مراجعة التجنيس في البحرين.. مكافحة فساد أم تراجع عن المزاعم القديمة؟
تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT
عادت “قضية التجنيس” في البحرين إلى الواجهة مجددًا بعد إعلان وزارة الداخلية، هذا الأسبوع، تشكيل لجنة لمراجعة الحاصلين على الجنسية منذ عام 2010، بسبب “وجود أشخاص حصلوا على الجنسية بالمخالفة للقانون أو عبر تقديم معلومات وبيانات غير صحيحة أو مستندات مزورة”.
لا تصدر السلطات البحرينية بيانات تفصيلية حول أعداد الأشخاص الذين مُنحوا الجنسية منذ عام 2010 أو قبله.
وجاء في البيان الصادر عن وكالة أنباء البحرين، الثلاثاء، أن وزير الداخلية شكل لجنة لمراجعة جميع حالات اكتساب الجنسية البحرينية اعتبارًا من عام 2010، للتحقق من صحة البيانات والمستندات التي تم على أساسها نيل الجنسية واتخاذ ما يلزم بهذا الشأن.
وأشار البيان إلى أن تشكيل اللجنة جاء بناءً على نتائج التحريات والمراجعات التي أجرتها شؤون الجنسية والجوازات والإقامة، والتي أظهرت وجود أشخاص حصلوا على الجنسية البحرينية بالمخالفة للقانون أو عبر تقديم معلومات وبيانات غير صحيحة أو مستندات مزورة.
لاقى بيان وزير الداخلية البحريني ترحيبًا كبيرًا من جميع مكونات المجتمع. وعبر عضو مجلس النواب، خالد بوعنق، في منشور على منصة “إكس” عن ارتياحه قائلاً: “خطوة موفقة ولاقت ارتياحًا شعبيًا كبيرًا”. وأضاف أن “الموضوع أصبح له تداعيات خطيرة حاضرة ومستقبلية… ونتمنى أن تبادر جميع الدول الخليجية بمثل هذه الخطوة المباركة”.
في المقابل، أصدرت جمعية الوفاق الإسلامية الشيعية المعارضة بيانا قالت فيه إن “غالبية المجنسين خلال العقدين الماضيين مُنحوا الجنسية بمخالفة القانون ولدوافع تغيير التركيبة السكانية والطائفية”، مجددة مزاعم سابقة طرحتها خلال وجودها داخل قبة البرلمان.
ولطالما كانت “قضية التجنيس” من القضايا المثيرة للجدل في البحرين، حيث توجه انتقادات مستمرة من المعارضين إلى الحكومة، كما ينظر إليها البعض باعتبارها “سياسات تستهدف الأغلبية الشيعية في البلاد من خلال تجنيس المزيد من المسلمين السنة لضبط التوازن الطائفي”، وهو الأمر الذي تنفيه السلطات.
البرلماني السابق عن كتلة الوفاق، علي الأسود، يقول إن “جميعة الوفاق لطالما حذرت السلطات في أكثر من مناسبة من أخطار التجنيس وتأثيره على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، حيث طرحت مشروعا لقانون التجنيس قبل سنوات ولم توافق عليه السلطات”.
وفي اتصال هاتفي مع “الحرة” من لندن، يضيف الأسود: “في مجتمع صغير نسبيا مثل البحرين، قامت السلطات بتجنيس نحو 120 ألفا، وهذا الرقم كبير للغاية، حيث تبع ذلك ارتفاعات قياسية في أعداد المواليد السنوية لتصل إلى 25 ألفا من متوسط كان لا يتجاوز 15 ألفا سنويا”.
وفي عام 2010، كان “حديث الملك حمد بن عيسى آل خليفة، يتمحور حول أن عملية التجنيس في البلاد ستكون في أضيق الحدود”، وفق الأسود، والذي يقول إن “أحداث 2011، دفعت السلطات إلى زيادة وتيرة التجنيس، حيث أصبح المجنسون يشكلون نسبة 15 بالمئة من إجمالي المواطنين”.
وشهدت البحرين في فبراير عام 2011 احتجاجات شعبية مستوحاة من “ثورات الربيع العربي” التي عرفتها بعض دول الشرق الأوسط آنذاك، إذ طالب بحرينيون شيعة بالتغيير السياسي الذي وصل أحيانا إلى مطالبات بإسقاط النظام الملكي السني، بحسب رويترز.
ويزعم الأسود خلال حديثه بوجود “ممارسات غير قانونية قام بها المجنسون تحت ما يسمى (لم الشمل) خلال السنوات القليلة الماضية، والتي تضمنت تزوير أوراق نسب لأبناء عمومتهم باعتبارهم أبناءهم، وذلك في سبيل منحهم الجنسية البحرينية”، على حد تعبيره.
ويقول إن “السلطات بدأت تنتبه لهذا الإجراء غير القانوني من خلال تحليل الحمض النووي (DNA) لأقارب المجنسين، خصوصا أقارب الآسيويين العاملين في السلك العسكري”.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، تحدثت وسائل إعلام بحرينية عن قضايا تُنظر أمام المحاكم “تتعلق بتزوير مستندات لمنح الجنسية لأبناء وهميين”، من بينها ما تقول صحيفة “الأيام” البحرينية في تقرير نشر مارس الماضي، إن “محكمة الاستئناف العليا قضت بحبس متهم بحريني وزوجته العربية 3 سنوات، بعد إدانتهما بمحاولة كسب ابنهما الوهمي الجنسية البحرينية، وقيام الزوجة بتزوير شهادة الميلاد في دولة عربية ومن ثم إصدار بطاقة شخصية وشهادة ميلاد من مملكة البحرين، خلافا للحقيقة”.
من جانبه، يُكرر الكاتب البحريني، جعفر سلمان، ما جاء في البيان الحكومي، بأن “اكتشاف حالات لبعض الأشخاص الذين حصلوا على الجنسية البحرينية من خلال تقديم معلومات غير صحيحة، يُعد السبب الرئيسي الذي يقف وراء ذلك”.
ويقول سلمان لموقع “الحرة” إن “هذه الخطوة لا تأتي في إطار دوافع سياسية. وحسب رأيي جاءت في إطار ما تنتهجه حكومة البحرين من أسلوب إدارة حديث، حيث لا يوجد قرار أبدي وغير قابل للتغيير”.
ويضيف: “كل القرارات بعد فترة من الزمن يُعاد النظر فيها، لدراسة مدى جدواها وما إذا كانت ناجحة أم لا. هذا هو أسلوب الإدارة الحديث”.
ويؤكد سلمان أنه “لا يوجد إحصاءات رسمية معُلنة لأعداد الحاصلين على الجنسية البحرينية منذ ذلك التاريخ. وتعمل السلطات على التحقق من خلال بحث كافة الحالات في سبيل الكشف عن عمليات التزوير أو قيام البعض بإجراءات تخالف القانون”.
ينص قانون “الجنسية البحرينية لسنة 1963 وتعديلاته” على أنه يمكن لملك البلاد منح أي أجنبي الجنسية إذا طلبها وتوفرت فيه الشروط وهي: أن يكون تكون إقامته في البلاد بطريقة مشروعة لمدة 25 سنة متتالية على الأقل أو 15 سنة متتالية على الأقل إن كان عربيا، وأن يكون حسن الأخلاق، وأن يعرف اللغة العربية معرفة كافية، وأن يكون لديه عقار مسجل باسمه.
كما ينص القانون البحريني على أنه يمكن بأمر الملك منح الجنسية، ويمكن بالأمر ذاته منحها إلى أي شخص عربي يطلبها إذا أدى للبحرين “خدمات جليلة”.
ويعتبر البرلماني البحريني السابق أن “توقيت الخطوة يأتي على خلفية الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي تسببت فيها عمليات التجنيس خلال السنوات القليلة الماضية، حيث إن الانتقادات لم تتوقف على المعارضة الشيعية، بل أيضا على السنة الموالين للنظام والذين تأثروا بالتجنيس”.
ويقول إن “التجنيس لم يؤثر على البحرين وحدها، بل على مختلف البلدان الخليجية، فالأمر لا يتوقف فقط على تغيير التركيبة السكانية، بل جاءت الآثار على الاقتصاد المتردي، الذي يعاني من ديون مرتفعة للغاية مع انخفاض الإيرادات”.
ويضيف الأسود أن “البحرين تعتمد بشكل أساسي على مساعدات الدول الخليجية الأخرى، وتعرضت لانتقادات واضحة من السعودية فيما يتعلق بالتجنيس”.
وفي مطلع عام 2018، زار وزير الداخلية السعودية، الأمير عبدالعزيز بن نايف، البحرين لمناقشة “منافسة عدد ممن يحملون جوازات بحرينية لأصحاب الأعمال بالسعودية”. وآنذاك، أمر وزير الداخلية البحريني، الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، بـ “سرعة التحري حول هذا الأمر بالتعاون مع وزارة الداخلية السعودية للوقوف على حقيقة الوضع واتخاذ ما يلزم لتصحيح ذلك”.
وجاء ذلك بعد حملة شعبية سعودية على موقع تويتر (إكس حاليا) طالبوا فيها السلطات البحرينية بإيقاف تجنيس رجال أعمال يمنيين مقيمين بالرياض، مما يمنحهم فرصة لمنافسة السعوديين والاستفادة من مزايا مجلس التعاون التي تساوي بين مواطني دولها الست في المعاملة.
ولم تتوقف تداعيات التجنيس على الاقتصاد في البحرين، بحسب عضو جميعة الوفاق، والذي يشير إلى أن بلاده “شهدت خلال السنوات القليلة الماضية ارتفاعا في بعض الجرائم مثل الاغتصاب، وهو الأمر الذي لم يكن متعارفا عليه لدى المجتمع البحريني”، على حد قوله.
في المقابل، يعتبر سلمان أن “هناك عدة احتمالات وراء التوقيت، من بينها تزايد القلق من اكتشاف الحالات غير القانونية أو ارتباطها بما يجري في دولة الكويت، باعتبار أن السياسات الخليجية دائما ما تكون موحدة، حيث إن ما يجري في البحرين يؤثر على عُمان وما يجري في عُمان يؤثر على السعودية”.
ويضيف خلال حديثه: “ما يجري في الكويت من إعادة النظر في الجنسيات ربما يكون هذا لهذا تأثيرا وانعكاسا على القرار الذي اتخذته السلطات في البحرين”.
ومنذ مارس الماضي، شرعت السلطات الكويتية في حملة سحب جنسيات وذلك لأسباب مختلفة، يأتي في مقدمتها “التزوير”. فيما تفيد وسائل إعلام كويتية بأن وزارة الداخلية تلقت مئات البلاغات التي تتعلق بتزوير الجنسية منذ ذلك التاريخ.
التركيبة الديمغرافية
بحسب البيانات الحكومية فإن 99.8 بالمئة من المواطنين البحرينيين هم مسلمون، والنسبة المتبقية (0.2 بالمئة) تمثل الأقليات الدينية الأخرى، بما في ذلك المسيحيين واليهود والهندوس والبهائيين.
وتشير تقارير إعلامية غربية ووكالات أنباء مثل فرانس برس ورويترز، إلى أن المسلمين الشيعة يشكلون النسبة الأكبر من إجمالي السكان بما يفوق 60 بالمئة، وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى إطلاق عمليات تجنيس واسعة لمسلمين سنة خلال السنوات القليلة الماضية “من بينهم مواطنون من سوريا واليمن والأردن ومصر والسودان”، بحسب الأسود.
وتنفي الحكومة البحرينية في أكثر من مناسبة أنها سعت إلى تغيير التركيبة السكانية من أجل ضبط التوازن الطائفي.
ويؤكد هذا سلمان قائلا إن “الحديث عن أن الهدف من التجنيس تغيير التركيبة السكانية وديمغرافية البحرين غير صحيح، وهذه السردية تنتهجها المعارضة دون أي سند”.
ويضيف: “إذا كان التجنيس يؤثر على الديمغرافية بالبحرين، فماذا عن التجنيس الذي جرى في التسعينيات واستهدف المهاجرين من إيران، حيث قامت الحكومة بتجنيس عشرات الآلاف تقريبا من أبناء وأحفاد المهاجرين الإيرانيين، وهم كلهم شيعة بالطبع”.
ويتابع سلمان: “بالتالي إذا كان هدف الحكومة تغيير الديمغرافية وتغليب مذهب على آخر لما كانت أقدمت على مثل هذه الخطوة في التسعينيات مع هذا العدد الكبير من الشيعة”.
في المقابل، يقول الأسود إن “الإيرانيين الذين حصلوا على الجنسية البحرينية لم يكونوا من الشيعة كما يعتقد البعض، بل من السنة الذي يعرفون بـ(الهُولة)”.
ومع ذلك، فإن هذه العملية كانت قانونية لم تؤثر على التركيبة السكانية في البلاد، بحسب الأسود، والذي يعتبر أن “هناك مبالغة أيضا في الحديث عن تجنيس الشيعة بالبحرين”، ويتهم السلطات وفق حديثه “برفض منح أوراق ثبوتية لمواطنين بزعم أنهم من الشيعة”.
أين تتجه الأمور؟
ويرفض محللون الحديث عن تقديرات بشأن ما ستؤول إليه الأمور “من عمليات سحب الجنسية المتوقعة للمخالفين للقانون” خلال الفترة المقبلة، لكنهم يعتبرون أنها ستطال “كثيرين”، بحسب الأسود، والذي يقول إنه “رغم قانونية منح الجنسية، فإن وزير الداخلية منذ أعوام يقوم باستثناءات كبيرة لمنح الأجانب الجنسية”.
ويطالب عضو جمعية الوفاق المعارضة التي حلتها الحكومة من “السلطات بوضع قانون جديد فيما يتعلق بمنح الجنسية للأجانب، مع الحد من ذلك بشكل كبير في المستقبل من الاستثناءات التي لم تعد مقبولة في المجتمع البحريني”.
وفيما يتعلق بسحب الجنسية، ينص “قانون الجنسية البحرينية” على أنه بأمر الملك يمكن سحب الجنسية في حالتين فقط؛ إذا حصل عليها بطريق الغش أو بناء على أقوال كاذبة أو إخفاء معلومات جوهرية، وإذا أدين في البحرين خلال 10 سنوات من تجنسه بجريمة تمس شرفه أو أمانته، وتسحب الجنسية البحرينية في هذه الحالة من الشخص المدان وحده.
بدوره، يرى سلمان أن “قانون الجنسية ربما لم يؤثر على التركيبة السكانية بشكل واضح، بقدر ما أضاف أعداد كبيرة من السكان إلى بلد صغير”.
ويضيف: “البحرين بلد مساحته صغيرة وإمكاناتها صغيرة ووجود عدد كبير من المجنسين، يؤثر على الخدمات التي تقدمها الدولة”.
ويقول: “من الجيد إجراء مراجعات لمثل هذه قرارات. فلا أحد يعرف الأعداد التي تجنست منذ 2010، ولا الأعداد التي يمكن أن تخسر الجنسية حاليا، لهذا سننتظر ما ستؤول إليه التحقيقات”.
الحرة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: خلال السنوات القلیلة الماضیة على الجنسیة البحرینیة حصلوا على الجنسیة وزیر الداخلیة منح الجنسیة فی البحرین ما یجری فی فی البلاد یؤثر على یقول إن من خلال إلى أن عام 2010
إقرأ أيضاً:
هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
بعد ساعات طويلة من انتظار الحصول على حصّته من المياه، يقف طفل لا يتجاوز الـ12 من عمره أمام غالونين كبيرين مليئين بالماء، لا وقت للإرهاق الآن، فالحصول على المياه النظيفة الشحيحة شيء، والعودة بها للخيمة أو المنزل المهدم الذي يعيش فيه مع أسرته شيء آخر تماما. يحاول الطفل رفع الغالونين عدّة مرات دون فائدة، فالحمل ثقيل لجسد صحيح، فما بالك بجسد منهك من الحرب وقلة التغذية.
محاولات الطفل غير الناجحة جعلته يدرك أن مقدار وزن الغالونين رُبما يفوق وزنه هو شخصيا، وحينما أدرك الصغير حجم ما يواجه، رفع وجهه إلى السماء ثم قال: "أعطني القوة يا الله". تنفس ملء رئتيه، وتمكن بالفعل من حملهما والسير بهما لخطوات عدة وثّقتها الكاميرا لترصد نزرا يسيرا من هول ما يعيشه أطفال غزة تحديدا وعموم قاطني القطاع المحاصر.
في وقت سابق، نشر ستيفن جوزيف، وهو أستاذ في كلية التربية بجامعة نوتنغهام الإنجليزية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ورقة بحثية ناقش فيها النمو النفسي خلال مرحلة ما بعد الصدمة أو التجربة المؤلمة، وقد استهلّت الورقة البحثية عنوانها بـ"ما لا يقتلنا".
عمل ستيفن مع عديد من الناجين من الصدمات وأهوال النزاعات، ولديه مسيرة طويلة في دراسة ما تُعرف بـ"النمو بعد الصدمة"، وكتابه الشهير: "ما لا يقتلنا: دليل للتغلب على الشدائد والمُضي قدما"، حاول فيه توظيف بعض النظريات والممارسات النفسية لاستكشاف ماذا يجري بعد الصدمة، وكيف يمكن التغلب على الشدائد لخلق معنى وهدف جديدين في حياتنا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي تغير ليرفض الغرب حرب الإبادة على غزة؟ ولماذا الآن؟end of list إعلانوضّح جوزيف أن الدراسات النفسية المتعلقة بالصدمات قد تغيرت مؤخرا، خاصة مع إدراك الباحثين أن الشدائد والمواقف بالغة الصعوبة لا تؤدي بصورة حتمية إلى خلق شخص مضطرب نفسيا أو مكتئب، إذ بدأت اتجاهات البحث النفسي العلمي ترى أن هناك جانبا من "النمو الإيجابي" قد يتحقق خلال مرحلة ما بعد الصدمة والتجارب القاسية ويمكن أن تمثّل نقطة انطلاق لبناء مستويات أقوى من الصلابة النفسية.
وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.
ومن المداخل التفسيرية التي لا تستحضر كثيرا في الدراسات النفسية وإن كان لها دور في تعضيد هذه القراءات، ونقصد بذلك المدخل الإيماني الذي يلعب دورا واضحا في الكيفية السلوكية التي يتعامل بها الأفراد تجاه المصائب التي يواجهونها، إذ تشكّل الأرضية الإيمانية -التي يستند إليها الفرد أو المجتمع- عاملا أساسيا في محددات الحالة الشعورية التي تلي المعاناة، فضلا عن الحالة النفسية في أثناء الأزمة، ولا يمكن فصل هذا العامل عن تحليل المشاهد الواردة من غزة، إذ يمكن ملاحظة حضور المفاهيم الدينية والإيمانية في خطاب وسلوك الغزيّين.
إعلانفي الدين الإسلامي مثلا، البلاء يتطلب صبرا، وللصابرين مثوبة جزيلة، وجانب من التكوين الإيماني للمسلم قائم على أن البلاء مرحلة مرّ بها المؤمنون على مدار التاريخ، حيث يسوق القرآن وتسوق الأحاديث النبوية الكيفية التي تعاملت بها المجتمعات المؤمنة التي تعرضت للبلاء، وما يلي ذلك من ثواب من الله لا يقتصر على ما يراه الفرد في هذه الدنيا.
بالطبع لا يسعى هذا التقرير إلى أسطرة الإنسان الغزي (أي جعله أسطورة)، بل يحاول البحث في الديناميات والقدرات النفسية الحقيقية التي يقاوم بها سكان القطاع، في محاولة للنجاة من الأهوال التي يقاسونها يوميا، ليس على صعيد النجاة من الموت فحسب، بل أيضا عبر المجاهدة في تفاصيل يومهم كافة، بدءا من شربة الماء، وصولا إلى محاولة النوم، وليس انتهاء بالعيش وسط مجتمع لا يمتلك أدنى مقومات العيش الكريم، وأساسات الحياة التي اعتادها لعقود.
أما عن مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة" فهو أحد أكثر المصطلحات النفسية شيوعا في العالم العربي، وقد أخذ رواجا على إثر الانتكاسات السياسية والاقتصادية وما تلاها من تمزّقات شملت البنى الاجتماعية في عدد من المجتمعات العربية، وكانت ارتدادات تلك الانتكاسات حاضرة بثقلها على المساحة الشعورية للأفراد والمجتمعات على السواء، وفي ظل هذا الواقع، حضر مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة كمحاولة لتفسير آثار التغيرات التي برزت على سطح المجتمع وعمقه.
وكما الحال في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن المفاهيم عادة ما تنشأ في سياق زماني وجغرافي محدد، ثم تكون عرضة للتبدل والتغير، عندما تتعرض لتفسير وفهم مستجدات جديدة، فامتزاج النظرية بسياقات ثقافية مختلفة عن البيئة التي نشأت فيها، يحتم عليها أن تتجاوب مع المتغيرات حتى يمكنها، اخراج تفسيرات ملائمة. وقد أسهمت غزة في خلق تحديديات كثيرة أما العديد من الأفكار والنظريات الاجتماعية.
إعلانأما عن سياق نشأة وظهور مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة"، فنجده مرتبطا بالجمعية الأميركية للطب النفسي عام 1980، وقبل سك هذا المصطلح، كان هذا الاضطراب يُعرف قد انتشر خلال الحرب العالمية الأولى باسم "صدمة القذائف"، وكان يُعتقد أنه يؤثر على الجنود فقط. وتعرّفه جمعية علم النفس الأميركية بأنه اضطراب نفسي يحدث عندما يعيش أو يشهد شخص ما حدثا يشعر خلاله بتهديد حياته أو سلامته الجسدية، فتكون المشاعر المسيطرة على الشخص خلال هذا الحدث هي الخوف أو الرعب أو العجز.
بمرور الوقت، جذبت أعراض هذا الاضطراب انتباه الباحثين والعلماء، وبدأت البحوث المتتالية ترصد وتوثق أثر التعرّض للصدمات في تغيير حياة الإنسان وإفسادها، وذلك لما تتركه الصدمات من تأثيرات وتغييرات نفسية سلبية بعد تعرض الشخص لحادث صادم. وقد اعتقد الباحثون أن هذه التغييرات النفسية السلبية مردّها عائد إلى رغبة العقل في حماية الشخص من التعرض لمزيد من "التجارب الخطرة" أو من تلك التجارب التي يمكن أن تضع الفرد في موقف فيه تهديد، حتى وإن كان متخيّلا.
في البدء، طغى اتجاه طبي ينحصر تركيزه في توثيق التأثير السلبي للتعرض للصدمات، دون الالتفات كثيرا إلى الملاحظات -كانت قليلة حينها- التي تناولت التأثير الإيجابي الذي يُمكن أن تُحدثه الصدمات في حياة وشخصية الأفراد الذين يتعرضون لها.
لكن قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل كل مَن يتعرض لحادث مؤلم مُهدِّد للحياة، يُعاني بعد النجاة منه اضطراب ما بعد الصدمة؟".
النمو بعد الصدمةرغم الاهتمام بالجوانب السلبية، فإن بحث جوزيف، السابق الإشارة إليه، يرى أن الاهتمام العلمي في المجال النفسي بالتغيرات الإيجابية التي قد تعقب تعرض الشخص للصدمات والشدائد، أخذ في التزايد، بعدما أظهرت مجموعة من الدراسات -التي أُجريت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات- أن هناك مجموعة من التغيرات الإيجابية التي شهدتها شخصيات قاسوا أحداثا مأساوية أو صدمات شديدة القسوة.
إعلانحين رُصدت نتائج الدراسات السابقة، بدأ الاهتمام خلال تسعينيات القرن الماضي بدراسة الكيفية التي تتحول فيها صدمة إلى عامل "محفز" للتغييرات الإيجابية، وأثر ذلك في تعضيد التكوين الشخص النفسي. هنا بدأ يظهر مفهوم "النمو" بعد الصدمة، حتى أصبح مجالا بحثيا يجذب اهتماما دوليا واسعا من الباحثين والعلماء، وخلال السنوات العشر التالية لظهور هذا المفهوم، أصبح نمو ما بعد الصدمة أحد الموضوعات الرئيسية التي تندرج ضمن موضوعات علم النفس الإيجابي.
يُشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أنه في أوائل التسعينيات، صاغ عالِما النفس ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون مصطلح "النمو بعد الصدمة" (PTG)، ويقوم هذا المصطلح بشكل أساسي بوصف التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تحدث لشخصية الفرد أو نفسيته بعد تعرضه لأزمة كبيرة أو حادث مُهدِّد للحياة أو صدمة قاسية.
وأن التغييرات الإيجابية الملحوظة يمكن أن تحدث للشخص الذي تعرض للصدمة خلال الأيام أو الأشهر أو حتى السنوات التي تلي تعرضه لهذه الصدمة. وبالنسبة للناجي من الصدمة، يمكن أن تكتسب الحياة معنى جديدا يمنح الفرد القدرة على إعادة تشكيل معتقداته وأولوياته وأهداف حياته والقيم التي ستشكل هويته.
مشروع مقاوم أكثر صلابةخلال شهر مايو/أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، أن 16 ألفا و503 أطفال فلسطينيين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الإبادة الجماعية في غزة، في إحصائية صادمة تجسد حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع.
عرف الأطفال، الذين يُمثلون ما يقرب من نصف عدد سكان قطاع غزة خلال أكثر من 20 شهرا، معنى أن يتركوا بيوتهم مرغمين مذعورين قبل أن تُهدم فوق رؤوسهم، ومعنى أن يذوقوا ألم فقدان أهاليهم وأقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، ومعنى أن ينتظروا الموت، فلا يعلمون ما إذا كانت هذه آخر مرة يضع فيها الواحد منهم رأسه المنهك على الأرض كي ينام، أو أن يرقبوا بأعينهم من وراء الركام ويشموا بأنوفهم رائحة الدماء التي تعني حتما ارتفاعا يوميا في أعداد الشهداء والمصابين، حتى يصبح الموت حاضرا وماثلا وجاثما على امتداد القطاع.
إعلاناختبر هؤلاء الأطفال معنى أن تسترد وعيك في المشفى كي ترى طرفا من أطرافك قد بُتر. ناهيك عن الإصابات غير المرئية، كأن تنخفض قدرة طفل على السماع على إثر قذيفة سقطت في منطقة مجاورة لمكان تواجد الطفل، وهذه إصابة حقيقية لها شواهدها.
بالعادة، وفي سياقات مشابهة، تبدو نتيجة الضرر النفسي البالغ حتمية على كل طبقات المجتمع، فما ظنّك بالأطفال؟ بالتأكيد هناك من عانى من ويلات الحرب وألمت به مشاعر الاكتئاب والقلق واليأس والحزن والاستياء والغضب والخوف، لكن هذا ليس أمرا جاريا ومضطردا في كل الأحوال.
فبعض التغييرات العنيفة والأحداث بالغة القسوة التي شهدها الطفل الغزاوي، وفقا لمفهوم "النمو" بعد الصدمة والتي تمتزج مع المركّبات الإيمانية للمجتمع الغزيّ، قد لا تقود إلى نتيجة حتمية مفادها الانهيار -وإن كان ذلك حاضرا ولا يمكن إنكار حدوثه اليوم أو احتمالية ظهوره في المستقبل القريب- لكنها في المقابل قد تجعل منه شخصية تتسم بالصلابة والقوة النفسية، ورُبما يكون الصبي الذي شهد كل هذا العنف في الغد القريب مقاوما أكثر صلابة من سابقيه، فكثير من مقاومي اليوم هم من أهالي الشهداء والأسرى والمصابين، وهم ممن قاسوا شخصيا، أو قاسى أهلهم المباشرون حروبا وتهجيرا وتضييقا ممنهجا حتى وجدوا في المقاومة خيارا ضروريا لاسترداد الحق.
في السياق ذاته، قبل أن يتغير موقف الملياردير الأميركي إيلون ماسك من حرب إسرائيل على غزة، فإنه كان قد تساءل في مقابلة مصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر تقريبا على طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة: "مقابل كل عضو تقتله من حماس كم خلقت من الأعداء؟ وإذا كان ما خلقته أكثر مما قتلت فأنت لم تنجح". كان هذا التساؤل المشروع قبل أن يحرك نتنياهو ترسانته لاستمالة ماسك الذي بدا جليا تغير خطابه ومواقفه بعد هذه المقابلة تحديدا.
إعلانقد تخلق الظروف القاسية إنسانا مضطربا، وقد تساعده على اكتشاف مكنوناته وقدراته الداخلية. قد يتألم الانسان الموجوع، ولكن من الممكن أن يشتد عوده وتصلب إرادته، وعندما يعتاد مجتمع ما الحرب والصراع وترتبط ذاكرته بالاستعمار والانتهاكات، فليس أمامه إلا طريقان: أن يستسلم، أو يقاوم، وغزة بالتأكيد تقاوم.
ووسط كل هذا الركام والدموع المنهمرة، قد يتخلق شيء إيجابي وفق تصورات علم النفس، وأن هذا النمو المتوقع، أو التغير الإيجابي المرتقب لا يحدث بضغطة زر، وليس نتيجة حتمية للتعرض للصدمة، لأنه يتطلب تحديا واستعدادا نفسيا عاليا يصحبه المرء أثناء خوضه معركة بقائه. وهنا يوضح ستيفن جوزيف أن النمو بعد الصدمة هو "عملية تغيير وليس فقط نتيجة تلقائية للتغيير"، فهي لا تحدث إلا للأفراد الذين تأهلوا لذلك.
وهذه "الآثار الإيجابية" قد تزور الفرد بعد أعوام من الحرب، فيكتشف الحكمة من ورائها، ويسبر أغوار الآثار النفسية العميقة التي تركتها التجربة، وكل هذه أمور قد لا تحدث لآخرين. كما أن ثمة بعدا آخر في تشكيل هذا المقاوم الأكثر صلابة، وهي أن القاتل أو المجرم لم يترك "للضحية" مساحة ولا خيارا آخر، فإما أن يغرق في ظلمات الاكتئاب فيصبح الدم المسفوك لا معنى له سوى ندبة غائرة وجرحا نازفا في نفس وذهن الشخص، أو أن يقف على قدميه متحديا كل الأعباء، نافضا عنه غبار العاصفة الثقيل، كعنقاء تخرج من رمادها، ثم يقاوم، كي يسترد بعضا من حقه، أو يُقتل وهو يحاول، فـ "علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ"، كما يقول محمود درويش.