كتب طوني عيسى في" الجمهورية": عندما أنشئ لبنان الكبير في العام 1920، جاء الكيان الجديد متوازناً طائفياً، مع أرجحية طفيفة للمسيحيين. وكان لا بد من تجاذبات استغرقت نحو ربع قرن، ليعلن الموارنة والسنة تسوية وطنية سحرية» في العام 1943، وفيها تنازل الجميع للجميع، لمصلحة الجميع... حتى إشعار آخر.
يجب الاعتراف بأن تلك الثنائية همشت الشيعة في القرار في الشكل كما في المضمون.
خلال عهود ما بعد الاستقلال، حاول نظام 1943 تهدئة اعتراضات الشيعة بإشراكهم في القرار في شكل مطرد وتحسين أوضاعهم.
واستفاد الشيعة، وما زالوا من الدعم الإقليمي الذي يحصلون عليه من سوريا وإيران ليثأروا من صيغة 1943 . وفي المقابل، ينحسر تدريجاً نفوذ المسيحيين أولاً، والسنة ثانياً.
هناك مأزق متعدد الأوجه يعيشه المسيحيون اليوم في لبنان، ويهدد بخسارتهم هذا الكيان، أو خسارته لهم. وعندما تقع هذه الخسارة، سيفقد لبنان هويته التاريخية المعروفة.
هناك مأزق متعدد الأوجه يعيشه المسيحيون اليوم في لبنان، ويهدد بخسارتهم هذا الكيان، ويمكن ترتيبها كالآتي:
-1- الخسارة الديموغرافية. تراجع المسيحيون من نسبة النصف إلى نسبة الثلث .
-2 استمرار الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية إلى أجل غير محدد، يعني استمرار إدارة لبنان في غياب الشريك المسيحي -3- خسر المسيحيون الكثير من طاقاتهم الاقتصادية، خصوصاً بعد انهيار 2019.
4- لم يعد للمسيحيين تنظيمهم المسلح الخاص، كما حال الشيعة الذين يديرون بأنفسهم شؤون الأمن في أجزاء واسعة من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. والدليل إلى كون السلاح عامل قوة أساسي، في يد أي طرف هو أن الشيعة وحدهم يتخذون اليوم قرار الحرب أو السلم، ويفاوضون القوى الإقليمية والدولية ويبرمون معها الاتفاقات فعلاً، فيما الدولة اللبنانية تقوم بالتنفيذ شكلاً. وأما الطوائف الأخرى فما عليها سوى انتظار النتائج. هذا الواقع يقود تدريجاً إلى خسارة المسيحيين لدورهم تماماً ، بل إنهم سيخسرون لبنان القديم»، وهذا اللبنان سيخسرهم أيضاً. أي نتيجة لهذا الخلل، سيتغير المسيحيون ومعهم سيتغيّر لبنان 1920 و 1943. وهذا الخلل الهيكلي لن يشفع به لا الترقيع بطائف آخر ولا تقطيع الوقت بدوحة جديدة. والمأزق الذي سيواجهه الجميع هو: ماذا في اليوم التالي لسقوط هذا اللبنان؟
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
مصالح أمريكا في المنطقة تتعارض مع مصالح الكيان
محمد الجوهري
إن أبسط مقارنة بين واقع علاقة الولايات المتحدة بالعرب، وعلاقتها بالكيان الصهيوني، تكشف مفارقة صادمة: فخيرات العالم العربي بأسره، من نفطٍ وغازٍ واستثماراتٍ ومدخرات، تتجه في نهاية المطاف إلى البنوك الأمريكية، سواء عبر التبادل التجاري غير المتكافئ، أو من خلال الأموال المنهوبة من قبل حكامٍ عملاء يتم تدويرها في المؤسسات المالية الأمريكية. بل إن أمريكا لا تتردد أحيانًا في معاقبة هؤلاء العملاء أنفسهم عبر تجميد أرصدتهم ومصادرة أموالهم متى انتفت الحاجة إليهم، كما حصل مع العديد من المسؤولين في اليمن والعراق ومصر وليبيا.
في المقابل، فإن الكيان الصهيوني لا يُمثل مكسبًا اقتصاديًا للولايات المتحدة، بل عبئًا ماليًا واستراتيجيًا هائلًا. فالدعم الأمريكي لهذا الكيان تجاوز حتى الآن أكثر من 150 مليار دولار منذ عام 1948، أغلبها في شكل مساعدات عسكرية مباشرة، وفق تقارير “خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي (CRS)”. وحدها صفقة دعم واحدة، أقرتها إدارة أوباما عام 2016، قضت بمنح “إسرائيل” 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات، بمعدل 3.8 مليارات سنويًا، دون مقابل اقتصادي حقيقي يُذكر، بل لقتل وإبادة الشعب الفلسطيني.
هذا الدعم ينعكس مباشرة على المواطن الأمريكي البسيط، الذي يُرهق بالضرائب لتمويل حروب لا ناقة له فيها ولا جمل، بينما يُحرم من نظام صحي شامل، ويغرق في ديون التعليم والسكن. فبحسب بيانات الاحتياطي الفيدرالي، يبلغ متوسط ديون المواطن الأمريكي أكثر من 90 ألف دولار، في حين يعيش نحو 12% من السكان تحت خط الفقر، في دولة ترسل ملياراتها سنويًا لحماية كيان عنصري يمارس أبشع أنواع القتل والاحتلال.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ الرأي العام الأمريكي يُدرك هذا التناقض، فقد أظهر استطلاع لـ”مركز بيو للأبحاث” عام 2023 أن نسبة تأييد دعم “إسرائيل” بين الشباب الأمريكيين تراجعت إلى أقل من 40%، مقابل تزايد التأييد لحقوق الفلسطينيين. وهذه ليست مسألة أخلاقية فحسب، بل اقتصادية أيضًا؛ فكل دولار يُرسل لحماية الكيان هو دولار يُسحب من جيب المواطن الأمريكي، ويُنفق على حرب لا تخدم إلا مصالح اللوبيات.
واليوم، ومع ظهور المارد اليمني من تحت الركام والحصار، باتت واشنطن أمام عدو مختلف تمامًا عن كل خصومها السابقين. إنه عدو لا تحركه المصالح المادية ولا تُرهبه العقوبات، ولا تنطلي عليه شعارات “الديمقراطية” الأمريكية المزيفة. إنه عدو مشحونٌ بعقيدة قتالية متجذرة، ويمتلك قيادة لا تُساوم، وجيشًا شعبيًا خَبِرَ الميدان، وتحمّل أعتى التحالفات الدولية دون أن ينكسر أو يتراجع.
لقد فشلت واشنطن، ومعها تحالف العدوان في تطويع هذا العدو أو احتوائه، حتى بالترهيب الاقتصادي أو الحصار السياسي، فقرر اليمنيون نقل المعركة إلى قلب المصالح الأمريكية في المنطقة، كما ظهر جلياً في عمليات الحظر الملاحي في البحر الأحمر وباب المندب. هذه العمليات التي جاءت كرد مباشر على جرائم العدو الصهيوني في غزة، كشفت عن قدرة اليمنيين على تطويع الجغرافيا لخدمة قضيتهم الكبرى، وتحويل الممرات الدولية إلى أوراق ضغط سياسية واستراتيجية ثقيلة.
وحسب تقديرات شركات الشحن العالمية، فإن تأخر السفن أو إعادة توجيهها عبر رأس الرجاء الصالح يرفع تكاليف النقل بنسبة تصل إلى 300%، ويتسبب في خسائر يومية تتراوح بين 5 إلى 10 مليارات دولار لاقتصاديات الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذه ليست مجرد ضغوط، بل رسائل صريحة بأن اليمن لم يعد تابعًا ولا مهمّشًا، بل رقم صعب في معادلة الإقليم، يملك اليد الطولى في التحكم بشريان التجارة العالمي، متى أراد.
وإذا كانت هذه العمليات تمّت بضوابط عسكرية محددة وبمراعاة الأهداف السياسية، فماذا لو قرر اليمن رفع سقف المواجهة؟ ماذا لو انتقل الاستهداف من السفن التجارية إلى المنشآت النفطية الخليجية التي تعتمد عليها واشنطن بشكل مباشر؟ أو إلى القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة من العراق إلى جيبوتي؟ أو حتى إلى حلفاء واشنطن في المنطقة الذين يؤمِّنون لها المصالح والغطاء؟
في ظل هذه المعادلة الجديدة، تبدو واشنطن مكشوفة في الإقليم أكثر من أي وقت مضى، إذ تواجه خصماً لا يساوم على القضايا المركزية، ولا يبحث عن دور وظيفي، بل يسعى لإعادة صياغة وجه المنطقة، ودحر كل نفوذ استعماري يقف عائقاً أمام تحرر الأمة ووحدتها. والمارد الذي خرج من اليمن لا ينوي العودة إلى القمقم، بل يتقدم بخطى واثقة نحو رسم خريطة جديدة، عنوانها: لا مكان للهيمنة الأمريكية بعد اليوم.