لعل ما يطرح السؤال عن هل أكل السمك يوم السبت حرام ؟، هو قصة أصحاب السبت والتي لاتزال من أهم الأسرار المخيفة التي قد لا يعرفها الكثيرون، حيث تسبب السمك في مسخ أصحاب السبت قردة، لمخالفتهم أمر الله سبحانه وتعالى والذي حرمه عليهم، لذا فإنه تجنبًا لأصحاب السبت أو الاقتداء بهم، وللنجاة من مصيرهم ينبغي الوقوف على حقيقة هل أكل السمك يوم السبت حرام؟.

هل الصلاة وقت الشروق حرام؟.. وقت كراهة نهى عنه النبي عدا 6 ركعات هل صبغ الشعر باللون الأسود حرام للرجال والنساء؟.. احذره في هذه الحالة هل أكل السمك يوم السبت حرام

ورد عن حقيقة هل أكل السمك يوم السبت  حرام ؟، أنه يجوز أكل السمك في كل يوم و لكن نقل الكراهة في الاكثار منه ، وما ذكر بالسؤال لم نعثر على رواية صحيحة تؤكده، وإنما حرم الصيد يوم السبت على بني إسرائيل قبلنا، ولم يرد في شرعنا نهي عن صيد السمك في أي يوم، ومن ثم فلا إشكال في أكل السمك يوم السبت .

حكم أكل السمك يوم السبت

يَحِلُّ أكْلُ السَّمكِ إذا شُوِيَ حَيًّا، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ ؛ وذلك لأنَّ عَيْشَه بعد خُروجِه مِنَ الماءِ عَيشُ المَذبوحِ؛ فحَلَّ ذلك، ويُباحُ أكْلُ جميعِ حيوانِ البحرِ الَّذي لا يعيشُ إلَّا فيه، وهو مذهبُ الجمهورِ: المالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ- في أصحِّ الأوجُهِ-، والحنابلةِ، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلفِ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك.

الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ الكتاب
1 - قولُه: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام: 145] ، وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ حيواناتِ البحرِ دَخلَتْ تحتَ ما سِوَى المذكورِ في هذه الآيةِ ممَّا أَحَلَّ اللهُ
2 - قولُه تبارك وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: 96] ، وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اسمَ الصَّيدِ يَقَع على ما سِوَى السَّمكِ مِن حَيوانِ البحرِ؛ فيَقتَضي أنْ يَكونَ الكلُّ حلالًا.

ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: سَأل رَجُلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّا نَركَبُ البحرَ، ونَحمِلُ معنا القليلَ مِنَ الماءِ، فإنْ تَوضَّأْنا به عَطِشْنا، أفنَتَوضَّأُ مِنَ البحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتتُه  ))
وجهُ الدَّلالةِ: أنَّه وَصَف مَيْتةَ البحرِ بالحِلِّ مِن غيرِ فصْلٍ بيْن السَّمكِ وغيرِه، وقد تَقرَّر في الأصولِ أنَّ المُفرَدَ إذا أُضيفِ إلى معرفةٍ كان مِن صِيَغِ العُمومِ؛ فقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَيْتَتُه)) يَعُمُّ بظاهِرِه كلَّ مَيْتةٍ ممَّا في البحرِ.

2 - عن جابر رضيَ اللهُ عنه، قال: (غَزَوْنا جيشَ الخَبَطِ، وأُمِّرَ أبو عُبَيدةَ، فجُعْنا جوعًا شديدًا، فأَلْقى البحرُ حُوتًا مَيِّتًا لم يُرَ مِثلُه، يُقالُ له العَنْبرُ، فأكَلْنا منه نِصفَ شهرٍ، فأخذ أبو عُبَيدةَ عَظْمًا مِن عِظامِه، فمَرَّ الرَّاكِبُ تحتَه... فأخبَرَني أبو الزُّبَيرِ، أنَّه سمِع جابرًا يقولُ: قال أبو عُبَيدَةَ: كُلوا. فلمَّا قدِمْنا المدينةَ ذكَرْنا ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كُلوا رِزقًا أخرَجه اللهُ، أَطعِمونا إنْ كان معَكم. فأتاه بعضُهم بعُضوٍ فأَكَله  )
وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ هذا يَدُلُّ على أنَّ دَوابَّ البحرِ كلَّها حلالٌ، مِنَ السَّمكِ وغيرِه.

3- عن زَيدِ بنِ أَسلَمَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رضي الله عنهما، أنَّه قال: (أُحِلَّتْ لنا مَيْتتان ودَمانِ: الجَرادُ والحِيتانُ، والكَبِدُ والطِّحالُ ).

رابعًا: أنَّ الأصلَ حِلُّ كلِّ حَيوانٍ بحْريٍّ إلَّا ما أَخرَجه الدَّليلُ مِن هذا الأصلِ ومِن عُمومِ الأدلَّةِ، أو كان مُستخبَثًا.

قصة سمك أصحاب السبت بالقرآن 

قال الله تعالى في سورة الأعراف ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166).

وجاء في معنى الآيات ، أن حَاضِرَةَ الْبَحْرِ: أي قريبةً مِن شاطِئِه، وأصلُ (حضر) إيرادُ الشَّيءِ، ووُرودُه ومُشاهَدَتُه  ، ويَعْدُونَ: أي: يتعَدَّون ويُجاوِزونَ ما أُمِروا به، أو يظلمونَ؛ يقال: عَدَوْتُ على فلانٍ: إذا ظَلمْتَه، والاعتِداءُ: مُجاوزةُ الحقِّ  ، وحِيتَانُهُمْ: الحوتُ: السمكُ، وقيل: العَظيمُ مِنه، وهو مُضطرِبٌ أبدًا غيرُ مُستقِرٍّ، ويقال: حاوَتَني فلانٌ، أي: راوَغَني مُراوغةَ الحُوتِ، وأصله: مِن الاضطرابِ والرَّوغانِ  ، شُرَّعًا: أي: ظاهرةً، واحِدُها شارعٌ، وأصلُ (شرع): شيءٌ يُفتَح في امتدادٍ يكونُ فيه  .

وورد في معنى قوله لا يَسْبِتُونَ: أي: لا يَفعَلونَ سَبتَهم، أو لا يَدَعونَ العَملَ في السَّبتِ، وقيل: معناه: لا يقطعونَ العَمَل، وقيل: لا يكونونَ في السَّبتِ، وأصلُ السَّبتِ: القَطعُ ، نَبْلُوهُمْ: أي: نَختبرُهم ونمتَحِنُهم  . يَفْسُقُونَ: أي: يَخرُجونَ عَن الطَّاعةِ، وذلك مِن قولِهم: فسَقَ الرُّطَبُ، إذا خرجَ عَن قِشرِه، والفُسوق: خروجٌ مِن الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ من الإيمانِ إلى الكُفرِ ، تَعِظُونَ: أي: تَنْهونَ وتَزجُرونَ  ، مَعْذِرَةً: أي: لِنُعذَرَ فيهم، والعُذْرُ: تحرِّي الإنسانِ ما يمحو به ذنوبَه؛ فهو مَصدَرُ (عَذَرْت)، كأنَّه قيل: أطلُبُ منه أن يَعذِرَنِي  .بَئِيسٍ: أي: شَدِيدٍ، والبُؤْسُ والبَأْسُ والبَأْسَاءُ: الشدَّةُ والمَكروهُ، إلَّا أنَّ البُؤسَ في الفَقرِ والحَربِ أكثَرُ، والبأسُ والبأساءُ في النِّكايةِ، وأصلُ الكَلِمةِ مِن الشِّدَّة  .

أما معنى عَتَوْا: أي: تكبَّروا وتجبَّروا، والعُتُوُّ: النبُوُّ عن الطَّاعةِ، وأَصلُه يدُلُّ على استكبارٍ  .
خَاسِئِينَ: أي: صاغِرينَ ذليلينَ، أو باعِدينَ ومُبعَدينَ أيضًا، والخسوءُ: الصَّغارُ والطَّردُ، ويقال: خَسَأْتُ الكَلبَ فَخَسَأَ، أي: زَجَرتُه مستهينًا به فانزجَرَ  .

 وجاء المعنى الإجمالي أنه يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَ اليَهودَ الذين بحَضرتِه، عن القريةِ التي على شاطئِ البَحرِ، وأن يستفسِرَهم عن اعتداءِ أهلِها يومَ السَّبتِ، ومُخالَفَتِهم لأمرِ اللهِ؛ بتعظيمِ ذلك اليومِ، والانقطاعِ للعبادةِ، وتركِ الاصطيادِ فيه، حين كانت تأتيهم الحيتانُ يومَ السَّبتِ كثيرةً ظاهرةً ومُقبلةً، وفي بقيَّةِ الأيَّامِ غَير السَّبتِ لا تأتيهم، كذلك يختبِرُهم اللهُ بما كانوا يفسُقونَ.

واذكر- يا محمَّدُ- حين قالت جماعةٌ مِن أهلِ تلك القريةِ لِمَن كان يعِظُ المُعتدينَ منهم: لمَ تنهَونَ المُستحِلِّينَ للصَّيدِ يومَ السَّبتِ، واللهُ تعالى مُهلِكُهم، أو مُعذِّبُهم عذابًا شديدًا، فأجابوهم: نفعلُ ذلك مَعذِرةً إلى رَبِّكم فيما أخَذ علينا مِن الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهي عن المُنكَر، ولعلَّ هؤلاء المُعتدينَ يتَّقونَ اللهَ، ويجتنبونَ المعصيةَ، فلمَّا تَرَك المعتدونَ ما ذُكِّروا به، ولم يَقبَلوا نصيحةَ الواعظينَ؛ أنجى اللهُ الذين ينهونَ عَن المعصيةِ، وأخذَ الذينَ ظَلَموا أنفسَهم بمعصِيَتِهم لله، بعذابٍ شديدٍ نتيجةَ فِسقِهم.

فلمَّا تَمَرَّدوا وتجاوَزوا ما نُهوا عنه، وتمادَوْا في صَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ، قال اللهُ لهم: صِيرُوا قردةً حَقيرينَ، مَطرودينَ مِن الخَيرِ.

 تفسير الآيات 

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ، أي: واسأَلْ- يا محمَّدُ- اليهودَ الذين بحَضرَتِك، عن خَبرِ المدينة التي كانت على شاطئِ البحرِ  .، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي: اسألِ اليَهودَ عن اعتداءِ أهلِ تلك القريةِ في يومِ السَّبتِ، ومُخالَفَتِهم ما أمَرَهم اللهُ به مِن تعظيمِ يومِ السَّبتِ بالانقطاعِ للعِبادةِ، وتَركِ العَمَل، والاصطيادِ فيه  .

كما قال سبحانه: وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء: 154] . وقال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66] . إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: اسْأَلْهم حينَ اعتدى أهلُ تلك القريةِ عندما كانت الأسماكُ الكثيرةُ تَجيءُ إليهم في يَومِ السَّبتِ مُقبلةً ظاهرةً، وكثيرةً على وَجهِ البَحرِ  . وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ أي: وفي سائِرِ الأيَّامِ غير يومِ السَّبتِ لا تأتيهم الحِيتانُ  . كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي: مِثلَ ذلك الابتلاءِ العَظيمِ الذي وصَفْنا؛ نختَبِرُهم؛ بسبَبِ خُروجِهم عن طاعةِ الله  .

وورد عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (لا تَرتَكِبوا ما ارتكَبَت اليهودُ، فتستحِلُّوا محارِمَ اللهِ بأدنى الحِيَل)  . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي: واذكُرْ  - يا مُحمَّدُ- حينَ قالت جماعةٌ مِن أهلِ تلك القَريةِ لِمَن كان يعِظُ المُعتَدينَ منهم: لِماذا تَنهَونَ المُستحِلِّينَ للصَّيدِ في يَومِ السَّبتِ، واللهُ سيُهلِكُهم في الدُّنيا بعذابٍ يستأصِلُهم  ؟! أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا   أي: أو سيعذبهم الله بعذابٍ شديدٍ  .

كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58] . وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الطلاق: 8-10] . وقال عزَّ وجلَّ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 56] . وقال جلَّ جلاله: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 27] .

قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: قال الذين يَنهونَ المُعتَدينَ عن مَعصيةِ اللهِ: نحن نعِظُهم مِن أجلِ أن نُعذَرَ عند اللهِ فيما فَرَضَ علينا مِن الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فلا يؤاخِذنا بالتَّقصيرِ في ذلك  . وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ونَعِظُهم أيضًا رجاءَ أن تُؤَثِّرَ فيهم موعِظَتُنا، فيمتَثِلوا أوامِرَ اللهِ تعالى، ويجتَنِبوا نواهِيَه، فيكفُّوا عن اقترافِ هذا الجُرمِ العَظيمِ، وهو مخالفةُ نَهيِ اللهِ تعالى عن صَيدِ السَّمكِ يَومَ السَّبتِ  . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أي: فلما تَرَك المُعتَدونَ ما أمَرَهم اللهُ تعالى به مِن تَعظيمِ يَومِ السَّبتِ، ولم يَقبَلوا نصيحةَ الواعظينَ  .  أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي: أنجَينَا مِن العَذابِ، الذين كانوا يَنهَونَ المُعتَدينَ عن ارتكابِ السيِّئاتِ، واستحلالِ المُحرَّمات  . وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي: وأخَذْنا الذين ظَلَموا أنفُسَهم بمعصِيةِ الله، بعذابٍ شَديدٍ  .

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .
 بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي: عذَّبناهم بسبَبِ خُروجِهم عن طاعةِ اللهِ  .فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ أي: فلمَّا تَمَرَّدوا وتجاوَزوا ما نُهوا عنه، وتمادَوْا في صَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ  . وقيل: فلمَّا تكَبَّروا عن تَركِ ما نهاهم اللهُ عنه  .
وقال تعالى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 21] . وقال سبحانه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] . وقال عز وجل: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الأعراف: 77] .
قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ أي: فلما تمرَّدوا وتكبَّروا، قُلنا لهم: صِيرُوا قردةً حَقيرينَ، مَطرودينَ مِن الخَيرِ  .

كما قال سبحانَه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66] .وقال تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] . وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .

الفوائد :

1- مَن أطاعَ اللهَ تعالى خفَّفَ اللهُ عنه أحوالَ الدُّنيا والآخرةِ، ومَن عصاه ابتلاه بأنواعِ البَلاءِ والمِحَنِ؛ يُبيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففِسقُهم هو الذي أوجَبَ أن يبتَلِيَهم اللهُ تعالى، وأن تكونَ لهم هذه الِمحنةُ، وإلَّا فلو لم يَفسُقوا، لعافاهم الله، ولَما عَرَّضَهم للبلاءِ والشَّرِّ  . 

2- العقوبةُ إذا نزلَت نجا منها الآمِرونَ بالمعروفِ، والنَّاهونَ عَن المنكَرِ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ  .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ يدلُّ على أنَّ الحِيَلَ في تحليلِ الأمورِ التي حرَّمَها الشَّارِعُ، مُحرَّمةٌ؛ كنِكاح المُحَلِّل، وما أشبَهَه مِن الحِيَلِ  .

4- قولُ اللهِ تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا زاد في تَبكِيتِهم بالإشارةِ إلى المُسارعةِ في الكُفرِ، بالإضافةِ في قَولِه: حِيتَانُهُمْ إيماءً إلى أنَّها مخلوقةٌ لهم، فلو صَبَروا نالوها وهم مُطيعونَ  .

5- قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ جاء فيها بيانُ حِكمَتينِ مِن حِكَمِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَن المُنكَرِ؛ لأنَّ استقراءَ القُرآنِ دَلَّ على أنَّ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، له حِكَمٌ ثلاثٌ، تضمَّنَت هذه الآيةُ مِن تلك الحِكَمِ الثَّلاثِ اثنتينِ، أمَّا الحِكَمُ الثَّلاثُ:

فالأولى منها: أن يُقيمَ الإنسانُ عُذرَه أمامَ رَبِّه، ويَخرُجَ بذلك الأمرِ مِن عُهدةِ التَّقصيرِ في الأمرِ بالمَعروفِ؛ لِئلَّا يدخُلَ في قَولِه: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79]  وهذه الحكمةُ أشاروا لها بِقَولِهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ.

الحكمةُ الثَّانيةُ: هي رَجاءُ انتفاعِ المُذَكَّرِ، كما قال هنا عنهم: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

الحكمةُ الثَّالثةُ مِن حِكَمِ الأمرِ بالمعروفِ التي لم تُذكَرْ في هذه الآيةِ الكريمةِ: هي إقامةُ الحُجَّةِ لله على خَلقِه في أرضِه نيابةً عَن رُسُلِه؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]  فأهلُ العِلمِ يُقيمونَ حُجَّةَ اللهِ على خَلقِه بإقامةِ الحُجَّةِ، والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَن المُنكَرِ، نيابةً عن الرُّسُلِ في ذلك  .

6- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ مَسَخَهم اللَّه إلى صورَةِ الْقِرَدةِ، وهي أشبهُ شيءٍ بالأناسِيِّ في الشَّكْلِ  الظَّاهرِ، وليست بإنسانٍ حقيقَةً، فكذلك أعمالُ هؤلاء وحِيَلُهم لـمَّا كانت مُشابهةً للحقِّ في الظَّاهرِ، وَمُخالِفَةً له في الباطنِ، ولما كان الذَّنبُ الذي فعلُوه صورتُه صورةُ المباحِ، ولكنَّ حقيقتَه غيرُ مباحٍ، كَانَ جَزاؤُهم مِن جنسِ عَملِهم، فمُسِخوا قردةً، لما مسَخوا دينَ الله بحيثُ لم يتمسَّكوا إلا بما يشبهُ الدِّينَ في بعضِ ظاهرِه، دونَ حقيقتِه  .  


 


 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: أكل السمك يوم السبت ع ذ اب ا ش د ید ا أ خ ذ ن ا ال الله تعالى ا ی س ب ت ون اس أ ل ه م ق و م ا الل قال تعالى هذه الآیة ج ی ن ا ال ک یوم الس ال ق ر ی ة ت ی ک ان ت ت أ ت یه م ن ب ل وه م علیه وسل ظ ل م وا ب ع ذ اب ا ن س وا کما قال ال ب ح ر ت ع ظ ون ا ن ه وا ی ع د ون هم الله ع ن الم ف ی الس هم الل هذه ال ى الله م الله

إقرأ أيضاً:

معنى قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب.. وهل يفيد إثبات جهة معينة لله؟

قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إن الحق سبحانه وتعالى بقول : {‌إِلَيْهِ ‌يَصْعَدُ ‌الْكَلِمُ ‌الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }. [فاطر: 10] أي إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه عليه، والعمل الصالح يرفع ذكر العبد إلى ربه؛ وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه والانتهاء إلى ما أمر به. [تفسير الطبري:20/444]

معنى قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب

وقالت دار الإفتاء في بيانها المراد بالصعود في قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10] إما أن يكونَ الصعود إليه سبحانه؛ فيكون مجازًا عن علو المكانة ورُقيِّ المرتبة عنده؛ لاستحالة المكان في حقه سبحانه، وإما أن يكون لمواضع مخلوقاته المشرفة؛ فيصحّ فيه ارتفاع المكانة أو المكان.

خطوات الحج المفرد بالترتيب من الإحرام إلى طواف الوداعحكم تقديم السعي بين الصفا والمروة على الطواف في الحج والعمرة

قال الإمام بدر الدين بن جماعة الشافعي في كتابه "إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل" (ص: 111-112، ط. دار السلام): [قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه﴾ [المعارج: 4]، ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]: اعْلَم أَنه قد تقدَّم الكلامُ عليه في آيَة الاسْتوَاء، ونزيد هَهُنَا: أَنه إِذا ثَبت اسْتِحَالَةُ الْجِهَة فِي حَقه تَعَالَى وَجب تَأْوِيل هَذِه الْآيَات، وَأَن المُرَاد: يصعد ويعرج إِلَى مَحل أمره وإرادته، أَو أَنَّ المُرَاد بالمعارج: الرتب والدرجات؛ كَمَا ورد فِي دَرَجَات الْجنَّة، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ: الدَّرَجَات الَّتِي هِيَ مراقي من سفل إِلَى علو الرُّتْبَة والمنازل عِنْده تَعَالَى، وَفِي إفاضات النعم فِي الْجنَّة، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾، وقوله: ﴿بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ إِلَى مَحل كرامته؛ كَمَا يُقَال: رفع السُّلْطَان فلَانا إِلَيْهِ؛ لَيْسَ المُرَاد مَكَانًا وَلَا جِهَة علو، بل قرب رُتْبَة ومنزلة] اهـ.

وتابعت الإفتاء: اتَّفق علماء المسلمين على أنَّ العروج إلى الله تعالى إنما هو بالرتبة والمنزلة والمكانة، لا بالمسافة والانتقال؛ لأنَّه تعالى مُنزَّهٌ عن المكان والجهة والنُقلة ودُنوِّ الْمسَافَة؛ قال الإمام الثعلبي في "الكشف والبيان" (25/ 86، ط. دار التفسير): [ودُنوّ الله من العبد ودنوّ العبد من الله تعالى بالرتبة، والمنزلة، والمكانة، وإجابة الدعوة، لا بالمسافة؛ لأن المسافة لمن يكون له المكان مشتغلًا به، فيكون بينه وبين المكان الآخر مسافة، وذلك كله من أمارات الأجسام وخواصها، والله عزَّ شأنه يتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما هو كقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ﴾ [البقرة: 186]، وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ [الواقعة: 85]؛ يعني: بالعلم والقدرة وإجابة الدعوة] اهـ.

وقال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 333، ط. دار الكتب المصرية-القاهرة): [وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» المعنى: فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباريَ سبحانه وتعالى ليس في جهة] اهـ.

وقال الإمام بدر الدين بن جماعة الشافعي في كتابه "إيضاح الدليل" (ص: 144): [اعْلَم أَن دنو الْمسَافَة على الله تَعَالَى محَال] اهـ.

وقال العلَّامة القسطلاني الشافعي في "إرشاد الساري" (10/ 393، ط. الأميرية) عند شرحه لقول زينب بنت جحش رضي الله عنها: "إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ": [وذات الله تعالى منزّهة عن المكان والجهة، فالمراد بقولها: "فِي السَّمَاءِ": الإشارة إلى علوّ الذات والصفات، وليس ذلك باعتبار أنَّ محله تعالى في السماء، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا] اهـ.

إثبات جهة معينة لله تعالى

وتابعت الإفتاء: قد صنَّف العلماء قديمًا وحديثًا في نفي الجهة عن الله سبحانه تعالى، وخصصوا الأبواب والفصول في الرد على من يدَّعي ذلك من الجهمية المُجسمة والمشبهة، ومن على شاكلتهم ممن يتعلَّقون بالظواهر، التي دلت الأدلة القطعية على أنها غير مرادة على جهة الحقيقة؛ فخصص الإمام البخاري بابًا في "صحيحه" للرد على الجهمية المجسِّمة المتعلقين بظاهر الآيات والأحاديث، فقال: (باب قول الله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه﴾ [المعارج: 4]، وقوله جل ذكره: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، وقال أبو جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بلغ أبا ذر رضي الله عنه مبعثُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لأخيه: "اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء"، وقال مجاهد: "العمل الصالح يرفع الكلم الطيب" يقال: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ [المعارج: 3]: "الملائكة تعرج إلى الله").

وقال العلّامة ابن بطَّال في "شرح صحيح البخاري" (10 /453، ط. مكتبة الرشد): [غرضُه في هذا الباب: رد شبهة الجهمية المجسمة في تعلقها بظاهر قوله تعالى: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ ۞ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 3-4]، وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، وما تضمنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدم الكلام في الرد عليهم؛ وهو: أنَّ الدلائل الواضحة قد قامت على أن الباري تعالى ليس بجسمٍ، ولا محتاجًا إلى مكان يحلُّه ويستقر فيه؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان، وهو على ما كان ثم خلق المكان، فمحال كونه غنيًّا عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له، هذا مستحيل، فلا حجة لهم في قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾؛ لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له موجود.

وأضاف ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ هو بمعنى: العلو والرفعة. وكذلك لا شبهة لهم في قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾؛ لأنَّ صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضي كونه في جهة العلو؛ لأنَّ الباري تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرفُ هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله: ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون في جهة؛ لأنَّ في ذلك ما يوجب كونه جسمًا، تعالى الله عن ذلك. وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن الكلم عَرَضٌ، والعرض لا يصح أن يَفْعَل؛ لأن من شرط الفاعل كونَه حيًّا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرفُ الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به] اهـ.

واختتمت الإفتاء بالقول : "على ذلك، فالذي عليه الأمة الإسلامية كلها بفقهائها ومُحدثيها ومتكلميها أن الصعود إليه سبحانه معناه ارتفاع الرتب وزيادة الفضائل وعلو المكانة وشرف المنزلة، ونحو ذلك؛ مما ليس فيه صعودٌ حِسِّيٌّ ولا نُقلةٌ أو قطع مسافة.

طباعة شارك معنى قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب ذكر الله فوائد ذكر الله

مقالات مشابهة

  • دار الإفتاء توضح الحكم الشرعي حول الزلازل: ليست انتقامًا من الله
  • الإفتاء تحذر من هذا الفعل عند نحر الأضاحي| احترس الملاعنَ الثلاثَ
  • معنى قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب.. وهل يفيد إثبات جهة معينة لله؟
  • كل أسبوع.. «الأضحية» تكافل وتراحم وصلة
  • هل كثرة الأحلام من الشيطان؟.. انتبه لـ7 حقائق وتحصن بـ4 آيات
  • آداب وفضل صيام يوم عرفة.. ماذا كان يقول الرسول؟
  • ملتقى المرأة بالأزهر يوضح كيفية استغلال العشر الأوائل من ذي الحجة
  • كيف أعرف أن الله قد عفا عني وسامحني؟.. الإفتاء تجيب
  • هل الزلزال جند من جنود الله؟.. 10 أسرار لا يعرفها كثيرون
  • الأشهر الحرم.. تعرف على خصائصها وفضلها وما يجب تجنبه فيها