القصيدة الحقيقية تكمن وراء المعنى
تاريخ النشر: 12th, July 2024 GMT
داخل كُلِّ شاعر عربي ثمَّة المتنبي
ثورة غزَّة أعادت فلسطين إلى مسارها الأوَّل
اخترتُ أن أكونَ مع الناس حُرًّا مُستقِلًّا بقصيدتي
الأدب ليس ردَّ فعل بل فعلٌ له قوانينُهُ الخاصة
"الثمانينيات" العصر الذهبي لثقافتنا المعاصرة
الحوار مع شاعر وزميل إعلامي يبدو مختلفاً عن كل الحوارات الثقافية التي أعتدت عليها، حيث يجب أن تضبط قوافي الأسئلة على بحور الإبداع المتلاطمة الأمواج.
والحديث مع الشاعر السوري عبد الله الحامدي الذي رحب بأن يكون ضيف صحيفة "عُمان" يأخذك إلى قلب الحركة الشعرية العربية وأسئلتها المعاصرة، وعلى الرَّغم من أنَّه مقلٌّ في عدد إصداراته وحواراته مقارنةً بتجربته الشعرية الممتدة إلى نحو أربعين عامًا، إلَّا أنَّه يحضر بين حين وآخر، في أوقات تبدو "مضبوطة تمامًا"، تاركًا أثراً لافتًاً وموقفاً مميزاً، ويتواجد شاعراً وأديباً في مختلف المنابر الإعلامية حيث تتلمس أثره هناك.
في هذا الحوار يكشف الحامدي عن رؤيته الحداثية المستمدة من التراث، مشيراً إلى المكانة الاستثنائية للشاعر المتنبي الذي لم يَسلمْ من تأثيره شاعرٌ بلغة الضاد، مؤكداً في الوقت نفسه أن حقبة الثمانينيات من القرن الماضي جسَّدت العصر الذهبي للثقافة العربية المعاصرة في كُلِّ المجالات، كما تطرَّق الحوار إلى العديد من القضايا ذات الصلة بتجربته، مثل استجابة الشاعر للأحداث الآنية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وانحسار الشعر وتصدُّر الرواية، وثيمة المكان التي تبدو أساسية في قصيدته.
يقيم الشاعر عبد الله الحامدي في دولة قطر منذ عقود، مُشرفًا على الصفحات الثقافية في عدد من صحفها اليومية، إضافةً إلى إسهاماته في تأسيس وإدارة ملاحق ومجلات ثقافية مرموقة مثل "أعناب" و"فنار"، فضلًا عن مؤلفاته المهمَّة في النقد التشكيلي، ومشاركاته في ندوات فكرية وورش فنية، عربية ودولية.
التقيته أثناء تواجدي في قطر، فكان الحوار التالي:
نبدأ من قصيدتك الأخيرة عن غزَّة، برأيك ما هو تأثير الكلمة في مواجهة المُعتدي، وكيف يُمكن للكلمة أن تكون مُؤثِّرة؟
سؤالٌ مهمٌّ جدًّا، بل هو السؤال الشعري الأهم: لماذا نكتب؟ صرتُ أطرحه على نفسي قبل الشروع بأي قصيدة، فما الجدوى من كتابتها إِنْ كانت لا تُؤثِّر؟ وأنا أعلم أنَّها لن تُؤثِّر في الواقع، لكنَّ سرَّ القصيدة ليس في تأثيرها المباشر؛ فالقصيدة الحقيقية تكمن وراء المعنى، بيد أنَّ الشاعر لا يستطيع الوصول إليها دون المرور بالمعنى وطريقة إبداعه، من هنا تأتي أهمية المعاني والألفاظ، أي الكلمات، وبالتالي اللغة والفكرة والموسيقى، وسلسلة هائلة من الخصائص الفنية والمعرفية والوجدانية والإنسانية التي لا بد من تَوفُّرِها في الشعر حتى يكون شعرًا، فإذا كانَ (فعل تام) فقد تحوَّلَ إلى أقوى أداةٍ للتغيير، لأنَّه يُغيِّر الإنسان نفسه، وإلَّا فلا! وعودة إلى سؤالك عن قصيدتي الأخيرة "كتابُ غزَّة وغلافُها" أقول: لو لم أكتبها لاختنقتُ ممَّا أراهُ – ونراهُ جميعًا – ونعيشهُ لحظيًّا من قتلٍ يوميٍّ عَمْدٍ للإنسان في هذه المدينة المفجوعة بلا أدنى حسابٍ لأيِّ قَدْرٍ من الأخلاق والمبادئ التي تعارفَ عليها البشر.
دور الأدب
والحال كذلك، هل قال الأدب العربي – بأجناسه المختلفة من شعر ورواية وقصة – كلمتَه، بما يوازي بطولات فلسطين وصمود أهلها، وما هو الدور المطلوب منه؟
أعتقد أنَّهُ سيقول كثيراً، وإنْ جاء ذلك لاحقاً، فالأدب ليس ردَّ فعل بل هو فعلٌ له قوانينُهُ الخاصة، والمعجزة الفلسطينية التي تحققَّتْ بصمود أهل هذه الأرض الحقيقيين، على الرَّغم من كلِّ ما جرى ويجري منذ عشرات السنين حتى الآن، لم تَعُدْ حكرًا على العرب فحسب، بل أصبحتْ أمثولة لكُلِّ الشعوب الحُرَّة الرافضة للذل واليأس والاستسلام للطغيان، وأحد أهم تجليات هذه المعجزة التظاهرات التي اندلعت في العواصم الأجنبية والجامعات العالمية، ثم موجة الاستقالات والاحتجاجات الصارخة لكثير من المسؤولين والنواب في العديد من بلدان العالم، والتي تُذكِّرنا بما حدث في التاريخ القريب مع حركات التحرُّر العربية والعالمية خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، هذا النَفَسُ الحرُّ الأبيُّ، لا تَجِدُه إلَّا في الشعر، وعَبْرَ الشعر، الذي ينتفض حتَّى على ذاته، وهو ما عبَّر عنه الشاعر العربي الكبير نزار قباني بالقول: "عندما تبدأُ البنادقُ بالعزفِ / تموتُ القصائدُ العصماءُ"؛ لقد أثبتت الوقائع أن الحلول الافتراضية طوال ستة وسبعين عاماً من الاحتلال لم تفضِ إلَّا إلى مزيد من التعقيد السياسي والمعاناة اليومية للشعب الفلسطيني. ما حدثَ في غزة بكل اختصار هو حصارٌ خانق أدى إلى انفجارٍ مُتوقَّع، رُبَّما لم يتوقَّعْ الكيان الإسرائيلي حدوثه، وفق حسابات القوة لديه، لكن لأهل الأرض الحقيقيين حسابٌ آخر هو الثورة، سوف يُسجِّل التاريخ هذه اللحظة الفارقة بأنَّ ثورة غزَّة عام 2023 أعادت فلسطين إلى مسارها الأوَّل، بعد عقود من محاولات التزييف والتدليس لإضاعة الحق عبر توقيع الاتفاقات العابرة من فوق الطاولات ومن تحتها دون جدوى، وسوف يبقى الفلسطيني الثائر الحُرَّ – ومعه كلُّ العرب والمسلمين والأحرار في العالم – صاحبَ الكلمة الفصل في قضيته التي لن يتنازل عنها، وعن وطنه.
الفجيعة السورية
كتبت قصائد عن فجائع عديدة مرَّت بنا، لكن الفجيعة السورية كانت الأشدَّ إيلاماً في قصائدك، وأنت من هذه الأرض، كيف قاربتَ ما مرَّت بهِ البلاد على مدى عقدٍ ونيف شعريّاً؟
المفارقة أنني كنتُ قد أخذتُ قراراً شعريًّا قبل نشوب الحرب، فحواهُ التحرُّر من الموضوعات، أو ما كان النقاد والأساتذة في الجامعات يسمُّونه "الأغراض الشعرية"، وذلك من أجل كتابة قصيدة صافية وجديدة، يتقوَّى بها الموضوع وليس العكس، فكلُّ الموضوعات التي سادتْ في تلك المرحلة كانتْ قد تحوَّلتْ بمرور الزمن إلى قضايا مكرورة ومستعصية على الحلِّ، تنتقل من جيل إلى جيل تلقائيًّا، منذ نكبة فلسطين 1948، إلى النكسة العربية 1967، ثم الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية 1982، وكنَّا حينها طلبةً في المرحلة الإعدادية، إلى الأحداث التالية، ولكن لم أتخيَّل يومًا أنْ يصبحَ بلدي ذاتُه ساحةً مفتوحة لحرب أهلية طاحنة بدءًا من عام 2011، لقد بِتْنا بين عشية وضحاها ميدانًا لصراعٍ كَوْنِي بالوكالة عن كلِّ القوى العالمية والإقليمية على الأرض السورية، وعَبْرَ الإنسان السوري البسيط الذي وجد نفسه في لحظةٍ حالمةٍ بالحرية والكرامة والثورة المسالمة في جحيم حقيقية، لم يعهدْها ولم يعتدْها من قبل، وسطَ وحوش مُتعَدِّدة الأوجه والأهداف، فهل تتوقَّع من أي شاعر ينتمي إلى هذه الأرض الطيبة أنْ يتنكَّر لجُرحِها النازف تحت الذَّبح؟ أو هل سينجرُّ بعد معايشته عشرات السنين حُمَّى الشعارات الكذَّابة، أنْ يغدو بوقًا لهذه الجهة أو تلك؟! ببساطة اخترتُ أن أكونَ مع الناس، حُرًّا مُستقِلًّا بقصيدتي وموقفي، وفيًّا لكبرياء الشخصية السورية ونبلها منذ فجر التاريخ، وصولًا إلى اللحظة الراهنة، على الرَّغم من فداحة المأساة التي أسهمتِ الأطرافُ كافَّة في صناعتها.
فرادة الشعر
الشعر بنبرتِهِ الخِطابيَّة المعروفة كان مُحرِّكًا للشعوب فيما مضى، عبر المَنابِر التقليديَّة، هل تراجع هذا الدَّور أمام كثرة المنصَّات التي توفرها السوشيال ميديا، فأصبح الشعر "عاديّاً" نظراً للوفرة فيما يُكتب ويُنشر؟
وسائل التواصل الاجتماعي غيَّرتْ حياتَنا كلَّها، من نمطٍ إلى نمط، بصراحة هي لا تعجبُني إطلاقاً، وأكاد أكافحها يوميّاً من أجل تحاشِيْها من جهة، والاستفادة من توحُّشِها – إذا جاز التعبير – من جهة أخرى، إنَّها أحد المنجزات التكنولوجية الفذَّة لنظام العولمة وعصر ما بعد الحداثة؛ لا يستطيع حتَّى الشعر بما يمتلكه من فَرَادَة وخُصوصِيَّة في حدِّها الأعلى الفكاكَ من سطوتها على كُلِّ مفاصل الحياة، وهنا المشكلة، سِيولتُها وسُهولتُها في الاستخدام والوصول إلى درجة الابتذال الذي يُفقِد حتَّى الإبداعات العظيمة قيمتها لدى الجمهور، ولو أدركَ المتهافتون على قارعة الصفحات الزرقاء (الفيسبوك) وسواها ما يرتكبونه من فظائع بحقِّ الشعر، لكفُّوا وانصرفوا إلى ما هو أكثر نفعاً، بدلاً من إضاعة الوقت، وإضافة المزيد من الزبد إلى البحر.
ما بين ديوانك الأول "وردة الرمل" الصادر عام 1995، والثاني "نشرة غياب" الصادر عام 2005، والثالث "الرهوان" الذي صدر عام 2015 سنوات طويلة، أي بمعدل عشر سنوات لكل ديوان، هل تعمَّدتَ بأن تكون مُقِلًّا، أم أنَّ الأمرَ يتعلق بأوقات الوحي الشعري؟
أنا نفسي فوجئت بهذه الأوقات المضبوطة تماماً دون قصد، ومبعث استغرابي هو إيقاع الفوضى التي أملتْها قواعد الشعر وحساسيته العالية على جوانب عديدة من حياتي، وربُّما دفعتُ ثمناً لا بأس به جرَّاء ذلك في كثير من الأحيان، فتجدُني أُنشِدُ مع المتنبي: "وإذا كانتِ النفوسُ كِباراً / تَعِبتْ في مُرادِها الأجسامُ"، وبالمناسبة لدي قناعةٌ راسخة بأنَّ داخلَ كُلِّ شاعر عربي ثمَّة المتنبي؛ والسبب لغتُهُ التي اشتَّقها من روح اللغة العربية، والتي قبل أن تكونَ لغةَ اتصالٍ واستدلال هي لغةُ جمالٍ وجلال، أمَّا فيما يخصُّ قلة النشر فالأمرُ يتعلق بدقة الاختيار، حيث الشعر عمل نوعيٌّ وليس كميّاً، وهناك الكثير من القصائد التي كتبتُها وبقيت حبيسة الأدراج، ولم تتضمنها دواويني المطبوعة.
حداثة صارمة
تكتب الشعر، وتميل إلى الحداثة الصارمة بقيودها الشعرية، وليس المنفلتة من عقالها، كيف تتعاطى مع القصيدة، وكيف يكون المخاض والولادة؟
أشكرك على وصف الحداثة بالصرامة، فأنت ترفعُ عنها ذلك الحيفَ الهائل من تُهمة الهشاشة والتسيُّب والفوضى غير المفهومة بالنسبة إلى المُتلَقِّين أحيانًا، فالفوضى الحداثية تعني هدمَ النظام القديم من أجل إبداع شعري جديد يوازي البناء التراثي الضخم في تجارب إبداعية معاصرة، وليس تحطيم النماذج الخالدة في ذائقتنا العربية، وفق هذه الرؤية سوف نكتشف حداثة خلَّاقة وسبَّاقة في تراثنا الشعري العربي، وسوف تكون أكثر تطوُّراً من نصوص كثيرة تدَّعي الانتماء إلى الحداثة في عصرنا الحالي.
يكادُ الجدلُ لا ينتهي ما بين الشعراء العرب، فيما يتعلق بالشعر العَموديِّ والشعر الحُرِّ، ولكل منهما مريدُوه وقراؤُه، برأيك هل تراجع الأول لمصلحة الثاني لصعوبة قرضه، أم تسيد الثاني لسهولته وسرعة انتشاره، بما يُجاري الزمن وتسارعه؟
علينا أنْ نفصلَ بين طرفَي الفن والجمهور عند تقييم الشعر، فقد يسبق الفن عصره إبداعيّاً، وتُقدِّرُهُ الأجيال اللاحقة من الجمهور، كما حدث في العديد من التجارب الشعرية الرائدة، وقد تسقط الكثير من التجارب الرائجة في حقبة ما فور انقضائها، لأنها تفتقر إلى الإبداع الأصيل الذي يصمد بمرور الزمن، الشعر الجميل هو جميل دائماً، سواءً أكان حُرّاً أم عَموديّاً، أو موشَّحاً ثائراً على نظام البيت ذي الشطرَين، تمهيداً لمجيء قصيدة التفعلية، أو قصيدة النثر، وكلُّها أسماءٌ لذلك الكوكب البعيد المتلألئ في فضاء الشعور الإنساني العميق بألغاز الوجود.
ثيمة المكان
المكانُ ثيمةٌ أدبية ملازمة للشاعر، وقد وردت الأماكن في قصائد كثيرة لك، منها مسقط رأسك "عامودا" شرق سوريا، أي الأماكن أكثر إلهامًا بالنسبة إليك؟
عامودا حبيبتي ومدينتي وقصيدتي التي لا تفارقني، حتَّى أولئك الذين زاروها مرَّة واحدة تركتْ فيهم أثراً لا يُمحى غالباً، بعضُ مثقفيها أطلق عليها وصف "ماكوندو"، قرية العجائب للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في رائعته "مئة عام من العزلة"، ربما يحتاجُ الحديثُ عن عامودا لقاءً مستقلًّا ومطوَّلاً؛ هي ليست مدينة ولا قرية، وهي ليست كبيرة مثل لندن أو موسكو أو باريس التي سمَّاها الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي "الوليمة المتنقلة"، لكنَّها بسحرِها الغامض تجعلك تحبُّ كل المدن، من فرط أُلفَتِها وفائض محبَّتِها، وهكذا تعلَّقتُ بحلب ودمشق والدوحة وطنجة والقاهرة وماردين ومشهد ومومباي، ومدن أخرى كثيرة – على الرَّغم من مروري العابر بها – صارتْ جزءاً أصيلاً من نسيج تجربتي الشعرية.
بعد سطوة الرواية وشعبيَّتها، وتهافت الناشرين عليها، وربما القُرَّاء كذلك، برأيك هل ما يزال الشعر ديوان العرب؟
لن يفقد الشعر مكانته لدى العرب، لأنَّه مُتأصِّل فيهم، نحن نتحدَّث عن لحظة قصيرة في عُمْر الشعرية العربية، حتَّى لو طالتْ واختلفتِ المعطيات، أرى أن الشعر هو المادة الخام لكُلِّ الفنون الأخرى، من قصة ورواية وموسيقى ومسرح وسينما ورسم، قد توحي مفردة "الخام" بمعنى البدائية، فليَكُن، الشعر هو البداية في أرقى أشكالها وأكثرها خيالًا وجمالًا.
مهنة المتاعب
ليس الشعر وحده شغفك، بل الصحافة لها نصيبٌ وافر في مسيرتك الكتابية، ألا تخشى أحيانًا أن تتخلَّى القصيدة عنك لصالح مهنة المتاعب؟
لا، الحقيقة بقيتِ القصيدة وفيَّةً لي على الدَّوام، ممَّا زادَ من صعوبة مهنة المتاعب لديَّ وضاعفتها، يعلمُ زملائي المقرَّبون – وربَّما العديد من القرَّاء المُتابعين – ذلك، صحيح أن الصحافة استنزفتِ الكثير من الوقت والجهد والطاقة، لكنَّها في المقابل منحتني الكثير على صعيد العلاقة اليوميَّة بالجمهور، فيما ظلَّتِ القصيدة مستشارتي الأولى في ضبط تلك العلاقة من حيثُ اللغة أولاً وأخيراً، وهل يوجد أهم من اللغة في بلاط صاحبة الجلالة.
عملك في الصحافة الثقافية على مدار ثلاثة عقود تقريبًا قرَّبَك من العديد من التجارب الإبداعية العربية، كيف ترى المشهد الثقافي العربي الآن؟
يصعب تقييم المشهد الثقافي العربي الراهن، من قِبَلي أو حتَّى من قِبَل فِرَق مُتخصِّصَة بأكملها، لكنَّه سؤال مشروع ومطروح علينا جميعًا.
النقد التشكيلي
تهوى الفن التشكيلي، وتقرأُ الصورة بعين ثاقبة، وتكتبُ نقداً يوازي الشعر، وقد أصدرتَ عددًا من المؤلفات في هذا المجال، ما الذي أخذكَ إلى هناك، وما الذي استهواكَ فيه؟
كنتُ أرسم عندما كنتُ طفلًا، ثمَّة لوحاتٌ ما زالت تداعبُ مُخيِّلَتي حتى الآن، مثل قصائدَ تنتظرُ دورها في الهطول حينَ يتَّفقُ البرقُ مع الرَّعدِ في لحظة التوتُّر العالي إذا امتلأتِ السماءُ بالغيومِ المُعتمة وثمَّة عطرٌ من ألفِ عام وراء النافذة، الرسم مثل الكتابة ومثل الغناء، أشكالٌ متعدَّدة للتعبير عمَّا يحيط بنا ونحيط أنفسنا به، لعلَّ ما جعلني أتَّجه إلى النقد التشكيلي في بداية عملي بالصحافة، هو صداقتي مع فنانين مبدعين، بدءاً من أخي الأكبر الفنان فواز الحامدي، وصولاً إلى كبار الفنانين السوريين، ثم القطريين والعرب والأجانب لاحقًا، وما جعلني أنخرط نقديّاً بصورة أكبر هو التكليف الذي يردُني عادةً من جهات ثقافية وفنية مرموقة لإنجاز كتاب، فكانت الحصيلةُ المؤلفاتِ التي أشرتَ إليها.
بِمَن تأثَّرْتَ في بدايتك الشعرية؟
أعدُّ نفسي محظوظًا بولادتي في بيئة عائليَّة دينيَّة مثقَّفة، مهتمَّة بالأدب والفكر والفن، فكان تأثُّري الأوَّل بجدَّتي التي كانت تحفظُ الكثير من الأشعار، ولا أنسى ما كانت تُردِّدُه من قصائدَ وأبيات للإمام الشافعي، مثل هذا البيت السلسبيل: "دعِ الأيامَ تفعلُ ما تشاءُ / وطِبْ نفسًا إذا حكمَ القضاءُ"، ثم جاءت النقلة المهمَّة في بداياتي الشعرية عبر أستاذي الشاعر جميل داري الذي يَرجِعُ الفضل إليه في الأخذ بيدي وأيدي جيل من الشعراء الشباب في مدينتنا الصغيرة النائية نحو الحداثة الشعرية العربية وأبرز رموزها، فضلًا عن تدريسه الرائق للغة العربية وتراثنا الأدبي القديم، وكذلك اطلاعنا على الآداب العالمية المعاصرة في تلك المرحلة المبكرة من ثمانينيات القرن العشرين، والتي كانت العصر الذهبي للثقافة العربية المعاصرة على كُلِّ الأصعدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العدید من الکثیر من على الر الذی ی
إقرأ أيضاً:
عبد الرحمن يوسف.. حين يُختطفُ صوتُ الشعر من أمَّته
في حياة الأمم محطات من الضوء يتقدّم صفوفها شعراء ومفكرون يحملون المصابيح في الليلة الطويلة، هؤلاء ليسوا مجرد كتّاب أو قائلين للحرف؛ بل هم صُنّاع الوعي، وحملة الذاكرة، وحراس المعنى، ومن هؤلاء في زماننا القريب الشاعر الكبير عبد الرحمن يوسف القرضاوي، أحد أبرز الأصوات الشعرية والسياسية التي شكّلت وجدان الثورة المصرية، وعبّرت عن نبضها ونبض الشعوب العربية الباحثة عن كرامة وحرية، واليوم، وبعد ثلاثمئة وثلاثة وثلاثين يومًا على اختطافه، ما يزال مصيره غائبًا، وصوته محجوبًا، وأثره مصادَرًا، لا يُعرف أين هو ولا كيف هو، ولا هل ما يزال يسمع العالم أنفاسه أم أن صمت السجون قد أثقلها بما لا يُحتمل؟ إن مأساة عبد الرحمن ليست مأساة فرد، وليست شأنًا عائليًّا أو سياسيًّا ضيقًا، وليست مجرد اعتقال لشاعر كتب ضد الظلم، بل هي مرآة لوجدان أمة تعاقَب على أحلامها، وتُجلد على قصائدها، وتُختطف إرادتها كما يُختطف شاعرها.
من لبنان إلى الإمارات… اختطاف بثمن بخس
لا تزال تفاصيل الاختطاف تذبح الضمير العربي كلما استعيدت: شاعر عربي بارز، معروف، علني، لا يحمل سلاحًا، ولا يقود تنظيمًا "إرهابيًّا"، ولا يمارس إلا الكتابة… يُختطف من بلد عربي في واقعة غامضة بثمن بخس دراهم معدودة، كأننا أمام قصة يوسف التي تتكرر ذاتها في عصر الأقمار الصناعية والكاميرات وحقوق الإنسان، اختُطف عبد الرحمن من لبنان بعد أن مر منها بعد زيارته لسوريا اختفالا بنجاح ثورتها، ورُحِّل إلى الإمارات رغمًا عن كل النداءات والمساعي، وتمت العملية بصمت مخجل، حتى بدا المشهد كله وكأنه بيعٌ سياسي لا علاقة له بالقانون ولا العدالة ولا الأعراف الدبلوماسية، ورغم مرور الشهور الطوال، فإن أحدًا - لا أسرته ولا محاميه ولا المنظمات الدولية - يعلم أين هو، ولا ما التهم الموجهة إليه، ولا ما إن كان قد حصل على حقه الطبيعي في التواصل مع العالم .. إنها حالة اختفاء قسري مكتملة الأركان، لا يشوبها أدنى شك، بل تُعد واحدة من أكثر الوقائع السافرة التي تكشف حجم الانحدار الذي وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في التعامل مع الإنسان الحرّ.
عبد الرحمن… شاعر الثورة، وصوت الميدان، وحارس الحلم
ليس عبد الرحمن يوسف رجلًا مجهولًا ولا اسمًا عابرًا، ولا كاتبَ مقالاتٍ معزولًا عن جمهوره؛ بل هو شاعر الثورة المصرية الذي كانت قصائده تُقرأ في الميادين، وتُرتل في صدور الشباب، وتُحفظ في مظاهرات يناير وفبراير، وتنشد في أناشيد وأغانٍ، هو صاحب دواوين كاملة تفيض غضبًا ووعيًا وشجاعة، مثل ديوان مسبحة الرئيس، وديوان أمام المرآة، وديوان نزف الحروف، وديوان لا شيء عندي أخسره، وديوان في صحة الوطن، وديوان يوميات ثورة الصبار، وديوان رثاء امرأة لا تموت، وديوان حزن مرتجل، وديوان اكتب تاريخ المستقبل، وغيرها مما صار جزءًا من الذاكرة الثورية والأدبية الحديثة، كتب عن الحرية فهتف الناس معه، وكتب عن الظلم فاهتزت القلوب له، وكتب عن الوطن فصار صوته مرآة لآمال ملايين المصريين والعرب، ومثل هذا الرجل لا يُعتقل لأنه ارتكب جريمة، وإنما لأنه حمل قلمًا شريفًا في حقبة تكره الأقلام، وتخشى الكلمة، وتضيق بالحرف الحر.
لماذا يخيف الشعرُ الطغاة؟
الشعر - في نظر المستبدين - ليس مجرد كلمات، بل هو طاقة تحريضية وشرارة وعي ونافذة يطل منها الناس على ذواتهم ومصائرهم، والشعراء في تاريخ الأمة لم يكونوا شعراء فقط، بل كانوا مفكرين وقادة رأي وصناع اتجاهات وحملة مواقف.
ليس عبد الرحمن يوسف رجلًا مجهولًا ولا اسمًا عابرًا، ولا كاتبَ مقالاتٍ معزولًا عن جمهوره؛ بل هو شاعر الثورة المصرية الذي كانت قصائده تُقرأ في الميادين
ومن المتنبي إلى أحمد شوقي، ومن أحمد مطر إلى نزار قباني، ظل الشاعر هو صوتَ الجماعة حين تخاف الجماعة الكلام، وفي زمن القمع يكون الشاعر جيشًا من الكلمات، وجيشًا من الوعي، وجيشًا من الأسئلة، ولهذا يخشاه المستبدون؛ لأنه يفضحهم بلا سلاح، ويحاربهم بلا بندقية، ويستنهض ضدهم قلوب الناس بلا مظاهرة واحدة .. عبد الرحمن يوسف القرضاوي واحد من هؤلاء؛ قصيدته تُسقط ورقة التوت عن المستبد، وتعيد للناس ما سرقته الأنظمة من شجاعتهم؛ ولهذا كان هدفًا سهلًا: فالشاعر يحبه الناس ويستمعون إليه، وقد تُحدثُ قصيدةٌ واحدة ما لا تُحدثُه كتب ولا خطب، كما لا يمكن التحكم في أثره، وهذا ما لا تطيقه الأنظمة المغلقة!
مأساة إنسانية: أسرة لا تعرف أين أبوها
وراء المأساة السياسية تتوارى مأساة إنسانية أشد ألمًا: أسرة كاملة لا تعرف أين هو والدها، بنات يكبرون دون أن يسمعوا صوته، إخوة وأخوات ينتظرون خبرًا فلا يأتي، عائلة تعيش بين الظن والحدس، وتبحث في العتمة عن خيط ضوء، والأسوأ من ذلك أن الصمت الرسمي حوّل الأمر إلى جدار من رصاص: لا معلومات، لا شفافية، لا قانون، لا تحديثات، لا تحقيقات… وكأن حياة شاعر عربي صارت شيئًا يمكن طيّه في الأدراج خارج كل منظومات العدالة والإنسانية!
إنها لحظة نادرة تكشف بشاعة العالم العربي حين تبتلع السجونُ أبناءه بلا تهمة، وتغلق الأنظمة على الحقيقة، ثم تريد من الناس أن ينسوا، وأن يطووا الصفحة، وأن يواصلوا حياتهم كما لو أن شاعرًا لم يُختطف، وكأن قلبًا لم يُذبح.
من يستحق التكريم لا التجريم
كل ما فعله عبد الرحمن أنه كتب، نعم كتب، كتب عن الحرية، كتب عن الاستبداد، كتب عن الثورة، كتب عن الظلم، كتب عن الإنسان العربي الذي يريد أن يعيش كريمًا، فهل يكون جزاء الشعر السجن؟ وهل يكون مصير الحرف القيد؟ وهل تصبح القصيدة جريمة في قانون لا يعرف من الجريمة إلا اسمها؟ عبد الرحمن - بكل المقاييس - يستحق التكريم: شاعر كبير، صاحب مشروع أدبي واضح، رجل كلمة لا رجل عنف، صوتٌ مدافع عن الأمة، مفكر منحاز للناس، وحين تختطف دولة كالإمارات شاعرًا عربيًّا معروفًا، فإنها لا تضرب شخصًا بقدر ما تضرب قيمة، ولا تُسكت قلمًا بقدر ما تُسكت أمة، ولا تغيّب شاعرًا بقدر ما تغيّب مستقبل التفكير الحر.
شرعية المقاومة بالكلمة
قد يظن البعض أن الشعر ليس مقاومة، وأنه مجرد جمالية لغوية أو صياغة وجدانية، لكن الحقيقة أن الشعر - في السياق العربي خاصة - كان دومًا أداة وعي وسلاحًا معنويًّا ومنبرًا سياسيًّا ووسيلة لتثبيت الهوية، وتعبيرًا عن أشواق الناس، يتجسد فيه قول الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾. [سورة الشعراء: 227]، ولم يكن عبد الرحمن بدعًا من الشعراء؛ فقد ورث هذا الدور التاريخي، وحمله بصدق وشجاعة، وظل وفيًّا لدوره حتى آخر لحظة قبل اختطافه، فإذا كان العالم يدافع عن حرية الصحفيين والكتّاب والمفكرين، فإن الدفاع عن عبد الرحمن هو دفاع عن هذا الحق الإنساني الكوني.
الإمارات… سجلٌّ مثقل في حرية التعبير
لا يمكن فصل مأساة عبد الرحمن عن السياق الأوسع لواقع الحريات في الإمارات في السنوات الأخيرة: اعتقالات واسعة للنشطاء، اختفاءات قسرية، محاكمات سياسية، تضييق شامل على كل صوت مختلف، وغياب شبه كامل للمجتمع المدني، ويأتي اختطاف شاعر عربي ليزيد هذا السجل قتامة، ويجعل القضية تتجاوز الإمارات نفسها لتصبح قضية حرية العرب في التعبير، وحقّ الأمة في أن تسمع أبناءها لا أن يبتلعهم الصمت.
هكذا تتحول المأساة الفردية إلى قضية أمة
كل شاعر كبير هو ملك أمته وليس ملك أسرته فقط، وغياب عبد الرحمن يوسف يعني غياب صوت من أهم أصوات الوعي الجمعي، غياب أحد أقوى نقاد الاستبداد، غياب شاعر يشكّل ذاكرة الثورة، غياب رؤية كانت تضيء الطريق حين يستحكم الظلام .. إن أمة تُسجن شعراؤها أمة تهدم معانيها، وتطفئ قناديلها، وتفقد جزءًا من قدرتها على التعبير عن نفسها.
لماذا الصمت؟ سؤال يجلد الضمير العربي
بعد مرور هذا الوقت كله على اختفائه، وصمت الناس، كأنهم نسوا قضية الشاعر الحر، من حقنا أن نتساءل: كيف يمكن للعالم العربي أن يصمت على اختفاء شاعر؟ أين الاتحادات الأدبية والثقافية؟ أين المنظمات الحقوقية العربية؟ أين المؤسسات الرسمية التي تزعم حماية المثقف؟ أين وزارات الثقافة التي تتغنى بالإنجاز؟ أين الإعلام الذي يملأ شاشاته احتفاءً بالشعر بينما يتجاهل مأساة شاعر بارز؟ الصمت هنا جريمة أخرى؛ لأن الظلم إذا لم يجد من يقف في وجهه استشرى، وإذا لم يجد من يفضحه تمدد، وإذا لم يجد من يندد به صار قاعدة لا استثناء.
بين يوسف النبي ويوسف الشاعر
في الحكايتين تشابه عجيب يوجع القلب؛ كلاهما بيع بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين، كلاهما تجسّد فيه الظلم في أوضح صوره، كلاهما وضع في غياهب الجب/السجن؛ لأن الحقيقة تُخيف، كلاهما واجه قهرًا بلا ذنب ارتكبه، لكن يوسف النبي خرج من السجن ليصبح ملكًا ورجل رؤية وحكمة، ويوسف الشاعر سيخرج كذلك إن شاء الله تعالى، وسينتصر المعنى؛ لأن التاريخ علمنا أن الكلمة تنتصر ولو بعد حين، وأن الظلم لا يدوم وإن طال.
دعوة مفتوحة لإنقاذ عبد الرحمن
إن قضية عبد الرحمن يوسف القرضاوي اليوم ليست قضية سياسية ضيقة، بل هي قضية إنسانية، وقضية أخلاقية، وقضية فكرية، وقضية أدبية، وقضية وطنية، وقضية أمة بأكملها؛ ولهذا فإن الواجب يدعو إلى إطلاق حملة دولية للمطالبة بكشف مصيره، وتفعيل دور المؤسسات الحقوقية، والتواصل مع المنظمات الدولية المعنية بحرية التعبير، ومخاطبة اليونسكو بوصفه أحد أهم الشعراء العرب المعاصرين، وإطلاق بيانات تضامن من اتحادات الأدباء والمثقفين، وكتابة مقالات ومنشورات عامة تحيي القضية، وعدم ترك أسرته وحيدًة في هذه الأجواء، سواء أكانت أسرته الكبيرة أم أسرته الصغيرة!
الحرية التي لا تحتاج إلى تبرير
عبد الرحمن لا يحتاج إلى الدفاع عنه لأنه لم يحمل سلاحًا، ولم يدعُ إلى عنف، ولم يشكل تنظيمًا "إرهابيًّا"، ولم يمارس أي نشاط خارج حدود التعبير المشروع، جرمه الوحيد أنه كتب شعرًا قويًّا، وقال كلمة صادقة، وحمل ضميرًا حرًا، وواجه الطغيان بالحرف، والاستبداد بالقصيدة، والخوف بالشجاعة .. هذه ليست جريمة؛ هذه رسالة، وهذه الرسالة يجب أن تُكرم لا أن تجرّم.
كلمة إلى عبد الرحمن… إن وصلته كلمة
يا عبد الرحمن، يا صوتنا الغائب، يا شاعر الثورة، يا ابن الكلمة الحرة… نحن نعلم أنك - أينما كنت - ما زلت تكتب، وما زلت تقاتل بالحرف، وما زلت على عهد الشعر والوطن، نعلم أن القيد لن يكسر روحك، وأن السجن لن يُطفئ نورك. نعدك أننا لن ننسى، ولن نسكت، ولن نطوي الصفحة، ولن نتركك تواجه الظلام وحدك.
وأخيرًا: الحرية حقٌّ لا يسقط بالتقادم
الحرية ليست منحة ولا هبة ولا فضلًا من سلطة، بل هي حق أصيل يتجاوز كل القوانين الوضعية ويعلو على كل السلطات الزمنية، وقضية عبد الرحمن يوسف لن تُغلق بالصمت ولن تُطوى بالنسيان؛ لأنها قضيةُ شاعرٍ كبير، وقضيةُ كلمةٍ كبيرة، وقضيةُ وطن كبير، وما دام في الأمة حر واحد فإن صوت عبد الرحمن لن يموت، وإن غيبوه في السجون، وما دام في الأمة نبض فإن القصيدة ستجد طريقها إلى الضوء، حتى لو كانت مكتوبة في العتمة .. إن حرية عبد الرحمن ليست مطلبًا بل واجب، ومصيره ليس لغزًا بل جريمة يجب كشفها، والتضامن معه ليس أمرًا هامشيًّا بل موقف يعيد للأمة شيئًا من كرامتها.