جريدة الوطن:
2025-05-11@19:37:26 GMT

اختيارية الجهل فـي زمن المعرفة

تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT

اختيارية الجهل فـي زمن المعرفة

يعكس اتِّجاه مُجتمعات العالَم الثالث إلى المعرفة الاستهلاكيَّة البحتة التي لا يؤدِّي فيها الفرد أيَّ دَوْر عضوي أو حضور فكري، فهو لا يرغب بتعلُّم أدوات اصطياد السَّمكة من البحر أو طريقة استخدامها فيتجشَّم في ذلك عناء العمل والجهد، بل ينتظر أن توفَّرَ له السَّمكة جاهزة لِتصلَ إلى فَمِه دُونَ أن يبذلَ أقلَّ القليل في تحقيق ذلك، تعكس حالة العجز الفكري الذي تعيشه بعض المُجتمعات وترتضيه الكثير من الناس أسلوب حياة وطريقتهم في العيش، فلا يكلفون أنفسهم جهد البحث والاستقصاء والاستنتاج أو إعمال الفكر في كيفيَّة صناعة الأشياء أو الحصول عليها بطريقة تلامس ذاته، سواء في انتقاله إليها أو في استخدام أدوات الحصول عليها أو تجريب بعضها، الأمْرُ الذي شكَّل انعكاسًا خطيرًا على إنتاجيَّة هذه المُجتمعات في هذا العالَم المتقاطع في مصالحه، والذي بات يقرأ منتجو المعرفة فيه مسارًا آخر أقرب إلى فرض الأمْرِ الواقع ولغة الوصاية الاقتصاديَّة بما نتج عَنْها من اختلالات في موازين القوَّة الاقتصاديَّة في مجالات الأمن الغذائي والطَّاقة والإنتاجيَّة المؤسَّسيَّة نظرًا للاعتماد الكُلِّي على الوارد من الأغذية والسِّلع ممَّا بات يُلقي بظلاله على اقتصاد الدوَل تجرُّها الديون وانتكاسات الإفلاس والعجز في الموازنات العامَّة وارتفاع أعداد الباحثين عن عمل وضعف الابتكار وزيادة التضخُّم وركود اقتصادي بات يصيب الحياة الاقتصاديَّة والسِّياحيَّة بشللٍ تامٍّ.


وعليه يطرح هذا الواقع تساؤلات عميقة، فلماذا لا يزال البعض يعيش تحت عباءة الجهل رغم توافر المعرفة الكونيَّة الواسعة؟ وهل أصبح الجهل اختياريًّا في زمن المعرفة؟ ولماذا لا يزال ما تمتلكه شعوب العالَم الثالث من معرفة، يَدُورُ ضِمْن فلك المعرفة الاستهلاكيَّة أكثر من القدرة على إعادة إنتاج هذا الرصيد المعرفي وتكييفه مع استخدامات الإنسان لِتكُونَ له بصمة حضور في عالمه؟ ولماذا يظلُّ الكثير من النَّاس على المستوى الشخصي عاجزًا عن تحقيق أبسط الأشياء في حياته أو القيام بأبسط المسؤوليَّات رغم توافر الأدوات والآليَّات التي تتيح له فرص التعامل مع الأشياء أو تمييزها بطريقة سهلة، بل وامتلاك آليَّة استخدامها وكيفيَّة استعمالها، خصوصًا في الأمور التي لا تكلِّف الفرد عناء طويلًا ووقتًا واسعًا وجهدًا كبيرًا. ومع ذلك فعلى الرغم من توافر كُلِّ المعلومات التي تتيح للفرد إتقان آليَّات استخدامها من الألف إلى الياء بتفاصيل مملَّة تارة ومختصرة تارة أخرى، وبشكل مكتوب، تارة وأخرى بصورة سمعيَّة أو بصريَّة، في إشارة إلى ما وفَّرته التقنيَّات الحديثة وشبكة الإنترنت العالميَّة والوسائط المعرفيَّة مثل اليوتيوب والتيك توك والمنصَّات الاجتماعيَّة على اختلافها وتنوُّعها من معلومات ومعرفة وفرص للتعمق في الأشياء وتعليمها وتعلُّمها وما أتاحته البرامج التعليميَّة المجانيَّة أو المشفَّرة من تفاصيل دقيقة حَوْلَ كيفيَّة عمل بعض الأشياء أو تنفيذ بعض الأمور السريعة التي يُمكِن تعلُّمها بدُونِ الحاجة إلى توفير المتخصِّص لها بأقلِّ تكلفة، مائدة معرفيَّة متكاملة تؤسِّس لمُجتمع معرفي يمتلك المعلومات والبيانات الأساسيَّة والمُعمَّقة التي يُمكِن من خلالها إدارة واقعة وتحقيق احتياجاته، ولكن رغم ذلك كُلِّه ما زال الجهل يسيطر على حياة كثير من النَّاس، وهو جهل بات أقرب إلى الاختياريَّة. فالأبواب مفتوحة للمعرفة والاطلاع والبحث، ومنصَّات التواصل لَمْ تدَعْ من مجال للجهل، كما أنَّها فتحت مساحة أوسع للمعرفة الاختياريَّة متعدِّدة المصادر متنوِّعة الأدوات، متباينة الأسلوب، بما يتناسب وطبيعة الفرد والأيديولوجيَّة الفكريَّة لدَيْه والقدرة العقليَّة والاستيعابيَّة والتجريبيَّة التي يمتلكها، والمساحة المفاهيميَّة القبليَّة التي تتوافر لدَيْه حَوْلَ ما يريد القيام به أو إنجازه أو تركيبه أو إنشاءه.
وقَدْ يقول قائل بأنَّ المعرفة المتوافرة اليوم في ظلِّ ما تعيشه من تعدُّديَّة المصادر وتنوُّعها، تفتقر للموضوعيَّة ويشوبها حالة من التباين والتضارب وعدم الوضوح، الأمْرُ الذي قَدْ لا يُتيح للفرد الحصول على المعرفة المنتجة الداعمة له في الوصول إلى مبتغاه، خصوصًا في ظلِّ المخاطرة التي قَدْ تلازم بعضها، وللإجابة عن ذلك يُمكِن القول بأنَّ تنوُّع وسائط المعرفة وبروزًا أكبر للممارسة العمليَّة التي تجسِّدها وسائط اليوتيوب والتيك توك وغيرها في تفاصيلها وخطواتها، وكأنَّك تعيش الواقع وتصنع الحدث، تقلِّل من حجم التباينات المتوقعة أن لو كانت المعارف والبيانات نظرية أو مكتوبة الخطوات، فإنَّ هذه الوسائط الحركيَّة أعطت نماذج محاكاة عمليَّة للواقع وفرص نجاح دقيقة ومضمونة، بل وفَّرت فرصًا أكبر للتطبيقات العمليَّة التي تتيح عمليَّات التركيب وطريق الاستخدام للأشياء بدرجة عالية من الدقَّة، وبالتَّالي لَنْ يصبحَ لمِثل هذه المبرِّرات أيُّ قَبول في مُجتمع المعرفة، ولَنْ يكُونَ للمتخاذلين عن فهم أبجديَّات الفكرة وأدوات التنفيذ والتعمُّق في تفاصيلها أيُّ حضور في ظلِّ هذا التنافس الحاصل في المعرفة الكونيَّة الذي بات يضع العالَم الثالث وشعوبه خارج التغطية، ولَنْ يخلقَ هذا البطء الحاصل في تعلُّم الأشياء وحالة العجز والهروب من الاعتماد على النَّفْس سوى مُجتمع أو فرد اتِّكالي ينتظر مَن يطعمه ويُقدِّم له لُقمة العيش جاهزة على طبق من ذهب دُونَ أن يكلِّفَ نَفْسَه عناء الاطلاع على ما ابتكره الإنسان وناضل من أجْله وقدَّمته الإنسانيَّة للعالَم من تطبيقات متداولة ومشاعة.
وعليه، لَمْ يَعُدْ من الذَّوق الفكري اليوم أن يعيشَ الفرد سقطات الجهالة، أو أن يصنعَ من نَفْسِه حالة متأخِّرة، ولَمْ يكُنْ الجهل مبررًا للتأخُّر أو التنازل، ذلك أنَّ العالَم اليوم أصبح بفعل حجم واتِّساع المعلومات والأفكار والبيانات قرية صغيرة؛ بل أو وجود هذا السلوك يحمل في ذاته علامات الجفاء للعِلم وإغلاق الفكر وتضييق مساحة التأمل، وانتقاصًا وتشويهًا للمعرفة الإنسانيَّة، وهروبًا من استحقاقات الإنجاز، ونزوغًا إلى الجهالة والعمى، رغم سعة البصر والبصيرة، ووفرة المعلومة والفكرة، على أنَّ مسألة ظلمة الجهل اليوم يجِبُ أن تتعدَّى هذه الأشياء المرتبطة بحياة الإنسان في يومه أو بيته أو مَرْكبته أو أساليب معيشته واحتياجاته اليوميَّة، إلى المعرفة بالقوانين والأنظمة والأحكام النافذة فيها، فهي ممَّا لا يسع جهله، وقبل ذلك كُلِّه معرفة أمور دينه ممَّا يرتبط بصحَّة الصلاة وأحكام الزكاة والصيام والزواج والطلاق وغيرها من التفاصيل الحياتيَّة التي لَمْ يَعُدِ الجهل فيها عذرًا مقبولًا يمنح الفرد الحصانة ويبرِّئه من الذنب أو المعصية، فإنَّ الله يعبَد بالعِلم ويتحقَّق مفهوم الإخلاص بالعِلم والعمل والمعرفة اليقينيَّة، وهكذا الأمْرُ أيضًا في موضوع الحقوق والواجبات والقوانين والتشريعات ونُظُم الحياة والعيش والمحظورات والمباحات للفرد في ظلِّ أنظمة المُجتمع وسيادة الدولة، على أنَّ ما وفَّرته التقنيَّة من معلومات وأتاحته من انتشار لها تجيب عن كُلِّ التساؤلات التي يُمكِن أن يطرحَها الفرد في ذهنه لِيجدَ لها الجواب الشافي والكافي الذي يجنِّبه المسؤوليَّة ويقِيه عثرة التخبُّط والوقوع في المخالفات.
وعودًا على بدء، فإنَّه على الرغم من أنَّ حالة الاختلال والانحراف الفكري والنفوق القِيَمي وضياع الهُوِيَّة وغياب الأخلاق والاستحياء من الدِّين، والسلبيَّة والنسويَّة والإلحاد وغيرها من التراكمات الفكريَّة التي باتت تواجهها المُجتمعات اليوم، والتي توجّه أصابع الاتِّهام فيها إلى التقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة، حيث أوجدت لهذه الأفكار بيئة خصبة للنَّشر والتداول واتِّساع فرص وصولها لمختلف شرائح المُجتمع في ظلِّ الخصوصيَّة التي تتميز بها هذه المنصَّات، فكانت بذلك مدخلًا لانتشار الحسابات الوهميَّة والتجييش الإلكتروني الذي بات يحمل معه بذور الإلحاد والنسويَّة والمثليَّة وغيرها من الأفكار السلبيَّة التي باتت تحمل أجندة أخرى واتِّجاهات فكريَّة تتقاطع مع هُوِيَّة المُجتمع، في ظلِّ زيادة الهشاشة الفكريَّة، وغياب العُمق الدِّيني والفكري والمنهجي والفِقهي، والرقابة الذاتيَّة والأبويَّة، واتِّساع التناقضات، وغياب القدوات والنماذج في الواقع، وتصدر أصحاب الفكر المشوّه في واجهة الشَّاشات الفضائيَّة والإعلام، وصفحات «السوشيال ميديا»، واتِّجاه الشَّباب إلى هذه المنصَّات لقضاء وقت الفراغ وملء أفكارهم واهتماماتهم، محاولة مِنهم في الهروب من الواقع، والخروج من حالة السلبيَّة التي باتت تفرضها الظروف الاقتصاديَّة والمشكلات الاجتماعيَّة الأخرى، وغياب فلسفة الاحتواء المُجتمعي على مختلف الأصعدة. ومع ذلك كُلِّه فإنَّ هذه المبرِّرات التي يتحجج بها البعض بنسبتها إلى التقنيَّة لا تعطي الإذن لاختياريَّة الجهل، ذلك أنَّ التنوُّع الحاصل في مصادر المعرفة، ووجود المصادر الرسميَّة التي يعتمد عليها في مواجهة الإشاعات والإجابة عن التساؤلات، يصنع من هذه المعرفة فرصة لمزيدٍ من الانتقائيَّة والرصد والتأمل والبحث والتحليل والفلترة للمعلومة، كما أتاحت التقنيَّة فرصًا أكبر لكيفيَّة التعامل معها واختبارها ومراجعتها وتصويبها ونقدها، الأمْرُ الذي لا يسوِّغ عمليَّة الانقياد المطلق إليها أو الارتماء في أحضانها.
أخيرًا، يبقى على المنظومات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والتعليميَّة والتدريبيَّة أن تقومَ بِدَوْرٍ محوري في توجيه أنظار المُجتمع بمختلف فئاته وشرائحه إلى هذه المعرفة الكونيَّة الواسعة وأهمِّية توظيفها في حياة الإنسان، والاستفادة مِنها في كُلِّ ما يحتاج إليه في سبيل تحقيق حياة ملؤها العطاء والإنتاجيَّة وقائمة على سُموِّ الإنجاز ورُقيِّ الفكرة ورفع مساحة التفكير، وبناء استراتيجيَّات الأداء وخلق الفرص وصناعة البدائل، وإنتاج الحلول وترقية الذهن وتعميق النَّظرة الإيجابيَّة التفاؤليَّة المنطلقة من الشعور بالمسؤوليَّة والإحساس بالقِيمة المضافة للمعرفة، لتتَّجهَ إلى تحقيق الإنتاجيَّة على مستوى الفرد والمُجتمع، وبالتَّالي كيف يصنع المُجتمع من هذه المعرفة المتخصِّصة المرتبطة ببعض الأعمال التي يحتاجها بشكلٍ يومي أو بصورة مستمرَّة، منصَّة استثماريَّة تُعزِّز من تعلُّمه لها وتعليمها إيَّاها لتحقيق الاحترافيَّة فيها؟ إنَّها فرصة لإنتاج الذَّات وتقديم إنجاز يبقى داعمًا للفرد في حياته، يكسب منه قُوْتَ يومِه، ويُعزِّز من خلاله موقعه في العالَم باعثًا للتجديد، منتِجًا للحياة، مستثمِرًا في ما أودعه الله في هذا الكون من مكنونات وآيات، وعندها تصبح اختياريَّة الجهل انتحارًا للإرادة، يقضي على كُلِّ فرص التأمل والبحث والانتقاء والنَّقد؛ إنَّه سقوط في دركات العمى، وإغلاق البصيرة عن كُلِّ نوافذ الأمل ومساحات التأمُّل.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: العال م ة الجهل ات التی هذه الم التی ی الأم ر ة التی

إقرأ أيضاً:

التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا

في منتصف تسعينات القرن المنصرم كان الباعة الصينيون يقفون قبالة الشوارع الرئيسية في العاصمة السودانية الخرطوم، يعرضون دهان الفيكس الرخيص بلا ثمن يذكر، حتى بدا وكأن ذلك نوع من التسول اللطيف، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا مجرد طليعة كشفية لأنماط الثقافة الشرائية، هنا وفي معظم البلدان الإفريقية، أو بالأحرى مستعمرون جدد تزحف خلفهم مطامع اقتصادية بلا حدود.

وإن كانت تلك الشركات الصينية أمثال عمالقة النفط “سينوبك” و”كيونت” و”هاير” والمصانع المزدهرة في مقاطعة شاندونج وعلى ميناء غوانزو، وكذلك شركات الأسلحة والمسيّرات الصينية تستعمل استراتيجية تسويق عابرة للحدود، فإنها تسعى وبقوة لالتهام القارة السمراء بالكامل عما قريب.

على مدى أكثر من أربعة عقود تقريباً رقصت قاعة الشعب العظمى في بكين على وقع خطابات حكام الصين الشيوعيين، وكانت هذه الخطابات تترافق مع تصفيق مجازي للقائد ماو تسي تونغ، مدير الدفة العظيم، والملهم الأزلي للتجربة، وشيئاً فشيئاً فقدت قاعة الشعب بريقها الاشتراكي، ليظهر جيل جديد لا تستهويه الروح الأيديولوجية بأي حال، فكل ما يهمه الخروج إلى العالم وتأمين الازدهار الاقتصادي الكبير. كما لا يجب إغفال ملاحظات الاصلاحي دينغ زياوبينغ في بداية التسعينيات، حول عدم إمكانية الصينيين أن يصبحوا أثرياء جميعاً علامة سياسية مهمة، معتبرًا اللامساواة كثمن للتقدم، وقد أدرك دينغ أن القوة والثراء لا يتحدران ببساطة من داخل الحدود الوطنية للصين، فأطلق العنان لشركات بلاده لتقوم بالمهمة.
لبكين وبقايا مكونات الماركسية الماوية المحسنة أكثر من مدخل للتعامل مع الدول الإفريقية، فهى تختار صداقاتها بعناية، وتبني علاقتها مع دكتاتوريات قابضة، وعلى قطيعة مع العالم الليبرالي، مثل الرؤساء المتهمين بقمع المعارضة وانتهاك حقوق الإنسان، ضيوف محافل الإدانات السنوية في مجلس الأمن، وهؤلاء بالنسبة للصين صيد سهل التعامل معه. فهي من جهة تملك امتياز استخدام الفيتو لصالحهم، ومن جهة أخرى تمثل لهم طوق نجاة اقتصادي، فتنعم على الحكومات الإفريقية بالقروض الميسرة، والتسهيلات الائتمانية ومشروعات التنمية، من موانئ وسكك حديدية ومطارات، لكن ما هو المقابل؟

لا بد عن إلقاء نظرة قصيرة حول ما تقوم به الصين من نشاط اقتصادي هائل في أفريقيا. فهى تستثمر في كل شيء تقريبًا، وقد وصل حجم التبادل التجاري بينها والقارة الأفريقية نحو ثلاثمائة مليار دولار في العام 2015، فيما تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط في الصين من امتلاك حصصٍ ضخمة في إفريقيا، تصل إلى 40% من مؤسسة النيل الأعظم للنفط، التابعة للحكومة السودانية، خلافاً لاستثمارات نفطية مُشابهة في جنوب أفريقيا، أثيوبيا، وأنغولا، وقد رفع منتدى التعاون الصيني الإفريقي الأخير وتيرة طموحات الرؤساء الأفارقة، والذين يواجهون مشاكل اقتصادية جمة، ولربما جعل منهم المنتدى منطلق لغزوات جديدة في أوطانهم، تعبر الصين فوق أحلامهم الصغيرة إلى حلمها الكبير.

إذًا وكما يبدو فإن الرباط الخانق الذي تضعه أمريكا والدول الأوربية حول رقاب الرؤساء الأفارقة، تحاول الصين بخبث حماية مدى إحكامه، دون تخليصهم منه نهائياً، حتى تحتفظ بهم تحت رحمتها، على الدوام، وفي حالة خوف ورغبة بالتنازل عن كل شيء مقابل الحُكم الأمن، وهنا يمكن للصين أن تحصل على ما تريد بسهولة.

بينما لا أحد يعلم بالضبط كم هى ديون الصين على الحكومة السودانية مثلاً، فالأرقام تتفاوت ما بين 5 إلى 7 مليار دولار، لكن ثمة جدل حول جدولة تلك الديون، وفشل في الإيفاء بها، أرغم حكومة الخرطوم للإذعان لكل شروط التسديد من جهة الصين، وذلك بعد زهاء عقود من التعاون الغامض، وابتداع آلية النفط مقابل المشروعات.

بمجازفة قليلة في الظن، يمكن القول أن تلك الديون مقصودة في حد ذاتها، وأن إغراق دول إفريقية بها هو هدف للوصول إلى هدف أكبر، غالباً بجعلها رهينة لإمداد نفطي دائم، وامتلاك أراضي استثمارية واسعة، قد تتحول بسببها إفريقيا في يوما ماء إلى أملاك إقطاعية خاصة بالتنين الصيني، أو مستعمرة تحت عيون الصين.

“العالم بأسره مسرح، وكل الرجال والنساء يؤدون دورهم فحسب” كانت تلك استعارة لائقة لشكسبير، ولكنها لن تحد من رغبة الصين في احتلال هذا المسرح الاقتصادي لأطوال فترة في المستقبل، وقد أدارت، أي الصين، عجزًا تجاريًا هائلاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أنها تمتص بشراهة مواد أولية ونصف منجزة، وتركز بصورة أساسية على النفط والعقود الطويلة في إفريقيا والشرق الأوسط.

ذلك التوسع التجاري والسيطرة على اقتصاد العديد من الدول النامية، يمكن في يوماً ما أن يحول بكين إلى حلقة حاكمة في السياسة الدولية، وبينما تحدثت صحيفة “لوموند” الفرنسية قبل أعوام عن تجسس الصين على مقر الإتحاد الإفريقي لم تعبأ بكين بذلك ونفته، رغم أنه قد يكون صحيحاً، فهو أيضاً تسريب مفهوم في سياق التنافس الشره بين فرنسا والصين، وشعور الأولى بخسارات مستعمراتها القديمة من خلال الزحف الصيني عليها. لكنها مع ذلك لم تسفر الصين عن دوافع ظاهرة للهيمنة، فقط تسعى لتمكين شركاتها، وكل ما يهمها أن يتخلى أصدقائها الجدد عن تايوان، العدو اللدود، ولذا قطعت معظم الدول الإفريقية علاقتها بتايوان لضمان وصلها ببكين.

يحب القادة الأفارقة الصين، وتحبهم الصين بقسوة، فهي على الأقل لا تقض مضاجعهم بكوابيس مطالب “التداول السلمي للسُلطة”، كما أنها لا تبدو مشغولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تتدخل في شؤون الحكم والسياسات الداخلية، ما يعني أنها النموذج المريح للتعامل، والذي لا يكسر بخاطر أحد، ومن هنا تقريباً تخلقت وشائج المنافع المتبادلة، كلغة وحيدة للتفاهم.

ولعل الصين التي تعتمد على إفريقيا في توفير ثلث مواردها النفطية طرحت نفسها كعاشق بديل، يبذل في سبيل مصالحه كل ما يمكن أن يداوي جراح صندوق النقد الدولي، والعقوبات الأمريكية، وتحاول أيضاً أن تغطي على كوارث الاستعمار القديم، بما يمكن أن يمنح الشعوب الإفريقية شعوراً بالزهو والتحرر، ولتحقيق ذلك عاودت فتح ممرات طريق الحرير القديم عبر المحيطات، كما لو أنها تبحث عن سلالة مينغ التي تزاوجت مع قبائل إفريقية قبل مئات السنين.

من المهم إدراك أن أكثر ما ينمي مشاعر القلق أن أفريقيا أصبحت مكباً للبضائع الصينية الرديئة، بينما خطوط الإنتاج الأولى تبقى من نصيب شمال الكوكب، والتي تعبر بخفة مقاييس الجودة والمواصفات، حتى أنه يمكن لجهاز آلكتروني أن ينفق في يدك خلال ساعات، دون أن تتوقف عمليات الشراء. وتحولنا نتيجة لذلك إلى مستهلكين شرهين، نؤمن حاجة الصين إلى خطوط إنتاج جديدة وفرص عمل لشعبها كل يوم، دون أن نعبأ بخساراتنا المديدة، وهذا باختصار مزعج بعض ما يمكن أن يقال عن اللعبة الاقتصادية الصينية.

عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
  • رمز جديد في واتس آب يثير الجدل…ما الذي يجب معرفته عن Meta AI؟
  • " ناصر" الذي لَمْ يَمُتْ.. !! (٢-٢)
  • الأونروا: إطالة أمد حصار غزة يزيد الضرر الذي لا يمكن إصلاحه
  • انتهاء وقف اطلاق النار الذي أعلنته روسيا لمدة 72 ساعة في أوكرانيا
  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم
  • الري: تعزيز البحث العلمي وتبادل المعرفة فى تحلية المياه بالطاقة الشمسية
  • الحبل الأميركي الذي قد يشنق نتنياهو
  • حمدان بن محمد: على خطى محمد بن راشد تعلمنا أن المجتمع المتماسك هو الذي يبني الأمل
  • التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا