الروائية المغربية لطيفة غيلان تكتب: تأملات فى رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
لُعبة ساحرة تشُدُّنى لهذه الرّواية الناعمة، هل هى رائحة الخبز الفائحة من الفرن؟، من منا لم يُسكره عبق العجين المخمَّر المسترخى على أرضية ملتهبةٍ، تتسرب أنغام الدفء لتجويفاته، ينهض من خمْرته، يداعب نايه ويرقص مشكِّلًا نسيجًا مطرّزًا بفراغات متعانقة، ثم يحتدُّ الرقص فينفلت البخور من تعرُّق ثناياه المترنحة فى حضن اللهيب، تحمر وجنتاه الملتهبتان حتى ينضج ويُصبح بلون بشرة صبيةٍ عاشقة.
أخبار متعلقة
الناقد المغربي مصطفى الشاوي يكتب: أسرار الحكى فى «قفطان الملف» للروائية المغربية لـ«لطيفة غيلان»
«خبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب محمد النعّاس تتوج بجائزة البوكر للرواية العربية
سنرحل ذكورا وإناثا مع السارد الطيب الوديع إلى عوالم المخبز وعجائبه، سنستفيق من غفوتنا مذهولين ونقف على أقدامنا فوق أرضيته الصلبة الملتهبة، نُصاب بالحمى واللّهفة لتذوُّق حكايات الرغيف والخباز وكشف أسرارها ومكنوناتها.
غلاف الكتاب
«عيلة وخالها ميلاد» مقولة يستَهِل بها الكاتب روايته، يمثل مضمونها إعلانا وكشفا عن حيَله لتحديد نواة الرواية. هى مقولة شعبية منتشرة بين الليبيين، يعيِّرون بها الرجل الذى لا يملك سلطة على النساء اللائى يتبعنه، وهو أيضا يقدح فى أخلاق النساء أنفسهن. ليس اعتباطًا أن يسمى البطل بالاسم الوارد فى المقولة «ميلاد» إلى أن تتَّقد الفكرة وتستبد بخياله وتصبح المقولة مخبوزة بالعجين وعنوانا للرواية. هل عيلة هى زينب زوجة ميلاد الخباز؟، سنفتح مخبز عجائبه ونتلصَّص على عجينه لنعرف كيف أصبح رغيفا ثم رواية.
البحث عن خيط يعزِّز ثقته بنفسه رجلًا وخبازًا هو المحرك لأحداث الرواية، إنها رحلة معاناة لا تختلف كثيرا عن رحلةِ برىء محكوم عليه بالمؤبد والأشغال الشاقة، فالحكم قاسٍ والحاكمُ لا يرحم.
ميلاد رجل جميل وطيب، يكنس ويغسل الملابس والأوانى، يطبخ ويعجن ويصنع الخبز الشّهى والكعك اللذيذ، يعتنى بحديقته ويدلّل زوجتَه زينب الجميلة، يُعدّ لها فطورا شهيّا ويكوى ملابسها، ثم يصحبها للعمل بعربته، ويكون بانتظارها قبل خروجها من العمل.. لم يكن مهتمّا بوظيفته فقلما يذهب إلى مقر عمله ليطمئن فقط على استمرار تحويل مرتبه حاله فى ذلك مثل حال ابن عمه العبسى وكثير من الليبيين فى سنِّ العمل.. لما راجع ميلاد صفحات طفولته، بدا طفلا وديعا متأمِّلا وعاشقا لأشياء جميلة ذات طعم وسحر ومعنى، تستهويه الحياة بين نساء البيت: أمه وأخواته الأربع، إذ ينظف المنزل ويرتبه، يطبخ الأكل اللذيذ، يشرب الشاى بكعك السِّمسم فى الحديقة عصرا ويستمع لحكاياتهن ونكتهن، كما يعتنى بهندامهن ويلعب معهن. لقد كانت فعلا حياة لذيذة وبسيطة معطرة بروائح الطبخ وعطر الزهور والحناء والحكايات الحالمة، عاشها ميلاد بينهن بتلقائية وحب. كان لطيفا وناضجا منذ صباه يذهب إلى المدرسة دون إثارة شغب ويعود إلى فرن أبيه ليكنسه ويساعده فى حمل أكياس الدقيق. بلغ ميلاد ست عشرة سنة فلقَّنه أبوه أسرار صناعة الخبز بلغة فنية، وأحبَّ العجين والمخبز وأباه، ومن يومها تشكلت حياته وسعادته من هذا الخليط الرائع، وقام بمغامراته الأولى فى الشغل والحب بالكوشة.. سلوك ميلاد كما سرده مفصلا بشوق وإصرار هل يعكس نقصا فسيولوجيا فى رجولته؟. وعشقه للبخور والحناء واهتمامه بحديقته وإعداد غذائه وتنظيف منزله وترتيبه هل يصنفه ضرورة فى خانة المِثْليين ويُفقده رجولته؟، فى الدول الغربية ليس عيبا بتاتا أن يقوم الرجل بهذه الأشغال، بل أكثر من هذا أن بعض القوانين تخوّل له الحق فى الحصول على عطلة استثنائية للاعتناء بصغيره فى شهوره الأولى، والاستمتاع بتعويضٍ مادى خلال عطلة الحضانة.
عاش ميلاد وزينب قصة حب جميلة، التقيا فى الحدائق، هاما معا بشوارع المدينة، تبادلا القبل، وهَمَسا لبعضهما بكلام عذب، ثم التحم جسداهما على طاولة الشغل بمخبز مشغله بعد أن طرده عمُّه من كوشة أبيه المتوفى. لكن زينب استدرجته يوما إلى شقة عمها الفنان، وهناك أوحى للقارئ بأنه فض بكارتَها دون أن تسيل قطرة دم واحدة. حين سألها عن ذلك أجابته بقولها: «ليس كل بكارة تنزف دما».
زينب حبيبة ميلاد، متعلمة حصلت على دبلوم جامعى، جميلة ولطيفة، لكنها تُحب نفسها أكثر من أى شىء آخر، «تستيقظ وتتصرَّف وكأن اليوم قد انتهى»، تسرع فى الاستحمام قبل أن تتناول الفطور الشهى- الذى يستقبلها به ميلادـ بلامبالاة وبدون لذة، ولا تعرف أن شيئًا من الجمال يكمن فى البطء والأخذ بجدية أقل. هل كانت منذ فتح جفنيها تود الفرار من المنزل ومن ميلاد؟، هل كانت متحرِّرة لأنها متعلمة وتشتغل وتدخن وتعشق السفر والسباحة وارتداء اللباس القصير وتذوق الخمر وإهمال منزلها وتركه فريسة للفوضى؟، هل تأثَّرت بعمها الفنان والمتمرِّد الذى كانت تملك مفتاح شقته؟، عمُّها قبل وفاته لم تكن له شريكة تحبه وتعتنى به، توفّى المسكين بين قنانى الويسكى وتحلَّلت جثته قبل دفنها. هل تمكَّنت زينب من قلب الأدوار مغتنمة فرصة عطلة ميلاد؟، باختصار تقليد سلوك الرجال لا يمكن أن نسميه تحرّرا، الإنسان الليبى رغم وفرة عائدات البترول، فى عهد القذافى، كان يصعب عليه التحرّر فى ظل نظام دكتاتورى متحكم يُنزِّل على المحكومين قوانينه وقراراتِه ويتلصَّص على دورة دمائهم وخفقان أفئدتهم.
حكايةُ ميلاد فضْحٌ وطعنٌ فى الرجولة المزيَّفة والبشعة: ضرب الرجال لزوجاتهم واغتصابُهنّ بعد تعنيفهن، اقتراف زِنا المحارم، تغيُّبهم عن عائلاتهم بدون مبرر، وفشلهم فى تربية أطفالهم بالاقتراب منهم مكتفين بالصراخ والعصا. يحتار ميلاد وهو يسمع للأغانى التى يعشقها الرجال، شوق ولوعة وحب جارف للحبيب حتى تخالهم ألطف مخلوقات الكون، ولكن العنف هو الأصل فى سلوكهم تجاه نسائهم. أبوه لم يجلس يوما مع أمه فى نفس السُّفرة رغم عشقه لأم كلثوم.. هل يعيش الرجل الليبى بنفسية مزدوجة، تستهويه الأغانى الرومانسية لأنها تعبر عن حلم منفلت ورغبة مغدورة، من جانب، ثم يشوّه المجتمع هويته من جانب آخر، ويصنع منه كائنا تستهويه الفظائع؟، العبسى ابن عم ميلاد، أخذ على عاتقه تلقينه قيم الرّجولة، هو شخص كسول عصبى، عنيف وانتهازى، يقضى يومه فى برَّاكة بناها وجهزها ميلاد بيديه، يصنع البوخة ليسكر بها، يدخن الحشيش، يستضيف العاهرات ويصنع من نفسه فارسا وهو يحكى عن بطولاته، متلذذا بتدخين سجائر ابن عمه ميلاد، أو يفتح ملفات الآخرين ويسوطهم نميمة وسخرية، بمن فيهم أبوه وميلاد الذى يطبخ له الأكل اللذيذ.. استمرت رحلة البحث عن الرجولة بعد وفاة والد ميلاد الذى كان يلح عليه لدخول العسكرية ليكتسب شيئا من خشونة الرجال بعدما لمس فى سلوكه نعومة وميولا لعالم النساء. يقول المجتمع: تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة». سنرى كيف تعاش هذه المقولة. يحكى ميلاد بلسانه عن المعسكر: تسلقت الجبال، وجريت مسافات لم أفكر يوما فى قطْعها مشياً، ذبحت الأرانب بيدى ومزَّقت جلودها بأظافرى.. أدَّبنى المادونا (مسؤول عسكرى) مرّات عديدة، وصرت معروفا بميلاد عجين.. رأيت فى المادونا الرجل الوحشى ورأى فىَّ النقيض. لكنه فشل فى أن يجعل منى بندقية يوجهها حيث شاء.
تجربة البطل فى المعسكر معاناة وظلم وهدْر للكرامة ودوْس على الرّجولة، سيتعثَّر يوما وهو يجرى، سيسقط أرضا، وبأمر من المادونا الجلاد تدوس عليه أقدام خمسين متدرِّبا. تُعفيه خبرة طبية من الاستمرار فى التدريبات العسكرية غير أن المادونا كان له بالمرصاد ولم يسمح بذلك، ولم تنفعه إلا محاولته الانتحار للفرار من جحيم الخدمة العسكرية. سيحاول الانتحار مرة أخرى ملْقيا بنفسَه فى البحر وفجأة يتذكّر أنه نسى وراءه عجينه يختمر وعاد راكضا رافضا أن يغادر الدنيا تاركا خبزه للغير وهو يردد: أحب أن أعيش مائة ألف سنة دجاجة ولا أن ألقى بنفسى كالديك من فوق سطح الإسطبل، مدركا أننى لن أطير عاليا إلا بعض دقائق. هذا هو حكم ميلاد على رجولة فى إسطبل ربما يقصد به المجتمع.. ويستحق أب ميلاد كل التقدير وقد علم ابنه ما هو أفضل من الرجولة المشوهة، إذ لقنه من حيث لا يدرى سرا من أسرار الاستمرار فى الحياة: إنه الحب، حب شغل الخباز والشغف به. والحب أينما حل رافقته السعادة والتشبث بالحياة.
منذ الصفحات الأولى من الرواية نلمس حزن ميلاد وتغلغل ثقله فى نفسيته مع تفكيره الدائم فى وضع حد لحياته. أخبره العبسى يوما بسلوك زينب الذى يثير الشبهات، حاول أن يتشبث بالشك فى كل ما يتقوّل به الشرير العبسى. لكن كل الإشارات التى تأتيه من محيطه، من أخواته من أمه من زينب نفسها، من لحظة استيقاظها إلى لحظة نومها، كانت تدعوه إلى أن يحمل على محمل الجد كلام ابن عمه. فاشتدَّت عذاباتُه وآلامُه وحيرتُه. هل يعتبر سلوك زينب سببا وجيها ليَفقد بطلنا الوديع رجولته؟ «الراجل مايعيبه شى»: سَتظهر على بساط الرواية شخصية جميلة تلبس فساتين حريريَّة بألوان زاهية، المدام مريم. هى صديقة زوجته قدَّمتها له يوما ليوصِلها إلى فِيلّتها الراقية بحى الأندلس لأن سيارتها أُصيبت بعطب. مريم مترمِّلة، مُتعلمة وعاشت فى بلد أوروبى مع زوج دبلوماسى سنين طويلة قبل أن تقرِّر العودة إلى الوطن. تُعجب بميلاد، برقَّته وبرغيفه وكعكه وطبخه، ربما كان الإعجاب والاهتمام قد وقعا من خلال ما روته زينب عن زوجها. لذلك تطلب منه إعطاءها دروسا فى إعداد أنواع الخبز بفيلَّتها بالمقابل. كما سيعتنى بحديقتها المهملة ويزرعها حناء وزهورا. استعملت المدام المنبهرة بوداعته واشتغاله وفطنته وذوقه وخبزه اللذيذ حيَلها لإغرائه، لكنه قاوم شهوته. وبعد لقاءات بمنزلها وإدراكه سقوط المدام فى عشقه امتلأ بالجرأة للتجسس على زوجته وباغتتْه مرافقتُها لمديرها الثخين الذى كانت تشتكى منه، إلى شقة عمها وسماعِه من وراء الباب صخب ممارستهما للحب.. عاد لزيارة المدام واستسلم لندائها الجميل ولشهوته الجارفة.. هل أصبح رجلا بعد تجربة التَّصنت وممارسة الحب مع المدام، أم انتقم لنفسه؟، تحسَّس الحزام الجلدى الذى أهداه له العبسى وأوصاه أن يوسع به زينب ضربا كى تستقيم وتقتنع برجولته. وغادر ميلاد وداعته وإنسانيته وحِكمته ولوى حزام العبسى على كفه وانهال على زوجته ضربا قبل أن يُلبى نداءها الوحشى بقتلها.. ها قد لبّى نداء مجتمع ذكورى وأصبح رجلا مفترسا.. معا وصحبة الخبز اللذيذ، سافرنا على مركبَة الزمن، كان النعَّاس قائدًا حالمًا يخترق الأزمنة والمجرات بعذوبة وفن، ونحن نحلق لم يتسرب إلينا خوف أو ملل أو شك أو توجس من أن تلفظنا مركبته أو تحترق بنا وتضيع منا علبتها السوداء فى أعماق المحيطات.
ثقافة الروائية المغربية لطيفة غيلان رواية خبز على طاولة الخال ميلادالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: زي النهاردة شكاوى المواطنين ثقافة زي النهاردة على طاولة
إقرأ أيضاً:
خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»
«إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب: ابتداء الخطاب فعل عسير؛ إنه الخروج من الصمت»
رولان بارت، التحليل النصي
ما أقدمه هنا ليس قراءة شاملة لرواية الروع للكاتب العماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار منشورات ميسكلياني 2025. لست بصدد تتبّع النص من ألفه إلى يائه، ولا أزعم أني أُحيط بجسده كله. بل هي قراءة جزئية، انتقائية، تنطلق من قناعةٍ نقدية أن للمفتتح والنهاية سلطة مزدوجة في الفعل الروائي: سلطة التأسيس وسلطة الإقفال.
لذلك، سأقف عند المفتتح، تلك العتبة التي تُشبه الباب الموارب، وحيث تهمس الرواية بأول أسرارها، وعند الفصل الأخير 22)، التي تشبه ارتداد الضوء الأخير في مشهد الغروب، حيث تكتمل الدائرة، أو تنكسر، لا فرق، فكل نهاية هي ضرب من الانفجار أو الانطفاء.
لقد بدا لي بناءً على تفكيكي للنص، أن هاتين المنطقتين – البدء والانتهاء – هما بيت الحيل السردية، والموضعان اللذان تُخزّن فيهما الرواية مجمل مكرها الأدبي، ومفاتيحها الكلية لفهم بنيتها العميقة.
ولعل هذا التأسيس النقدي يتقاطع مع ما قاله رولان بارت في معرض حديثه عن أهمية الافتتاح، إذ يرى أن «قضية افتتاح الخطاب قضية هامة كشفت عنها البلاغة القديمة والكلاسيكية، فقدمت قواعد غاية في الدقة لابتداء الخطاب، وهي، في رأيي، مرتبطة بالإحساس بوجود حبسة متأصلة في الإنسان، وأن الكلام صعب، وربما ليس هناك ما يُقال: إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب؛ إنه الخروج من الصمت. والحقيقة أنه لا يوجد سبب للابتداء من هنا لا من هناك، لأن القول ببنية لانهائية. فدراسة مفتتحات السرد إذن هامة جداً» رولان بارت، التحليل النصي، ص 36-37
بهذا المعنى، يصبح مفتتح رواية الروع ليس مجرد مدخل تمهيدي، بل لحظة كاشفة عن وعي النص باعتباطية «البدء»، كما يسميه بارت، وقلقه البنيوي من الفراغ الذي يسبق القول.
تُعتبر روايات الكاتب العُماني زهران القاسمي مثل القنّاص، تغريبة القافر، وجوع العسل، والروع، محطات سردية تتقاطع فيها العديد من الثيمات والأسئلة المرتبطة بالهوية، والمكان، والزمان، والصراع الوجودي. يتقاسم البطل في هذه الروايات مجموعة من السمات المتكررة: شخصية أحادية تُساق إلى مواجهة وجودية مع الذات، والتاريخ، والمحيط، ضمن عالم يفتقر إلى البدائل.
تتشابك هذه الأعمال ضمن سرديات تحتفي بالشخصيات القروية المهمّشة، التي تتحرك في فضاءات زمانية ومكانية مشتركة، ما يجعل كل رواية إعادة صياغة لذات الوجود، ضمن تمثيلات سردية متباينة.
وإذا كان نجيب محفوظ قد حوّل الحارة إلى كيان سردي مكتمل، لا بوصفها فضاءً مكانيًا فقط، بل كبنية دلالية قائمة بذاتها، تضج بالحياة، وتحتضن عالمًا إنسانيًا شديد الكثافة والتعقيد، فإن الروع، على نحو موازٍ، تُشيّد القرية لا كخلفية للحدث، بل ككائن حيّ ينبض بالسرد، ويتكلم بلسان الجماعة، ويعكس هشاشة الكائن في مواجهة تحولات الزمن.
القرية في رواية «الروع» ليست «مكانًا» فحسب، بل مجاز سردي، تتلاقى فيه الشظايا الفردية بالتاريخ الجمعي، وينتظم فيه التبئير السردي كمنظورٍ حميميّ، يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض، ويُبرز أثر العنف، لا على الفرد فقط، بل على الجماعة كلها.
الروع تأتي امتدادًا لهذا السياق، حيث يواصل الخطاب الروائي تركيزه على صورة البطل الأحادي في مواجهة وجودية ذات طابع كوني، محكومة بإكراهات المكان والزمن، تكرار لا يُفضي إلى رتابة، بل إلى تعميق المستويات الاجتماعية والنفسية للشخصية.
في رواية الروع، يُقدِّم الخطاب الروائي نصًّا يأتي مفتتحه بلغةٍ صادمة، مشبعة بعنف بصري ومجازي، تستفزّ الإدراك الحسيّ والذهنيّ للقارئ، ثم يختتمها بفصول تفتح أفقًا للتأويل المأساوي المفتوح، مستندًا إلى تشكيل معقّد تتداخل فيه السيميائيات (العلامات البصرية واللغوية)، والبعد النفسي، والأسلوبي، في سياق سردي متوتر وعنيف، تتخلله ظلال من الجنون والأسطورة.
في المشهد الافتتاحي، يُشكّل الخطاب الروائي صورة لجسد مصلوب، ممزق ومبتور، على «روع» الحقل، وهو مشهد ينهض على بنية صُوَرية ذات دلالات توراتية وإسلامية، تعيد تشكيل جسد الضحية في خطاب الشهادة والتضحية واللعنة معًا. الجسد هنا ليس كيانًا فرديًا، بل علامة سردية كبرى تحيل إلى انهيار النظام للعالم. نقرأ: «جثة بلا رأس، بلا كفين أو قدمين، تمثل مصلوبة على روع الحقل».
هذه الجملة الأولى تنهض كبنية افتتاحية مكثفة، يمكن أن نحللها على ضوء ما يسميه رولان بارت بـ«اللحظة الدالة»، حيث يخترق المشهدُ القارئَ باختلاله البنيوي. المفردة الأولى «جثة»، ذات الحمولة الجنائية/ الإجرامية والإيحائية بالنعيم والخلاص، تقابلها البنية البصرية العنيفة للجسد المبتور والمصلوب، وهو ما يخلق مفارقة دلالية تعمل كسيمياء سلبية للجثة، أي جثة الموت واللعنة، لا النعيم. الجثة إذًا جسدٌ يُستخدم بوصفه علامة للخراب، لا النجاة.
ينتقل الراوي بعد ذلك إلى وصف رد الفعل الجسدي والنفسي للبطل محجان، مستخدمًا استراتيجية أسلوبية تعتمد على التهويم النفسي، وتداخل التخييل مع الواقع، مما يجعل البنية الزمنية متصدعة وغير خطية. تتجسد هذه التقنية في جملة مثل: «اسودت الدنيا في عينيه، وكأن جاثوما يضغط عليه ويُكبّل حركته».
هنا تظهر تقنية التناص النفسي مع أدبيات الكوابيس والتراث الشعبي عن الجاثوم، ويغدو الحدث جزءًا من كابوس غير قابل للتصديق أو الإدراك الحسي الواضح، وهي آلية بنيوية تفكك الحكاية المركزية وتعيد تشكيلها ككابوس سردي دائم.
تُقدَّم شخصية محجان لا بوصفها شاهدة على العنف فحسب، بل باعتبارها متورطة في بنية السرد كمفعول به مستلب. يبدأ بمحاولة تفسير المشهد بوصفه «كذبة»، وهو ما يحيل إلى تفكيك مفهوم «الواقعي المتخيل»، حيث ينهار الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم: «هذا حلم». «سيقوم من مكانه. ثم أغمض عينيه، وحين فتحهما لم يحدث شيء».
هذه اللعبة السردية بين الواقع والهلوسة تشكّل تيمة متكررة في الرواية، كما أنها تقود البنية السردية إلى نوع من اللايقين، الذي يعمّق تأويل الجريمة كفعل غامض، غير متحدد الهوية أو المصدر، مما يضاعف أثره السيميائي.
في الفصول الأخيرة، نلاحظ انتقالًا من الكثافة والانفعالية إلى الحط من شأن الحدث نفسه بطريقة مأساوية ساخرة. نقرأ «حسيت كأني أنا المصلوب».
بهذه الجملة، ينهي السارد، أو محجان نفسه، كل مسافة بين الجسد المصلوب وجسده، ويقع التماهي التام، وهو ما يعكس التقاطع الزمني بين زمن القصة وزمن الحكاية. الجملة تكرّر على لسان الشخصية في حكاياتها المتكررة، لتصبح لازمة سردية، وكأنها استعاضة عن فعل الفهم أو التفسير. التكرار هنا يحمل وظيفة ميتاسردية، حيث تصبح الحكاية تبريرًا للحكاية، وتتحول إلى نمط ثابت في محاولة عقلنة الكابوس.
لكن هذه المحاولة تنقض نفسها عند الختام، حين يتأكد الخراب في الحقول، و«رتعت فيها الحمير»، ويختلط المشهد الكابوسي بالواقع اليومي للحياة القروية. وتتحول الأرض من حضن للخصب إلى حضن للفوضى «لقد رتعت فيها الحمير وجاست خرابًا ودمارًا في حقول القمح والقت والذرة، وحطمت كروم العنب، وداست أقدامها اليابسة المجففة كل زهرٍ يانع، وكسرت كل غصن طري»
هنا، نصل إلى المفارقة الصادمة، إذ تقابل صورة المصلوب العالي، المهيب، بالحمير العابثة، في مشهد يبدو عبثيًا، لكنه ينطوي على عمق نقدي للبنية المجتمعية وقيمها. يظهر ذلك في تداخل علامات الحياة (القمح، الذرة، العنب) مع فعل التخريب، وتكثيف مفارقة الحياة/الموت.
تتجلى الخاتمة في رواية الروع بوصفها بلوغًا أيقونيا لذروة التوتر الدرامي والتحول النهائي في الشخصية المركزية، محجان، الذي تتصاعد هواجسه ليبلغ لحظة الاندماج الكلي مع الروع، في طقس شعائري يمزج بين الصوفية، والوجودية. هذا التلاحم بين الجسد والتمثال لا يُقرأ إلا بوصفه إعلانًا صريحًا عن فناء الفرد في الكائن الأسطوري الذي صنعه، ودخولًا في طور من التقديس والتطهّر عبر النفي والاحتراق والاختفاء.
يفتتح هذا الفصل بلحظة نصر زائف، إذ يشعر محجان بـ»نشوة عظيمة»، وتبدو هذه النشوة تعبيرًا عن اكتفائه الذاتي بعد القضاء على الأرواع المنافسة. يقول السارد:
«البلاد التي تكثر فيها الأرواع ستتحول إلى مجرد هياكل منصوبة لا روح فيها ولا تخيف أحدًا أبدًا».
يتضح أن محجان يخشى الفراغ الرمزي، لا تعدد الرموز، فيقرر ترسيخ رمز واحد: روعه التي يعتبرها الحقيقية الوحيدة. هذه الفكرة تستبطن نقدًا مبطّنًا لهيمنة الفردانية وسطوة التمركز حول الذات.
يختار محجان أن ينسحب من مجتمع القرية ويغتسل، في مشهد طقوسي مهيب. ينزل إلى الحوض ويطفو على الماء، وكأننا أمام طقس عماد مقلوب، لا لتطهير الخطيئة بل لتأكيدها. يقول السرد:
«استلقى على صفحة الماء مسترخيا، مد يديه مثل طائر حر يحلق في الأعالي، وغرق في تأمل انتصاراته التي أحرزها».
هنا تتقاطع عناصر رمزية متشابكة: الماء، التحليق، الصمت، التأمل، وكلها تنتمي إلى سياقات التطهير، لكنها تقود إلى لحظة تشييد «الذات الجديدة» التي لا تجد تمام تحققها إلا بالذوبان في الجسد الآخر، جسد الروع.
الاندماج الجسدي مع الروع يتخذ صورة صوفية بامتياز، لكنه لا يُقرأ في سياق عشق إلهي، بل كتحقق لكائن ظلّ يتشكل طوال الرواية. فعل «الصَلب» على جسد الروع يخلط بين الأيقونية الدينية (الصلب المسيحي) وبين الطقس الصوفي الحلاجي، لكنه هنا يقلب دلالاته المعتادة. يصف النص:
«التحم بها، ووضع ساعديه على ساعديها، وصالبا نفسه على جسدها».
بهذا الفعل تتحول الروع من مجرد تمثال رمزي إلى كائن حي، حارس للجثة التي نحتها محجان بنفسه.
القرية، وهي الكيان الجمعي الذي طالما ناصبه محجان العداء الرمزي، تُترك في حالة من الهلع والضياع السردي.
«فرّوا هاربين وأطلقوا أرواحهم تسابقهم من شدة الخوف».
لتتشظى الحقيقة وتصبح الحكاية شلالًا من التأويلات:
«انهمر مطر الحكايات حتى أصبح جداول وشلالات بلا عدد».
وهنا تبرز استراتيجية روائية بارعة تعيدنا إلى بنية «المغايبة» في الحكاية الشعبية العمانية: البطل الغامض، الاختفاء، تعدد الروايات، وشيوع الخوف في الغياب، لا في الحضور.
يكتمل الانسحاب الاجتماعي برحيل الزوجة إلى الجبل، في لحظة شعورية مضطربة، لكنها حاسمة؛ «خرجت في الظلمة القائمة متسللة من القرية نحو الجبال واختفت».
هذا الاختفاء الأنثوي الموازي لاختفاء محجان يعيد تأكيد القطيعة النهائية مع المجتمع القروي الذي فشل في فهم أبطاله، أو في احتوائهم.
التحول الأخير لمحجان إلى تمثال حيّ، إلى «روع» قائمة وسط الحقول، يمنح الرواية نهايتها المفتوحة: اختفاء البطل، ذوبانه في كيان رمزي، تحوله إلى حكاية شعبية، كل ذلك يجعل من الخاتمة إعادة إنتاج لبنية الرواية كلها، إذ يتمدد الخيال الشعبي ويصير واقعة، وتتقاطع الأصوات لتؤسس أسطورة تتردد في فضاء ملبد بالدخان والحيرة، حيث لا حقيقة واحدة بل تأويلات مفتوحة.
ختام الرواية لا يُغلق القوس السردي، بل يفتحه على مصراعيه، ويعيد تشكيل العالم وفق منطق الأسطورة لا العقل، وفق الخوف لا الفهم. في هذا الانفتاح على الغرائبي والمجهول، تحتفل الرواية بالروحي الشعبي كمنقذ من سطوة الواقعي، وكمأوى للهاربين من اليقين.
تتجلى تمظهرات البنية الشفوية في الخطاب الروائي لدى زهران القاسمي في نصه (الروع)، من خلال توظيفه لقوانين الحكاية الشعبية كما صاغها العالم الدنماركي (أكسل أولريك، الحكاية الخرافية، ص 149-168)، ويتضح ذلك عبر تتبع البنية السردية للنص/ الرواية، وبرغم انتمائها إلى السرد الواقعي النفسي، تتكئ على بنى تقليدية مستمدة من الحكاية الشفوية، مما يعكس وعيًا عميقًا بالتراث السردي الشعبي. يقدم النص قراءة تفصيلية لعناصر الرواية في ضوء القوانين الثمانية التي وضعها أولريك، من أجل إبراز التلاقح بين السرد الحداثي والإرث الحكائي التقليدي.
تتمركز الرواية حول شخصية «محجان»، وهو رجل هامشي في مجتمعه القروي، يعاني من العزلة والخوف ويجسد نموذج البطل المقهور والمهمّش. هذا التمركز الكامل حول شخصية واحدة يُطابق ما أشار إليه أولريك في قانون «البطل الواحد»، حيث تنبني الحكاية على شخصية محورية تُشكّل عمودها الفقري. تبدأ الرواية بمشهد غريب ومفاجئ: صراخ محجان صباحًا، مما يُهيئ القارئ للدخول في عالم غرائبي ومضطرب، وتنتهي بفعل درامي حاسم يتمثل في إحراق الحقول. هاتان النقطتان تشكّلان بداية ونهاية مغلقتين، وفق ما يسميه أولريك «الإطار الثابت»، وهو ما يمنح النص قوة سردية تشبه الطقوس الحكائية التي تُروى شفويًا.
التكرار يظهر بصورة لافتة في الرواية، سواء على مستوى المضمون أو اللغة، إذ تتكرر مظاهر التهميش والسخرية التي يتلقاها محجان من أهل قريته، كما تتكرر مشاهد خوفه وصراخه وانكفائه على ذاته. هذا التكرار لا يخدم فقط الجانب التقريري، بل يعمّق الإيقاع ويُشيد نسقًا دائريًا يجعل المتلقي يُشارك في خلق الإيقاع. من جهة أخرى، فإن البنية الصراعية في الرواية تقوم على مبدأ التضاد؛ إذ يتقابل محجان مع الجماعة، الصمت مع الضجيج، الهامش مع المركز، والعجز مع الانفجار. هذا التضاد هو أحد القوانين البنيوية التي لاحظها أولريك في السرد الشعبي، حيث يُبنى التوتر الدرامي عبر الثنائيات المتقابلة.
السرد في الروع يتسم بالبساطة والوضوح، فلا نجد تعقيدًا في بنية الزمن، ولا تنقّلًا بين وجهات نظر متعددة، بل يمتدّ السرد في خط واحد واضح، مع التركيز على فعل مركزي تتكثف حوله الأحداث، ما يُقارب الحكاية الشفوية في بنيتها السردية. هذه الخطية لا تعني الفقر الدرامي، بل تُعزز من قدرة السرد على ترسيخ الفعل المأساوي في وعي القارئ. من أبرز ما يميز الرواية أيضًا نهايتها الحاسمة، إذ يتحول محجان من شخصية مسالمة ومنكفئة إلى فاعل مدمر، حيث يقوم بإحراق الحقول، في فعل يبدو انتقاميًا ولكنه يعكس تراكمًا داخليًا طويلًا من القهر والخوف. هذه النهاية تمثّل ما يُسميه أولريك «التحول الحاسم»، حيث يُغلق النص بفعل يحرّر التوتر المتراكم.
رغم أن الفعل الأخير (الحرق) قد يبدو غير عقلاني ظاهريًا، فإن تطور الحبكة، والبناء النفسي للشخصية، يبرران هذا التحول ضمن منطق داخلي متماسك، وهو ما يُشير إليه أولريك في «قانون المنطق الداخلي»، حيث لا يُحاكم الفعل بمعايير عقلانية خارجية، بل وفق نسق نفسي وسردي داخلي يخلق منطقه الخاص. كذلك، يُلاحظ نوع من التوأمة الرمزية في شخصية محجان، فهو يبدو في ظاهره رجلاً وديعًا، خائفًا، ضعيف الحيلة، لكنه في باطنه يحمل كائنًا ناقمًا وغاضبًا ومشحونًا بطاقة مدمرة. هذه الثنائية تُعيدنا إلى ما يسميه أولريك «قانون التوأمة»، حيث يظهر البطل في صورتين متقابلتين، يختبئ أحدهما خلف الآخر إلى أن يقع التحول السردي.
إن رواية الروع، رغم حداثة شكلها، تظل على صلة عميقة بالبنية الشفوية التي تُشكّل أساس السرد الشعبي العربي، بل والعالمي، كما درسها أولريك. وهذا التواشج بين الحداثي والشعبي لا يأتي في الرواية عرضًا أو تزيينًا، بل هو جوهرها البنيوي والدرامي. ومن خلال هذا المنظور، يتضح أن زهران القاسمي يُعيد، بشكل غير مباشر، إنتاج الذاكرة الجماعية في بنية حكائية حديثة، ما يجعل روايته نصًا مفتوحًا على التحليل من داخل علم الفولكلور. فـ الروع ليست فقط قصة رجل هامشي انفجر في وجه مجتمعه، بل هي إعادة سرد لقصة الإنسان حين يصبح ضحيةً للخوف المتراكم. وبذلك، تُقدّم الرواية مثالًا حيًا على إمكانية تلاقح الرواية الحديثة مع الإرث الشفوي التقليدي، مما يمنح السرد العربي المعاصر بُعدًا هوياتيًا مزدوجًا: ينتمي للماضي ويتكئ على الحاضر، ويتجاوز الثنائية المعتادة بين الحداثة والتراث.
‐-----------------------------------------------
المراجع:
- رواية الروع، زهران القاسمي، دار ميسكلياني، تونس، 2025
- نظريات السرد الشعبي، عبد الحميد أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004
- الحكاية الخرافية، فردريش فون، ديرلاين، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2016
- التحليل النصي، رولان بارت، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، 2000