تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في عطلات العيد والصيف، ووسط عالم يتسم بالسرعة المفرطة والشاشات المتعددة، غالبًا ما يعود متمرسي القراءة إلى قواعدهم الأولى، حيث الخروج إلى عالم الخيال، سواء باستكشاف عوالم جديدة في أعمال لم تُقرأ من قبل، أو بالعودة إلى عالم قديم ساحر يشعر القارئ بأنه جزء منه ويواصل الحنين بالعودة إليه تارة تلو الأخرى.

من بين تلك العوالم المتفردة، تظل الحارة المصرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هي الأكثر شهرة في الأدب الإنساني، بعد أن رسم ملامحها وخصوصيتها الأديب الأستاذ نجيب محفوظ، والذي تتبع خياله الحكايات القديمة فصنع حارة ذات رونق خاص بتميزها وعالمها المليء بالصراعات بين اليأس والكفاح.

وفي صدارة ذلك العالم، يبقى خالدًا مشهد الفتوة الجالس وحوله أتباعه، وكل منهم ممسكا بنبوته، استعدادًا لمعركة جديدة مع فتوة حارة مجاورة. كان المجد الذي يطمح إليه الفتوة في كل مرة -بخلاف الإتاوة- هو أن يجلس الحرافيش يحكون أخباره في سهرات الغرز، بينما يقرع الجميع كيزان البوظة ليبرهن كلٌ منهم على رجولته، وغيرها من تفاصيل الحارة السحرية التي ترسخت في ذاكرتنا.

وعندما احتفى الجميع بفتوات محفوظ كرمز للعدالة والخير ومواجهة الطغيان بالصبر والأمل، وجب النظر إلى النقيض. حيث الفتوات الذين عاشوا عقودًا من البلطجة والفساد، وأقاموا سلطتهم على عرش الخوف رافعين النبوت بدلًا من الصولجان. كانت الحارة ترتعد من هؤلاء لمجرد المرور بجوارهم؛ إنهم الذين كان يتجمع الحرافيش حولهم ليهتفوا "اسم الله عليه"، ثم يأتون مع كل وافد يحمل الأمل ليهدموا من رفعوه على رءوسهم قهرًا، ويركلوه بأقدامهم الحافية وهم يصيحون بالعبارة نفسها!

أولهم كان "درويش" شقيق الشيخ "عفرة زيدان" الذي نشأ مع أشهر الفتوات وصاحب أسطورة النجاة "عاشور الناجي"، ومنهم "الفللي" القاتل بلا شرف والذي ذبح فتاة للتخلص من حفيد الناجي الحالم بالفتونة، هناك أيضًا "الشبلي" الخائن، الذي رسم محفوظ ملامحه بجدارة في "الشيطان يعظ". ربما أكثرهم إيلامًا للنفس هو "سماحة القبيح" حفيد الناجي، الذي تخلى عن حلم جده وصار ظالمًا حتى مع أخيه الوحيد، و"حسونة السبع" آخر فتوات ملحمة الحرافيش.

وعندما غذّت "البوابة نيوز" أحد برامج الرسم بالذكاء الاصطناعي، خرجنا بعدة رسوم تخيلها لأكثر فتوات نجيب محفوظ شرًا.

رسم تخيلي لشخصية “درويش زيدان” من “ملحمة الحرافيش” بالذكاء الاصطناعيدرويش.. رمز الشيطان

كما كانت افتتاحية بطولات "الحرافيش" التي صاغ ملحمتها نجيب محفوظ الفتوة العملاق "عاشور الناجي" صاحب الحلم والنبوءة والنجاة، والذي صنعته حكايته أسطورة من العدل حلم بها الحرافيش حتى آخر عهد الفتونة، نشأ في البيت نفسه نقيضه "درويش"، أخو كفيله الشيخ "عفرة زيدان"، الذي صاغه محفوظ لتتجسد فيه جميع المعاني الشيطانية، حتى أن الكثيرين ربطوا إسقاط الاسم بين "درويش" في الحرافيش و"إدريس" في "أولاد حارتنا"، ليُصبح كلاهما مُرادفًا للشيطان نفسه.

"درويش" هو شقيق الشيخ الأعمى الذي استقبل وزوجته "عاشور" وهو لا يزال رضيعًا مُلقى أمام التكية فصار والده بالتبني، ونشأ الأخ الأصغر مُدللًا فاسدًا رغم محاولات أخيه الصالح لتربيته كما نجح مع ربيبه عاشور؛ إلا أن إيثار أخيه وزوجته لليتيم الذي كان عضدهما بدلًا منه، كان دافعًا ليكره درويش عاشور، ويُلقي به في الشارع فور وفاة الشيخ عفرة، بعد أن فشل في إقناعه بمعاونته على السرقة.

زاول درويش عمله الحرام وهو يضع ربيب أخيه نصب عينيه، مارس قطع الطريق وهو يتحاشى عاشور، الذي رآه يتوسع في أعمال الغرزة التي فتحها في الحارة، والتي شملت كذلك شرب البوظة والدعارة، ليُصبح مكان درويش هو بؤرة الفساد بالحارة التي جذبت إليها أبناء عاشور الرجال حتى منعهم عن ارتيادها بالقوة.

وكانت نجاة عاشور الأسطورية من الوباء تتوازى مع دخول درويش السجن لينجو هو الآخر، ويلتقي كلاهما بعد أن أصبح عاشور هو سيد الحارة، وكأي شيطان يجد ثغرة للنفاذ ساوم درويش عاشور بأن يغض الطرف عن استيلائه على ممتلكات أحد الوجهاء في مقابل تركه لأعماله القذرة بالحارة، واستطاع أن يزج بعاشور في السجن، ليتولى الفتونة لفترة قصيرة حتى خروج عاشور.

وكما جاءت شخصية درويش في افتتاحية ملحمة الحرافيش كمثال للشر المطلق، ونموذج للشخصية ذات البعد الواحد، وكرمز آخر لاستمرار الصراع، لم يذكر محفوظ كيفية موت درويش، وإنما جعله يختفي من الحارة فجأة وكأن لم يكن.

رسم تخيلي لشخصية “الشبلي” من مجموعة  “الشيطان يعظ” بالذكاء الاصطناعيالشبلي.. الخائن

ظهر في قصة "الرجل الثانى" في المجموعة القصصية "الشيطان يعظ"، والتي تحكى عن "شطا الحجري"، الشاب الحالم دومًا، والذي يمُنّي نفسه بأن يصبح الرجل الثاني لدى المعلم "الديناري" فتوة الحارة، ولكن يسير في طريقه على غير هدى مسلوب الإرادة، فيعشق "وداد" خطيبة الديناري، ويقرر الهروب بها من حارته التي يحكمها الديناري إلى حارة "العطوف" التي يحكمها فتوة آخر هو "الشبلي" الذي يُناصب الديناري العداء، وكان يعمل خادمًا لديه من قبل، وطرده الأخير من الحارة.

الشبلي عملاق آخر فرض قوته على العطوف عن طريق مجموعة من الحثالة صار زعيمهم، فرضوا سطوتهم على المحال والبشر وجمعوا الإتاوات، فصار طريد الفتوة الديناري هو سيد حارة العطوف الذي لا يذكر من الفتونة سوى تحصيل الإتاوة وإذلال الخلق، ولا يختلف الشبلي عن الديناري وهو ربيبه، كلاهما يتمتع بنفس المقدار من القسوة والظلم، فكان شطا البائس كالمستغيث من الرمضاء بالنار، حيث ظهر له جانب الشبلي الذي لم يضعه في حساباته، فهو مثال الخسيس والنذل الذي لا يؤمن من استجار به، وتعميه رغبته القديمة في الانتقام من معلمه السابق عن مبادئ الفتوات التي خلّدها نجيب محفوظ في رواياته مجتمعه.

ولأن المرأة أعجبته، وبمنطق الفتوة الذي يرى أن الجميع يخضع لسلطته، يقرر الشبلي الانتقام من الديناري في خطيبته السابقة، ويغتصبها بينما يتكالب رجاله على زوجها المسكين يُشبعونه ضربًا وسخرية، ويمنعوه من الوصول إلى معلمهم الذي يغتصب زوجته في سريره، وتعلو ضحكاته وهو يعبر عن استمتاعه بما يفعل وكأنه يرى الديناري هو الذي يتألم وليس خادمه السابق.

لم يعبأ الشبلي بالفتى الذي عاد مُنكسرًا إلى أهله ورجى من معلمه السابق الديناري العفو، وصار اغتصاب زجته أمام ناظريه حكاية أخرى يرويها وهو يشرب البوظة في الغرزة، واستقبل طلب الديناري بتحديد موعد لمعركة يرد بها شرف المرأة باستهانة، وهي المعركة التي لقي فيها حتفه على يد الزوج المكلوم.

رسم تخيلي لشخصية “حسونة السبع” من حكاية “التوت والنبوت” بالذكاء الاصطناعيحسونة السبع.. فتوة بلا شرف

عُرفت حكايته بـ"التوت والنبوت"، ورغم أن مواصفاته الجسمانية كانت أقل من أي فتوة آخر، لكنه في الوقت نفسه كان شديد العصب، ليس من السهل أن يتعصب، وكان يخشى المؤامرات والدسائس، وطيلة الوقت كان يحتمي بأتباعه، واعتاد دومًا أن يأمر فيُطاع، وكان يستغل حتى أفقر الفقراء.

ولم يكن السبع في حالة من التفاهم حتى مع نفسه، فعرفته الحارة بأنه كالعاصفة التي تدمر في طريقها كل شيء، لم يكن يستثني في الظلم أحدا إلا من يدفع له أكثر، وكانت أحكامه تأتي حسب هواه دون أن يستشير أو يأخذ رأيًا إلا ويعلم جيدًا أنه يتفق مع هواه، وأغدق على تابعيه ورجاله الأموال والامتيازات، وعزلهم عن بقية أهل الحارة ومنعهم من الاختلاط بالناس، ولم ينس قط ثورة الحرافيش التي قادها فتح الباب على أخيه ذي الوجه القبيح، فكان أول ما فعل هو أن ابتعد عن الحرافيش مُحصنًا نفسه في أحد الأزقة.

ولم يفت الفتوة السبع أن يقوم بالتنكيل بآل الناجي بين الحين والآخر كعادة الفتوات، حتى لا يبرز له واحد من هذه السلالة التي تحلم بعودة مجدها القديم يومًا، وجاءته الفرصة عندما اتهم موسى الأعور صاحب الكارو فايز الناجي بسرقة حماره والفرار من الحارة، عندها قام بالتنكيل بأخويه ضياء وعاشور، وأمرهما مع أمهما حليمة البركة أن يدفعوا ثمن الحمار إلى الأعور، مع الاحتفاظ بنصيبه، ورغم أن حليمة كانت تؤدي الخدمات في داره بلا مقابل، لكنه انتهز تأخرها ذات يوم وقام بصفعها أمام الحارة.

لم يكن السبع ذا شرف أو كلمه يركن إليها، ولكن جاءت نهايته هو الآخر على يد ثورة الحرافيش التي نظّمها عاشور الأخير، الذي كان يُشبه جده الأول حتى في جسده العملاق، الذي نظّم الحرافيش وجعلهم قوة كبيرة هاجمت عصابة السبع وأجهزت عليهم من الحارة كلها.

رسم تخيلي لشخصية “الفللي” من “ملحمة الحرافيش” بالذكاء الاصطناعيالفللي.. الماكر ذو الألف عين

الفللي هو الفتوة الجديد الذي خلف "زاهي عتريس" الذي انتقل إلى الآخرة، أحاط نفسه بعصابة كبيرة، انضم لها سماحة الناجي- حفيد أسطورة الفتونة عاشور الناجي- وعندها اعتبر الفللي أن انضمام واحدًا من أحفاد عاشور الناجي إلى رجاله طورًا جديدًا وأكبر انتصار له في الحارة كلها؛ ورآه الناس مشهدًا يُزيد من حياة البؤس في الحارة، تزيد من حالة الظلم للحرافيش في الحارة بعد العدل الذي شهدوه على أيدي آل الناجي.

كان الفللي كما وصفه خضر الناجي هو شيطان ماكر، له ألف عين في الحارة، يسيطر عليها بقضبة من حديد ويضمن ولاء أتباعه، وكانت جلسة الغرزة هي ديوان ملكه، حيث كان يتربع على أريكته مُحاطًا برجاله حمودة ودجلة وعنتر وفريد الذين لا يترددون في تنفيذ أوامره، لم يأمن لآل الناجي، إلا أنه كان ينادي على سماحة بلقب سيد الكل، كان يحصي على سماحة الناجي أنفاسه، وكان يرحب به وهو متربع وسط أقوى أعوانه في غرزة "ترباسة" بقوله " أهلًا بالناجي سيد الكل"، وطواه تحت جناحه وأطلق من يحصى عليه الحركات، ولكن كان سماحة يمثل دوره كما ينبغي.

وبينما كان سماحة يُخطط للزواج من مهلبية ابنة صباح كودية الزار، كان الفللي يجعلها الحبل الذي طوق به رقبته، عندما أخبره بأنه يُريدها لنفسه واختاره أن يذهب ليخطبها، وكان الفللي يعلم نوايا سماحة في الاستقلال، وكان من الجبروت بحيث جعل الأم المسكينة تبوح له بسر هروبهما بعيدًا عن قبضته، فاختار توقيت هروب سماحة وحبيبته، وأرسل رجاله لقتل الفتاة ولصق به التهمة، ليحيا سماحة بقية حياته مُطاردًا، بعد أن شهد رجال الفللي أنه القاتل.

ولم يكتف الفللي بما فعله مع سماحة، بل انتهز الفرصة كذلك ليقوم بإذلال آل الناجي كما لم يحدث لهم في الحارة من قبل، ففرض عليهم إتاوة إضافية وأجبرهم على الحياة بانحناء إلى أن غادر الدنيا في هدوء كالفتوة السابق.

رسم تخيلي لشخصية “سماحة ذو الوجه القبيح” من “ملحمة الحرافيش” بالذكاء الاصطناعيسماحة القبيح.. شيطان المجاعة

هو الآخر يحمل اسم واحدًا من أجداده الذين ألقوا بسيرتهم في ملحمة الحرافيش، لم يكن عملاقًا كجده الأول، لكنه كذلك راوده حلم السيادة، تحالف مع آخرين لإسقاط أبيه الفتوة السابق؛ وكانت بدايته مع الطغيان عندما خاض معاركه التي ترك كلٌ منها نُدبة لا تُمحى، حتى صار يُعرف في الحارة بـ"سماحة ذو الوجه القبيح"؛ عندها بدأ جبروته بالاستيلاء على ميراث أخيه فتح الباب ابن زوجة أبيه سنبلة بنت الكلبشي، عقابًا لها على تركه يحتضر وحيدًا.

تردد سماحة بين أريكة الفتونة والغرز وبيوت العاهرات، وتزوج من فتاة تنتمي هي الأخرى إلى سلالة الناجي واضعًا يده على جمالها وثروتها الكبيرة، فأصبح مدير لمحل الغلال التي تملكه، ويُدير منه شئون الفتونة والتجارة التي كان يسرق منها لنفسه ومحظياته يومًا بعد الآخر، وعلمته التجارة حب المال، فانطلق يُسيطر على أموال الناس ويجمع الأشياء الثمينة.

كانت الفرصة الوحيدة التي أعطاها سماحة لأخيه هو أن يعمل في ماله المسلوب، فألحقه مساعدًا لأمين مخزنه مُطمئنًا أن الفتى الهزيل الذي يحلم بسيرة عاشور الناجي لن ينقلب عليه كما فعل مع أبيه؛ وهناك رأى الفتى أخيه وفتوته الذي استغل الفيضان الشحيح وملأ مخازنة بكافة صنوف الغلال بينما يتخبط الحرافيش في الحارة بحثًا عن لقمة كان الفتوة ينعم في الخيرات ويتفقد مخازنه التي امتلأت عن آخرها، وبدا ذلك في زفاف ابنته التي كان الحرافيش يقتلون بعضهم على موائده.

وبينما يفرض سماحة طغيانه على الجوعى، بدأ الحرافيش يتهامسون عن عودة عاشور الناجي فأطلق رجاله بوحشية لقطع ألسنة المتحدثين، حتى انتهى به البحث ليجد أخيه الضئيل هو الذي يسرق الغلال ويلعب دور عاشور حتى تستيقظ الحارة لمواجهة ظلمه، فقبض عليه وعلّقه ليكون عبرة، لكن إنقاذ الفتى جاء على يد الجوعى الذين ثاروا في وجهه إنقاذًا لمن أحيا بداخلهم أسطورة الناجي، وينتهي ذو الوجه القبيح على يد من ظلمهم.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: فتوات الشر نجيب محفوظ عالم نجيب محفوظ الوجه القبیح نجیب محفوظ فی الحارة من الحارة الحارة ا على ید لم یکن بعد أن الذی ی

إقرأ أيضاً:

الأراجيف في زمن الذكاء الاصطناعي

في عصر الثورة الرقمية المتسارعة، يُثار كثير من الجدل حول تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل. فقد أضحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأعمال والاقتصاد موضوعًا ساخنًا وجزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، نظرًا لقدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث تغييرات جذرية في طريقة تفكير الناس وعملهم، عبر تقديم حلول ذكية وسريعة في التعامل مع التحديات وحل المشكلات بكفاءة وفعالية. تتناول هذه المقالة مصطلحين أساسيين هما: «الأراجيف» و«الذكاء الاصطناعي». فكلمة «الأراجيف» هي جمع «أُرْجُوفة»، وتعني في اللغة العربية الفصحى: الافتراءات، الأكاذيب، أو الأباطيل التي لا تستند إلى أي أساس من الصحة. أما المصطلح الثاني، فهو الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، وهي تقنية تُمكّن الآلات من التعلم ومحاكاة التفكيرالبشري من أجل تحليل البيانات، معالجتها، واتخاذ القرارات بناءً على ذلك. ويُعد الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative Artificial Intelligence) أحد فروع الذكاء الاصطناعي؛ حيث تُستخدم فيه تقنيات متقدمة مثل: النماذج التوليدية والشبكات العصبية العميقة، لإنتاج محتوى متنوع يشمل النصوص، والصور، والأصوات، وحتى البيانات.

هناك العديد من الافتراءات (الأراجيف) التي تُلصق بالذكاء الاصطناعي ومنها التحيز وتمويه العقل وفقدان الخصوصية والتلاعب في الآراء عبر خوارزميات التوصية والإعلانات بواسطة ما يسمى بفقاعات المحتوى المخصص (Filter Bubbles) ، وإدمان التصفح السلبي لساعات طويلة في محتوى معين بدلا من التركيز على أنشطة منتجة. في عصر تتسارع فيه وتيرةُ التطور التكنولوجي، نرصد أحد أهم هذه الأباطيل «هل سيكون للذكاء الاصطناعي دورٌ في اختفاء الكثير من الوظائف الحالية لتحل الأتمتة الآلية محلها ، ما يجعلنا عاطلين عن العمل؟». وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من تحليل هذه الأقاويل بناءً على الحقائق والدراسات.

تشير تقارير ودراسات حديثة إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي بالفعل إلى استبدال عدد كبير من الوظائف، لا سيما تلك التي تعتمد على المهام الروتينية والمتكررة. ولو تساءلنا عن عدد الوظائف التي قد نخسرها بسبب الذكاء الاصطناعي، فإن الدراسات التي أجرتها شركة ماكينزي تُقدّر أن ما بين 100 الى 300 مليون وظيفة حول العالم معرضة للاختفاء بحلول عام 2030. كما أن نحو 40% من الشركات تخطط لتقليص الوظائف في القطاعات التي أظهر فيها الذكاء الاصطناعي كفاءة عالية، وقد تصل نسبة التقليص إلى %9.1 عالميا بل قد تصل إلى 30% في بعض الصناعات. كل هذه الأرقام والمعطيات قد توحي ظاهريًا بأن الذكاء الاصطناعي يُشكّل تهديدا حقيقيا على سوق العمل، وأن فقدان عدد كبير من الوظائف الحالية قد يكون أمرا قريب الوقوع.

في المقابل، تشير العديد من الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي وإن كان سيؤدي إلى استبدال عدد كبير من الوظائف واختفاء بعضها، فإنه في الوقت ذاته سيساهم في خلق وظائف جديدة أكثر تخصصا وابتكارا، ما يعكس انتقال سوق العمل نحو وظائف ذات طابع تقني وتحليلي مرتفع. ولو تساءلنا عن نسبة الوظائف التي سَتُخلق نتيجة لإدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أعمالنا. وأبدأ بالدراسات الجديدة التي أشارت الى خلق مجموعة من الوظائف المتخصصة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والتي ستلعب دورا محوريا في تطوير وتطبيق حلول الذكاء الاصطناعي، ما يعكس الطلب المتزايد على الكفاءات القادرة على فهم هذه التقنيات وتوظيفها بفعالية. ومن أبرز هذه الوظائف (مهندس التعلم الآلي، مهندس الذكاء الاصطناعي، مستشار

الذكاء الاصطناعي، محلل البيانات الكبيرة، مهندس روبوتات، اختصاصي في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، اختصاصي في التعلّم العميق، مهندس الرؤية الحاسوبية) وغيرها من الوظائف. وتُقدّر الدراسات أن هذه الوظائف ستُساهم إلى خلق ما يقارب 97 مليون وظيفة بحلول 2030. كذلك سيتم ضخ 19.9 تريليون دولار أمريكي في الاقتصاد بحلول عام 2030 بفضل تقينات واستخدامات الذكاء الاصطناعي حيث سيساهم الذكاء الاصطناعي بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030. بالإضافة إلى ذلك، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في الأعمال سيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة وزيادة إنتاجية الشركات إلى 70% ما دفع 98% من المديرين التنفيذيين للشركات إلى تبني استخدام الذكاء الاصطناعي في شركاتهم بحلول 2030، كما أن من المتوقع أن يوفر الاقتصاد الأخضر المدعوم بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديث 7 ملايين وظيفة (حسب تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي).

لذلك فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون سببًا في فقدان الوظائف فحسب، بل سيساهم أيضًا في خلق عدد كبير من الفرص الجديدة، خاصة لأولئك الذين يملكون المهارات الرقمية والتقنية اللازمة. ومن هنا، تُصبح مسألة الاستعداد والتحضير أمراً حيوياً من خلال التدريب والتأهيل المستمر. لذلك فالخطر الحقيقي لا يكمن في تطبيقات الذكاء الاصطناعي بل في غياب الاستعداد لها والقدرة على التكيّف معها. وهنا يُطرح سؤال مهم وهو «ماذا عن أولئك الذين لا يمتلكون القدرة أو القابلية لتعلُّم التقنية؟ هل سيُقصَون من أعمالهم في عصر الذكاء الاصطناعي»؟

والجواب كلا ليس بالضرورة أن يكون الجميع خبيرًا تقنيًا أو رقميا ليحجز مكانه في عصر الذكاء الاصطناعي. الفرص ستظل متاحة للجميع، شرط أن نُحسن تطويع شغفنا، ونمزجه بالمرونة، ونتعلم كيف ونتعلّم كيف نُسخّر الذكاء الاصطناعي لتطوير أعمالنا بدلًا من منافسته. حينها، سنتمكن بلا شك من خلق فرص عمل واعدة في هذا العصر التقني المتسارع، تكون ذات تأثير إيجابي ملموس على حياتنا وأعمالنا. التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على التفكير النقدي والإبداعي وإعادة توجيه المهارات البشرية نحو مجالات يتطلبها الذكاء الاصطناعي لتتكامل معه. فالذكاء الاصطناعي، رغم قوّته في التحليل وسرعة تنفيذ المهام بأعلى كفاءة، فإنه يفتقر إلى ثلاث قدرات أساسية يتميز بها الإنسان:

1. الإبداع البشري: البشر قادرون على تقديم حلول وأفكار إبداعية مبتكرة وغير متوقعة، بينما الذكاء الاصطناعي يعمل ضمن حدود الخوارزميات والمعلومات التي تم تدريبه عليه.

2. القدرة على التعميم وتوظيف الخبرات: الإنسان يمكنه نقل المعرفة من مجال إلى آخر وتعميم الأفكار بسلاسة، أما الذكاء الاصطناعي فلا يزال يعاني من محدودية التعميم.

3. التفكير الأخلاقي والضمير الإنساني: القرارات البشرية تتأثر بمنظومة من القيم والمبادئ والأخلاق، وهي عناصر يصعب برمجتها بالكامل داخل أنظمة الذكاء الاصطناعي. فالآلة تنفذ الحلول وفق خطوات مبرمجة بدقة، دون اعتبار للبعد الإنساني أو الأخلاقي، أو مراعاة للقيم المجتمعية التي قد ترافق القرار.

ولكي نُحسن استثمار نقاط قوتنا في إيجاد مجالات وفرص تتناسب مع قدراتنا البشرية وتتماشى مع متطلبات العصر التقني والرقمي، علينا أن نُطوّع تقنيات الذكاء الاصطناعي لتكون وسيلة لتحسين أساليب حياتنا، وتعزيز إنتاجيتنا، لا بديلاً عنّا. فمثلا في التعليم يمكن لكل من المعلم والطالب الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتطوير الأداء وضمان أعلى إنجازية في بيئة تعليمية متطورة. فالمعلم مثلا ممكن أن يستخدم أدوات مثل جات جي بي تي ChatGPT وماجيك سكول MagicSchool لإعداد دروس تفاعلية، وتحليل أداء الطلاب بشكل أكثر دقة، كما تُمكّنه هذه الأدوات من تقديم تعليم مخصص يراعي الفروقات الفردية، مع تطوير مهاراته الرقمية عبر دورات مجانية متاحة على منصات مثل كورسا Coursera. أما الطالب، فيمكنه الاستفادة من أدوات مثل جرامرلي Grammarly وكويلبوتQuillBot لتحسين مهارات الكتابة، ومن تطبيقات الذكاء الاصطناعي لفهم المحتوى العلمي، تلخيص المحاضرات، وتنظيم الأفكار بطرق مبتكرة. هذه التقنيات لا تستبدل دور الإنسان، بل تعزز قدرته على التعلم والإبداع. من يستثمر وقته اليوم في تعلّم الذكاء الاصطناعي، يضمن موقعه في المستقبل ويصبح أكثر استعدادًا لمواجهة تحديات المستقبل.

ويمكن للحرفيين الاستفادة من البرامج التدريبية التي توفرها الحكومة العُمانية في تطوير المهارات المستقبلية لاكتساب المعرفة التقنية اللازمة. هذا التكامل بين الحرفة التقليدية والتقنية الرقيمة الحديثة لا يلغي هوية الحرفي، بل يعزز قدرته على الابتكار والبقاء والديمومة. الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا، بل فرصة للارتقاء لمن يُحسن استغلاله لتوسيع أثره الاقتصادي والحفاظ على على الإرث الثقافي والتأريخي بطريقة عصرية. فيمكن لأصحاب الحرف التقليدية مثل صناعة الفخار أو السعفيات استخدام تطبيقات ذكية لتحسين الإنتاج والتسويق دون الحاجة لأن يكونوا خبراء تقنيين. حيث البداية تكون بتعلُّم أدوات بسيطة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لابتكار نقوش فنية مستوحاة من التراث العُماني واستخدام تطبيقات تصميم ذكية مثل (Canva AI) لإنتاج أشكال مستوحاة من التراث العماني بطرق جديدة مبتكرة أو كتابة وصف احترافي للمنتجات باستخدام ChatGPT. وكذلك في تسويق منتجاتهم على الإنترنت من خلال المنصات الرقمية مثل إنستغرام Instagram التي تتيح الوصول إلى جمهور عالمي واستخدام تقنيات الواقع الافتراضي والحقيقي لعرض المنتجات بشكل ثلاثي الأبعاد ما يتيح فرص أكبر للبيع والتسويق.

تشهد سلطنة عُمان تقدمًا ملحوظًا في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي بمختلف القطاعات الحكومية وعلى الصعيد الشخصي، في إطار تحقيق أهداف تطبيق رؤية عُمان 2040. يعد البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي من أبرز المبادرات الحكومية الذي يهدف إلى تعزيز استخدام هذه التقنيات الرقمية في مختلف القطاعات بهدف تنويع مصادر الدخل القومي من خلال رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي إلى 10%، كما تعمل وزارة النقل على نموذج لغوي ذكي يعزز كفاءة الخدمات الحكومية يسمى «عُمان جي بي تي». بالإضافة إلى ذلك، تسعى مبادرة «اقتصاديات الذكاء الاصطناعي» إلى رقمنة قطاعات حيوية مثل النقل، السياحة، والأمن الغذائي لدعم التنويع الاقتصادي.

ختاما في مواجهة تحديات الحياة وتحولات العصر، لا تلعن الظلام، بل اشعل شمعة بالتعلم المستمر وتطوير الذات، فلنكن جزءًا من هذا التحول لا ضحيته، فمواكبة العلم هو مفتاح النجاح والديمومة.

البروفيسور جبار يوسف كلية الحاسوب وتقنية المعلومات بجامعة صحار

مقالات مشابهة

  • الأراجيف في زمن الذكاء الاصطناعي
  • صحة كوردستان تكشف حقيقة وفاة شخص بسبب الذكاء الاصطناعي
  • وزير الثقافة يشارك في إزاحة الستار عن ستديو نجيب محفوظ بماسبيرو
  • ملتقى استشراف المستقبل يرسم ملامح الاقتصاد العماني القادم
  • الوطنية للإعلام تكرم هدى نجيب محفوظ (تفاصيل)
  • بحضور وزير الثقافة ورئيس الأعلى للإعلام.. افتتاح استديو نجيب محفوظ بماسبيرو
  • وزير الثقافة يصل مبني ماسبيرو لافتتاح استديو نجيب محفوظ
  • سام ألتمان.. رأس الحربة في الذكاء الاصطناعي الإمبريالي
  • المسلماني يستقبل ابنة نجيب محفوظ
  • في أول زيارة لماسبيرو.. “المسلماني” يستقبل هدى نجيب محفوظ قبل افتتاح استديو نجيب محفوظ