي، والتمويل المرن، وتطوير أطر تشريعية تدعم الابتكار التشاركي، وتعزيز التعاون العالمي عبر برامج تمويل مشتركة وتبادل معرفي، وتبنّي أدوات كمية ونوعية لقياس فعالية المبادرات والمشاريع المشتركة واستدامتها.
وحظي الاجتماع السنوي الثالث عشر لمجلس البحوث العالمي، الذي استضافته المملكة بصفته حدثًا عالميًا الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بمشاركة واسعة لما يزيد عن 200 مشارك من 66 دولة حول العالم، بما فيهم 54 رئيسًا لمنظمات بحثية، إلى جانب قادة وخبراء من مؤسسات تمويل البحث العلمي والابتكار.

مقالات مشابهة

  • افتتاح مركز بحثي للذكاء الاصطناعي في «وادي السيليكون»
  • انتحار صامت.. “هآرتس” تحذر من تحول جذري في موقف ترامب من إسرائيل
  • العلمي يدعو إلى العمل في اتجاه ألا "يعمق الذكاء الاصطناعي الفوارق بين البلدان وداخل البلد الواحد"
  • أنثروبيك تطلق كلود 4 أقوى نماذجها للذكاء الاصطناعي
  • عهد عالمي جديد.. اجتماع الرياض يضع خارطة طريق للذكاء الاصطناعي
  • كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟
  • ميزات متقدمة بالذكاء الاصطناعي.. «HONOR 400 Series» تقدم تجربة أداء رائدة
  • الذكاء الاصطناعي يدخل على خط كأس العالم 2026
  • «العالمية القابضة» تطلق منصة عالمية للذكاء الاصطناعي طُوّرت في الإمارات
  • جوجل تكشف عن أداة “Flow” لإنشاء الفيديو بالذكاء الاصطناعي