قد يكون هذا المقال مختلف، لكنه توضيحه في ظني مهم، وشرح مقاصده في فهمي أمرٌ لازم، وتوعية القاريء فيه متعينة لكي نصل إلى قواسم مشتركة، يعرف من خلالها القاريء الكريم معاناة الكاتب، وأنواع الكُتَّاب في الصحافة وفي وسائل التواصل الحديثة.
أما وقد باتت حسابات التواصل تتيح لمن وثّق حسابه مساحة كبيرة جداً تتسع لمقال طويل قد يكون أكثر كلمات من مساحة صفحة في جريدة.
نقول إن الكتابة الصحافية والكُتَّاب أنواع، أكثرهم بل الأغلبية الساحقة منهم تميل وتفضِّل ما يسمى “المشي جنب الحيط” بمعنى أن هذه الفئة من الكُتَّاب تكتب لذات الكتابة، ولكي يقال عن واحدهم كاتباً.
هذه الفئة تكتب في ميادين متعددة: أدب أو ثقافة، شعر أو تاريخ.
لكن قليلاً جداً من الكُتَّاب من يحمل همَّ الناس، ويسخِّرَ قلمه لنقل هموم الآخرين المعاشية، ومعاناتهم الحياتية.
قليل من الكُتَّاب من يكون همُهُ وشغفه هو همَّ الناس الآخرين، ويكون قلمه وسيلة لبثّ هموم الناس الحياتية والمعيشية..
والسبب في غالب الظن أن هذا النوع من الكتابة صعب جداً وليس كلُ أحدٍ يصبر عليه، ويتحمّل تبعاته، وإن بدأ فيه الكاتب فإنه مع الأيام يستثقل الاستمرار لأن ميدان هذا النوع من الكتابة متشابك، وظروفه تتطلب متابعة دقيقة، وتستوجب التحقق من القضية التي يكتب عنها ويتبناها.
وهذا الفنُ في الكتابة لا يقدر عليه كثيرون وإن بدأوا فيه يصعب عليهم الاستمرار لأنه يتقاطع ويتشابك مع مصالح أناس ذوي نفوذ تجاري أو سلطوي.
ومن ذلك تبني قضايا الاستهلاك والمستهلك. فأول خسائرها أن الكاتب في هذه القضايا لن يكون على ود ولا وفاق مع الطرف الآخر وهو التاجر، وقد يخسر هذا النوع من الكُتَّاب بناءَ علاقة مع تاجر أو صاحب منافع تجارية.
هل أدركتم مهمة الكاتب الذي يتبنى هموم الناس الحياتية وتعاملاتهم الاستهلاكية. لأنها ببساطة تتعلق بطرف آخر هو التاجر وتتقاطع مع جهة أخرى هي وزارة أو هيئة أو بلدية قصّرت أو تخاذلت في الرقابة والمتابعة.
من هنا قلنا إن الكاتب الذي يكتب عن هموم الناس ومعاناتهم في الأسواق والمتاجر والبيع والشراء والتدليس والغش والاستغلال، هذا الكاتب يعيش حياةً فيها معاناة لأن من يحمِل همَّ الآخرين يشعر بمسؤولية تجاههم. ومن يحمل همَّ الناس ويسعى في إصلاحه أو التخفيف من معاناتهم في معاشهم فإننا نرجو أن يدخُلَ في عداد المصلحين من البشر.
وأبرز أمثلة تبرز في هذا الاتجاه هو سطوة الإعلان في الصحف ووسائل الإعلام، وكيف أن شركات كبرى استخدمت الإعلان لمنع أي كتابة تنتقدها.
وكما يقال “الصالحون من الناس كُثُرْ غير إنَّ المصلحين قليلون”..
والمُصْلِح أعظمُ أجراً وأكثرُ ثواباً من الصالح لأن الصالح نفعه يقتصر على نفسه وينحصرُ في ذاته، أما المُصْلِح فنفعه يتعدى إلى غيره من الناس.
وهنا نعود للسؤال: هل أدركت عزيزي القاريء المعاناة التي يحملها الكاتب الذي يكتب فيما يُصلح حياة الناس، وهل أدركت الفرق بين هذا النوع من الكُتَّاب وغيره ممن يفضِّل ما يسمى “المشي جنب الحيط”؟نرجو ذلك.
ogaily_wass@
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: من الک ت
إقرأ أيضاً:
بعض الناس أغنياء جدا: هل حان وقت وضع سقف للثروة؟
في عالم يزداد فيه عدد الفقراء، تتسارع وتيرة تراكم الثروة لدى فئة صغيرة من البشر، في ما بات يعرف "بالثراء الفاحش". هذا المصطلح لم يعد مجرد وصف للنجاح المادي، بل تحول إلى تحد أخلاقي وسياسي واجتماعي عميق، وهي الفكرة التي ينطلق منها الفيلسوف السياسي الهولندي ديك تيمر في طرحه الجذري. يتساءل تيمر: "الجميع يريد حل مشكلة الفقر، ولكن هل يمكن أن تشكل الثروة مشكلة أيضا؟ وهل ينبغي وضع (عتبة للثروة) كما يوجد خط للفقر؟".
في أطروحته وكتاباته، يجادل ديك تيمر بقوة لمصلحة ضرورة تقييد الثروة، مؤكدا أن "ما لا يدركه كثيرون هو أن الثراء الفاحش مشكلة تتطلب مواجهة واضحة وحلولا جذرية، يجب أن يكون في مقدمتها فرض حد أقصى للثروة".
يشغل ديك تيمر منصب أستاذ مساعد في الفلسفة الأخلاقية والسياسية بجامعة دورتموند التقنية في ألمانيا. ترتكز أبحاثه على مفاهيم العدالة التوزيعية، وأخلاقيات الاقتصاد، وتغير المناخ، والمسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة. يحمل تيمر شهادتي بكالوريوس وماجستير في الفلسفة، بالإضافة إلى بكالوريوس في الدراسات الدينية واللاهوت من جامعة أوتريخت بهولندا، قبل أن ينال درجة الدكتوراه عن أطروحته "العتبات والحدود في نظريات العدالة التوزيعية" تحت إشراف الفيلسوفة إنغريد روبينز، كما عمل أستاذا زائرا في العديد من الجامعات الهولندية.
إعلانفي مايو/أيار المنصرم، صدر كتابه الأول بعنوان "بعض الناس أغنياء جدا" الذي يبحث في المعنى الحقيقي للمساواة وكيفية تحقيقها، وهو يعكف حاليا على إعداد كتابه الثاني عن ضريبة الميراث، الموضوع الذي يرى تيمر أنه يجمع كل أسئلة الفلسفة الكبرى. في كتابه، يفند تيمر الأفكار الراسخة حول فاعلية الأسواق وقدسية الملكية الخاصة، ويطرح رؤية جديدة للمساواة تتجاوز الأرقام، مركزا على الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للتفاوتات الاقتصادية.
لتوضيح حجم الفجوة، تستشهد الصحفية الهولندية كارولين كرايفانغر، عبر منصة "Scientias" العلمية، بأرقام صادمة؛ فقد بلغت ثروة جيف بيزوس، مؤسس أمازون، ما يقرب من 200 مليار دولار. ولتقريب هذه الصورة، فإن هذا المبلغ يعادل ما يمكن أن يجنيه شخص يتقاضى 250 ألف دولار يوميا منذ ميلاد المسيح! ولم تزد الجائحة عام 2020 الأثرياء إلا ثراء، إذ أضاف أغنى 500 شخص في العالم ما مجموعه 1.8 تريليون دولار إلى ثرواتهم، لتبلغ ثروتهم الإجمالية 7.6 تريليونات دولار. في المقابل، يعيش أكثر من 800 مليون شخص على أقل من دولارين في اليوم.
أين تكمن المشكلة؟يقر تيمر أن عدم المساواة بحد ذاته ليس بالضرورة ظالما، إذ يمكن تبريره أحيانا بالموهبة أو الكفاءة. لكن المشكلة تبدأ، من وجهة نظره، حين ينقطع الرابط بين الجهد والمكافأة، وتصبح الفجوة بين الأغنياء والفقراء بهذا الحجم الهائل، فتتحول إلى قضية أخلاقية تهدد تماسك المجتمعات.
يحذر تيمر من التأثير السياسي غير المتكافئ الذي يمارسه الأثرياء، مشيرا إلى تبرعاتهم بملايين اليوروهات للأحزاب السياسية، مما يجعل النفوذ السياسي في أيدي القلة، وهو ما يتنافى جوهريا مع مبادئ الديمقراطية التي تقوم على المساواة في الصوت والتأثير.
في أطروحته، يدعو تيمر إلى فرض حد أقصى للثروة، ليس فقط لضبط التفاوت، بل لإعادة استثمار هذه الأموال في خدمات حيوية للمجتمع مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والبنية التحتية. كذلك يربط بين أسلوب حياة فاحشي الثراء وتأثيره المدمر على البيئة، إذ يسهمون بشكل غير متناسب في الانبعاثات الكربونية، مما يجعل فرض ضرائب بيئية عليهم ضرورة إضافية.
إعلانلكن، هل يوجد دعم اجتماعي لمثل هذه الدعوات؟ يستشعر تيمر حماسة متزايدة في المجتمع للانتقادات الموجهة للشركات المتعددة الجنسيات، لكنه يلمس ترددا في الوقت ذاته، ويظهر ذلك في الانبهار بسباق الفضاء الذي يشارك فيه جيف بيزوس.
كما أن فكرة تحديد سقف للثروة تثير أسئلة عملية كثيرة: هل يكون الحد 10 ملايين؟ أم 100 مليون؟ وأين يقع الخط الفاصل الذي تتحول عنده الثروة من إنجاز فردي إلى مشكلة عامة؟
يبدو المجتمع نفسه منقسما. ففي هولندا، أظهرت دراسة أن 80% من الناس لا يرون ضرورة لفرض حد للثروة، لكن هذه النسبة تتغير بشكل لافت عندما يطرح السؤال بصيغة مختلفة: "هل تفضل أن تذهب الأموال إلى الأثرياء أم إلى الخدمات العامة؟"، حينها فقط يميل كثيرون إلى الخيار الثاني.
في نقاشاته العامة، مثلما حدث على منصة "باك هاوس دي زفايخر"، يوسع تيمر من نطاق تحليله، مؤكدا أن اللامساواة هي المشكلة الرئيسية التي تواجه مجتمعات مثل هولندا، حيث تفاقمت الفجوة بين الأغنياء والفقراء لتشمل كل جوانب الحياة، من التعليم إلى السكن، ومن سوق العمل إلى الرعاية الصحية.
ولا يقتصر الأمر على الحدود الوطنية؛ فعلى مستوى العالم، يمتلك الرجال 105 تريليونات دولار أكثر من النساء، أي ما يقرب من 4 أضعاف حجم الاقتصاد الأميركي. كذلك تهدد الحروب حياة الفئات الأكثر ضعفا، بينما يعيش مئات الملايين في فقر مدقع، ولا يحصل مليار طفل على أحد احتياجاتهم الأساسية من غذاء أو رعاية طبية أو تعليم.
هذه الفجوة دفعت الفيلسوف تيد هوندريش إلى القول: "لو زارت كائنات فضائية كوكبنا، لاعتقدت أن هناك أنواعا مختلفة من البشر". ويظهر ذلك في تفاوت متوسط العمر المتوقع الذي يقارب 30 عاما بين دول مثل نيجيريا وتشاد (53 عاما) ودول مثل هولندا (82 عاما).
إعلانبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التفاوت يتجاوز جيلنا الحالي، فالخيارات التي نتخذها الآن، من تغير المناخ إلى الاستقرار الاقتصادي والسياسي ومستوى المعاشات التقاعدية، تشكل العالم الذي ستعيش فيه الأجيال القادمة، فالقوة في أيدينا، لا في أيديهم.
ورغم أن الوعي يتزايد بخطورة تركيز الثروة في أيدي القلة، فإن الإجراءات الفعلية لا تزال محدودة. يشير تيمر إلى أن الطريق نحو تقنين حد للثروة لا يزال طويلا ومملوءا بالعقبات السياسية والاجتماعية، لكنه يؤمن أن خوض هذه المعركة أصبح ضرورة حتمية للحفاظ على العدالة، والاستقرار، ومستقبل الديمقراطية.