ما يقوله ترامب ليس جعجعة، كما يظنُّ قادة الأعمال
تاريخ النشر: 5th, August 2024 GMT
ترجمة ـ قسم مكي
الرأي السائد عن دونالد ترامب انه لا يملك أجندة سياسات متماسكة. فهو "مَصْلَحي" ومندفع دون تَرَوٍّ ونرجسي. اكتشف ذلك مؤخرا موظفوه السابقون ال 140 الذين عملوا معه في "مشروع مؤسسة هيرتدج 2025" وذلك عندما تنَصَّل ترامب فجأة عن مسعاهم لأنه أصبح إشكاليا. (هذا المشروع مخطط يسعى الى إحداث تغيير جذري لنظام الحكم الفدرالي في الولايات المتحدة على نحو يخدم أهداف اليمين المحافظ بقيادة ترامب في حال انتخابه– المترجم.
لكن ترامب لديه عقيدة يعتنقها منذ فترة ليست قصيرة. ففي عام 1987 عندما كان مجرد مطوِّر عقاري نيويوركي أنفق ما يقرب من 100 ألف دولار لنشر خطاب مفتوح الى "الشعب الأمريكي" على صفحة كاملة بصحيفة نيويورك تايمز. ينبغي أن تكون الرسالة الأساسية التي انطوى عليها ذلك الخطاب مألوفة الآن. فقد بدأ على النحو التالي: " لعقود ظلت اليابان وبلدان أخرى تستغل الولايات المتحدة." جوهر الخطاب أن الولايات المتحدة تصيب نفسها بالشلل بالإنفاق على الدفاع عن حلفائها فيما يزدهر هؤلاء الحلفاء. والحل في نظره هو جعل اليابان والبلدان الأخرى تدفع لأمريكا مقابل حمايتها وفرض "ضريبة" على هذه البلدان والتي يعني بها فرض تعريفات جمركية.
هذا هو جوهر نظرة ترامب للعالم. وفي الحملة الانتخابية الحالية أعلن أنه سيفرض رسوما جمركية بنسبة 10% على كل الواردات و60% على الواردات القادمة من الصين. أما بالنسبة للتعهدات الدفاعية لأمريكا فقد هدد ترامب بأنه لن يدافع عن بلدان الناتو التي "لا تسدد فواتيرها." ويقصد بذلك وفاءها بنسبة الإنفاق الدفاعي المستهدفة وهي 2% من الناتج المحلي الإجمالي. بل في الحقيقة قال إنه سيشجع الروس على "فعل كل ما يريدون فعله" مع مثل هذه البلدان.
سألتُ أصحاب الأعمال الذين يؤيدون ترامب كيف يمكنهم أن يفضلوا أجندة من الواضح أنها معادية للأسواق والنمو والاستقرار. ردوا بقولهم إنها كلها جعجعة وأن "نباح" ترامب دائما أسوأ من "عَضِّه." لكن العداء لحلفاء أمريكا والوَلَه بالحمائية من ثوابت عقيدة ترامب.
رؤية ترامب السوداء التي تعود الى سنوات الثمانينات لم تتحقق. فاليابان وأوروبا دخلتا في ركود. والصين نهضت. والولايات المتحدة بقيت طوال الوقت قوية على نحو لافت. وحافظت على نصيبها الذي يشكل 26% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم منذ عام 1990 وحتى اليوم. والأجور في الولايات المتحدة التي كانت في وقت ما شبيهة جدا بالأجور في أوروبا هي الآن أعلى منها بنسبة 45%. بل أعلى من تلك النسبة مقارنة بالأجور في اليابان. فالأجر المتوسط في الولايات المتحدة يساوي 77 ألف دولار وفي اليابان حوالي 43 ألف دولار. وفَّرت بلدان مثل فرنسا الحماية لعامليها فيما مارست اليابان وألمانيا السياسة الصناعية. لكن أمريكا هي التي تقدمت بسرعة في عصر المعلومات.
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي جرَّبت إدارتا الرئيسين ريجان وكلينتون كل أنواع الإجراءات لوقف تقدم اليابان. لكنها انتهت الى إخفاقات باهظة التكلفة (اليابان فاتتها ثورة المعلومات على أية حال). لم يردع الفشل ترامب الذي يريد أن يجرب ذلك مجددا. ولكن هذه المرة مع الصين التي يبدو الآن انها تدخل فترة تباطؤ في نمو اقتصادها بسبب أخطائها هي نفسها.
حتى الآن الأمور واضحة. فبمقياس ترامب نفسه وهو العجز التجاري فشلت الرسوم الجمركية ضد الصين (والتي مدَّدها بايدن). فمنذ فرض هذه الرسوم زاد العجز التجاري بدلا من أن يتقلص. وأوضحت عدة دراسات أن هذه الإجراءات كلفت المستهلكين الأمريكيين عشرات البلايين من الدولارات ولم تغير سياسات الصين.
كما توصلت دراسة أجراها مؤخرا معهد بيترسون للاقتصاد الدولي الى أن الرسوم الجمركية الجديدة التي جاء بها ترامب من شأنها أن تكلف المستهلكين في الولايات المتحدة 500 بليون دولار سنويا أو حوالي 1700 دولارا للأسرة الواحدة من الطبقة الوسطى في كل عام. بكلمات أخرى يمكنها إضرام نار التضخم.
يعتقد ترامب "وهذه قناعة ايدولوجية بالنسبة له" أن الحقائق والأدلة لا يمكن أن تفعل شيئا يذكر لصرف المرء عن فعل شيء يريد أن يفعله. فهو يصرُّ مثلا على القول بأن رسومه الجمركية لا يدفعها الأمريكيون ولكن الصين والبلدان الأخرى.
من المفيد الإشارة الى أنه إذا كانت تلك هي الحال، بمعنى إذا كان ترامب مصيبا، لكان قيام الثورة الأمريكية خطأ كبيرا. (الثورة الأمريكية أو حرب استقلال المستعمرات الأمريكية عن التاج البريطاني في الفترة 1775-1783 بدأت بتمرد مستوطني 13 مستعمرة أمريكية على الرسوم الجمركية تحت شعار لا ضريبة بدون تمثيل - المترجم.)
استشاط المستوطنون غضبا من الرسوم الجمركية التي فرضها البريطانيون على السلع المستوردة. فإذا علم المستوطنون وقتها أنهم لن يدفعوا تلك الضرائب (في شكل رسوم جمركية) ربما ما كانوا قد ثاروا ضد حكم البريطانيين. لكن لم يكن الأمر كذلك. فحتى في سياق علم الاقتصاد في القرن الثامن عشر كانوا يعلمون أنهم يدفعونها.
هنالك نقطة أكثر عمومية تستوجب الإشارة اليها. فعلت الولايات المتحدة شيئا ثوريا حقا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أدركت أنها بكفالة الاستقرار العالمي ومساعدة البلدان الأخرى على الثراء ستوجد نطاقا للسلم والازدهار يمكن لها أن تزدهر هي فيه أيضا.
تلك الرؤية المستنيرة للمصلحة الذاتية ظلت في قلب ارتباط أمريكا بالعالم لحوالي ثمانية عقود تقريبا. ترامب وجيه دي فانس (الذي اختاره ترامب نائبا له) يرفضانها تماما ويختاران بدلا عنها رؤية سوداء وضَيِّقة وأنانية تدير ظهرها لواحدة من أعظم انجازات أمريكا وأكثرها استدامة.
•فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشؤون الخارجية على شبكة سي إن ان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة الرسوم الجمرکیة
إقرأ أيضاً:
ترامب يعلن موافقة الولايات المتحدة على بيع معالجات H200 من إنفيديا للصين
أثار إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عبر منصة "تروث سوشيال"، بشأن السماح لشركة إنفيديا ببيع معالجاتها من طراز H200 إلى الصين، جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية والتكنولوجية والاقتصادية.
وأكد ترامب أن القرار يمنح الصين إمكانية شراء ثاني أفضل معالجات الشركة، بدلاً من طراز H20 المعتمد مسبقًا بموجب العقوبات الأمريكية والذي رفضت الصين شراؤه سابقًا، مشيرًا إلى أنه أبلغ الرئيس الصيني شي جين بينغ بالقرار، وأن الأخير "استجاب له بشكل إيجابي".
وقد أكدت وزارة التجارة الأمريكية أن الصفقة ستتضمن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على هذه المبيعات، وهي نسبة أعلى من الـ15% المقترحة سابقًا في أغسطس الماضي.
وأوضحت الوزارة أن هذه الخطوة ستطبق أيضًا على شركات أمريكية أخرى مثل AMD وIntel، مع التشديد على حماية الأمن القومي الأمريكي، مما يعني أن أحدث شرائح Blackwell وRubin لن تكون جزءًا من هذه الصفقة.
ويأتي القرار وسط قلق الإدارة الأمريكية من احتمال فقدان شركاتها التكنولوجية فرصتها في السوق الصينية إذا استُبعدت بالكامل، بحسب ما نقلت وكالة رويترز، ومن جانبها، قالت NVIDIA في بيان رسمي: "إن طرح معالج H200 للعملاء التجاريين المعتمدين، بعد تدقيق وزارة التجارة، يُحقق توازنًا مدروسًا ومفيدًا لأمريكا".
لكن هذا القرار لم يخلُ من الجدل، فقد وصفه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين بأنه "فشل اقتصادي وأمني وطني هائل" قد يعزز الصناعة والقدرات العسكرية الصينية، بينما حذر النائب الجمهوري جون مولينار بأن على شركة إنفيديا أن لا تتوهم بأن الصين ستقتصر على الشراء فقط، بل قد تسعى لتقليد التقنيات الأمريكية وإنتاجها بكميات كبيرة، مستهدفين القضاء على المنافسة الأمريكية.
وتشير التقارير السابقة إلى أن قيود تصدير معالجات Blackwell B200 لم تمنع وصول كميات كبيرة منها، إضافة إلى شرائح H100 وH200، إلى السوق الصينية عبر السوق السوداء، بما قيمته مليار دولار تقريبًا.
وتعتبر هذه الشرائح متفوقة جدًا على H20، إذ صرحت NVIDIA أن B200 أسرع بعشر مرات تقريبًا من H200 في بعض الوظائف، بينما H200 أسرع بست مرات من H20، ما يعكس الفجوة التقنية الكبيرة بين المنتجات الأمريكية وتكنولوجيا السوق الصينية.
ومع ذلك، لا تعني موافقة واشنطن بالضرورة أن الصين ستشتري الشرائح. فبكين سبق وأن طلبت من شركاتها الحد من استخدام التكنولوجيا الأمريكية، وتتصدر هواوي المشهد في تطوير رقائقها الخاصة، إذ أعلنت مؤخرًا عن خطة ثلاثية السنوات لمواكبة أداء شرائح NVIDIA وAMD.
ومع ذلك، يؤكد خبراء مثل ريتشارد وندسور أن تقنيات NVIDIA لا تزال متقدمة بشكل كبير مقارنة بما يمكن أن تنتجه هواوي أو الشركات الصينية الأخرى في الوقت الحالي.
ويشير المحللون إلى أن الصفقة تمثل موازنة دقيقة بين المصالح الاقتصادية والأمنية، حيث تحاول الإدارة الأمريكية السماح للشركات بالاستفادة من السوق الصينية الكبيرة، مع الحفاظ على التفوق التقني ومنع وصول أحدث الشرائح المتقدمة إلى المنافسين المحتملين.
ومع فرض الرسوم الجمركية البالغة 25%، تأمل واشنطن في تحقيق توازن بين المكاسب المالية والأمن القومي، بينما يراقب الكونغرس والقطاع التكنولوجي عن كثب تأثير هذه الخطوة على المنافسة الأمريكية والصين.
تظل الشهور المقبلة حاسمة لتحديد ما إذا كانت الصين ستوافق على شراء H200، ومدى تأثير ذلك على مستقبل صناعة الذكاء الاصطناعي ومعالجات البيانات المتقدمة عالميًا، في ظل المنافسة المستمرة بين الولايات المتحدة والصين على قيادة قطاع التكنولوجيا المتطورة.