برلين 1927.. سيمفونية مدينة متعطشة للحداثة
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
مياه متدفقة، أسلاك شائكة، مع شروق شمس يستعد لخوض يوم جديد، ثم تلك السكك الحديدية وذلك القطار، الذي يلهف للوصول إلى المكان المنشود.. إنها الدقائق الأولى، التي تجعلك تعتنق سيمفونيةً تحاكي تسارعا فيزيائيا داخل القطار، لتذهب بتحفة فنية جديدة في إطارك المرجعي، فوجودك داخل هذه السيمفونية ليس كخارجها، وإنما تمهيدٌ لديناميكية ممزوجة بجمال فنيٍّ بارع، تتوارى عندما تقترب من تلك المحطة العظيمة، لترى أمامك كلمة "برلين".
(برلين: سيمفونية المدينة الكبرى) من إنتاج والتر روتمان عام 1927، المعماري والمخرج الألماني، الذي أدخل لمسته الجمالية الفنية في الأفلام الوثائقية الواقعية، وافتعل ثورة كبيرة في عالم السينما الوثائقية، فقد بات من أهم روّاد المدرسة الواقعية في السينما الوثائقية، حتى صنّف فيلمه ضمن كلاسيكيات السينما العالمية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المؤرخ التركي إلبَر أورطايلي: روح الاستعمار الغربي لا تزال تحكم المنطقةlist 2 of 2أرض الوداع والعلامات السبع لزوال إسرائيلend of listتوحي لك المقدمة بأن هناك ما هو قادم عند وصول مدينة برلين، إذ يبدأ الفيلم بعرض لقطات متعددة من زوايا مرتفعة نسبيا لمدينة برلين عامة، ثم التركيز على ساعة برلين، مع التدقيق في عقاربها، وكأن رحلة الحياة النهارية لبرلين تبدأ الساعة 5 فجرا، حيث لا أناس ولا حيوانات، بل طرق خالية وأبنية صامتة، وكأن هناك من ابتلع لسان المدينة فأصبحت بكماء لا تتكلم، أو ربما طفيليات اجتاحت الأرصفة والنوافذ وجعلتها مدينة أشباح تمتاز بالحداثة والتطور المعماري، الذي أكّد عليه روتمان.
برع روتمان في إظهار الحياة اليومية لبرلين ابتداء من الهدوء النسبي إلى الحركة المستمرة، إذ قسّم الفيلم إلى أجزاء، وكل جزء يتحرك بطريقة ميكانيكية معينة. فعلى الرغم من هدوء المدينة وصمتها مبكّرا، فإن الانتقال في اللقطات والزوايا جعلت الفيلم متحركا وجعلت المدينة متدفقة منذ البداية.
شخصية متدفقة لمدينة حديثةيتكون الفيلم من مجموعة مركبّات متحركة داخل برلين، إذ أظهر شخصيتها المتدفقة ابتداءً من تدفق الدم من جسم الإنسان وحركة الأعصاب إلى تدفق حركة المرور والماشية، وآلات المصانع، ليبين لنا بأن هناك مسارا عمليا للمدينة الحديثة.
يتحدث الفصل الأول عن بداية العمل الصباحي للفئات المختلفة من الناس، فعمّال المصانع وسعاة البريد لهم النصيب الأكبر في مقتبل الفيلم، وما نراه فيه هو انتقال روتمان من الإنسان للآلات، مبينا أن الحركة الديناميكية هي ما تتفرد به برلين، ثم تصوير الماشية والعمّال بنظرة ماركسية نقدية للرأسمالية، فقد تطرق بعض النقّاد إلى أن عرض اللقطات المتصلة بين الماشية والعمّال بأنهم الطبقة الكادحة، وتحت رحمة أصحاب الأعمال.
تذكّرنا نظرة هؤلاء النقّاد للمشاهد الأولى، بالواقعية الاشتراكية في الأدب، والمنحاز إلى الطبقة العاملة والمعذبين في الأرض بوجه عام، إذ وضع كبار الأدباء الواقعيين في رواياتهم عن طموح الطبقات والصراعات المختلفة، وخريطة عيش الإنسان في حياة آمنة بعيدة عن الأطر الدينية، مثل الجريمة والعقاب – دوستويفسكي، الحرب والسلم – تولستوي، وغيرهم، حيث ربط بعض النقّاد هذه المشاهد بتلك الفلسفة النقدية للرأسمالية.
تعود مدرسة الواقعية إلى ما قبل السينما، فقد كان الأديب الناقد الفرنسي شانفلوري الذي أقر هذا المصطلح أهم منظري هذه المدرسة في الأدب، إذ وضّح هذا المذهب وانتقد الروائيين السابقين على جنوحهم وميلهم إلى الخيال المفرط، والطرق الخطابية والمبالغة الغنائية. ومنها بدأ شانفلوري بوضع أهم هدف للواقعية وهي "التعبير عن التفاهة اليومية"، أي الارتباط بالواقع وتسجيله، بخلاف الرومانسية، التي تخلق عالما من العدم وتبعث فيه الحياة.
أما الواقعية في السينما، فغالبا ما تحمل رسائل ومستويات متعددة، وهذا يخلق تذوقا مختلفا وتفسيرات متنوعة، تبعا لمستوى أو توجهات كل مشاهد أو ناقد. فقد يكون الفيلم الواقعي يشير إلى أشياء مادية وجودية وواقعية، ويمكن أنه يعرض رؤية فنية تجاه الواقع بعين صانعيه. لكنه يمكن أن يكون أيضا دعائيا بطريقة ما، إذا كان يدعو إلى وجهة سياسية محددة بذاتها.
في فيلم (برلين: سيمفونية المدينة الكبرى)، نرى أنه يحاكي الفيلم الوثائقي الواقعي، الذي يظهر ككائن جمالي عبر صور سينمائية وإطارات بصرية تأملية، مكون من مشاهد تثير التذوق الممتع للمتفرج. فالصورة في السينما الواقعية هي لوحات متحركة متنقلة بين مشهد وآخر حتى تبني لنا فيلما يسجل صورة الواقع والحياة اليومية المختلفة، دون تدخل ممثلين محترفين.
يمثل الفصل الثاني في الفيلم، لقطات متنوعة بزوايا مختلفة للإنسان والحيوان، تبدأ بفتح النوافذ وذهاب الطلبة للتعليم والنساء إلى العمل، فقد ترى تدفقا لتنقل الإنسان في المدينة، والقادم إليها من الريف والمدن الأخرى، ثم صورا أخرى لحيوانات متنقلة، والتي تمثل حالة الأسواق والحياة الحيوية في ذلك الوقت من اليوم، إذ ترى مقطعا قريبا من أرجل الإنسان ثم يأتي مقطع آخر من نفس الحجم، لأرجل الحيوان، وغيرها من لقطات، ثم ينتقل ذروة الفصل ذهابا وإيابا بين العملاء، الذين يجيبون على الهواتف والحيوانات (القردة، قتال الكلاب)، وهنا نطرح تساؤلا مهما، هل أراد روتمان فصل نوع العلاقات والتواصل بين الحيوانات والتفاعل البشري الميكانيكي؟ أم أن هناك تفاعلا غير مباشر بين جميع الكائنات؟
أما والأكثر عبقرية في هذا الفيلم فهو طريقة عرض الطبقات الاجتماعية المختلفة، فبالرغم من أنه أُنتج في العشرينيات بمعدات لا تقارن مع عصرنا الحالي، فإن هناك حبكة فنية وتسلسلا زمنيا واضحا، إضافة إلى رسائل متعددة تبين محاكاة الاحتياجات الأساسية بين الفئات المختلفة، مثل وجبة الغداء، فقد عرض روتمان لقطات متسارعة بين غني يستمتع في وجبة الغداء وبين فقير يشبع حاجته من الجوع، ثم لقطات البذخ في المطاعم وأخرى إطعام الحيوانات داخل الأقفاص، وكأن هناك عدم مساواة في الوصول إلى الغذاء. تجعلنا هذه المشاهد نسترجع رؤيتنا لبعض السينما الروائية الحديثة المليئة بالرسائل المختلفة، مثل الفيلم الإسباني "المنصة -Platform".
سرد روائي للاشتراكية والرأسمالية
على الرغم من أن فيلم المنصة روائي بامتياز، فإنه عرض الطبقات الاجتماعية والأنظمة الاشتراكية والرأسمالية بوضوح تام، من خلال منصة غذاء تنخفض عند كل طبقة، موضحا أن عدم المساواة في الوصول إلى الغذاء نتيجة جشع الطبقات، وعدم تفهم الفئة الحاكمة لاحتياجات الطبقة العاملة، فندخل معه في حالة صراع بين النزعة الإنسانية وبين إثبات الوجود الغريزي للبقاء على قيد الحياة، وهكذا فيلم "برلين: سيمفونية المدينة الكبرى"، فقد يضعك المخرج في عالم مليء بالرسائل العديدة، والرؤى المختلفة.
ما يمكن أن نراه في الفيلم أنه ركز على أن الحاجات الأساسية، تختلف بين كل طبقة وليس شرطا أن تعيش الطبقات في حالة صراع، فربما الفعاليات الترفيهية هي حاجة أساسية للطبقة الغنية، بينما الملابس النظيفة حاجة أساسية لطبقة أخرى فقيرة.
إن ما يعرض في الفصول الأخرى ما بعد العمل والغذاء، حياة برلين الرياضية والترفيهية، فروتمان يؤكد على أن التدفق مازال مستمرا، ويزداد بازدياد الأنشطة، ويقول لك بألا تحاول متابعة الأشخاص في الفيلم، لأنك لن تفلح في معرفة اتجاهاتهم، وإنما تكتفي فقط بديناميكية المدينة التي ترمز للحداثة، فتنتقل بين سباقات الجري للإنسان ثم مسابقات الكلاب والحيوانات، وأخيرا أو ربما الأهم الترفيه النسائي الليلي.
تحولات الرفاهية في قرنبعد نحو قرن من إنتاج هذا الفيلم نستطيع رؤية الرفاهية المتدفقة في برلين، مثل المهرجانات والسيرك، ورياضة المصارعة البشرية، والراقصات النسائية. ففي الصباح ربّات البيوت والعاملات، والعمّال والموظفون وطلاب المدارس، ثم فترة التسوق والأنشطة، وبعدها الملاهي الليلية، والقمار وشرب الخمور، مؤكدا روتمان في ذلك، أن المرأة كانت تُستخدم أيضا لأغراض ترفيهية وأداة إغرائية لكسب المتعة والرفاهية في المدينة المتحركة.
ما يميز الفيلم هو التسلسل الزمني والمكاني، إضافة إلى تنوع أحجام وزوايا المقاطع، فقد عرض اللقطات البعيدة واللقطات المتوسطة واللقطات القريبة، ليؤسس كلاسيكية مهمة وقواعد وثائقية تمتد إلى عصرنا الحالي، فبداية الأعمدة في الفصل الأول للمصنع، ثم انتهاء الفصل بزاوية لأعمدة المصنع، تخرج لنا بقصة كاملة مثل أن تبدأ بسباق وتنتهي عند نفس النقطة.
يحاول روتمان في هذا الفيلم أن يصور برلين الكل في وقت واحد، مثل الهندسة المعمارية والآلات والإنسان والحيوان، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن التخيلات عندما نقرأ كلمة برلين أو نسمعها، فالعديد من الناس يتخيل بوابة برلين الشهيرة، والبعض الآخر عن الآثار والقصور التاريخية، وهناك من يسأل عن مصانع السيارات، وغيرها من الاهتمامات الفردية لكل شخص، وبالتالي جعل تخيل برلين ككل في وقت واحد أمرا صعبا، لكنه نجح في أن يقودنا إلى نظرة عن تفرّد المدينة وتميزها من خلال تجزئة فصول الفيلم.
خيبات سياسيةأثار والتر الجدل في آراء العديد من النقّاد منهم جون جريرسون البريطاني، الذي أشار إلى عدم وضوح الموقف السياسي للفيلم، ربما لاختلاف التوجهات بين الشخصين، فجريرسون يتبنى فكرة "المعالجة الخلّاقة للأفلام الوثائقية"، إذ يعد من روّاد مبادئ العلاقات العامة، من خلال عمله مع الحكومات البريطانية وإظهار الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية للحكومة في المملكة المتحدة، وهو ما يناقض عفوية روتمان في فيلم برلين، الذي لم يكن يهتم بإظهار موقف سياسي معين، وإنما بتسجيل الحياة اليومية للمدينة من تنقلات، وشجارات، ومناسبات وغيرها، إضافة إلى التأمل في جمالية المباني والصناعات المختلفة.
في حين انتقد البعض الآخر، كمية وجود الآلات مع الإنسان، ونظرتهم للفيلم كتجريد الإنسان واستبداله بآلية ميكانيكية مادية تمهيدا لمحو العمل البشري، وهو ما ينقض منطق الفلسفة العقلانية الديكارتية، التي ترى أنّ العقل وحده هو الذي يقرر المعرفة، دون تدخلٍ من الحواس، ليجري بشكل مستقل عنها، فيفقد الجسد أهميته، وبالتالي يأتي التأثير والسيطرة من أشياء غير مادية.
الأكثر قلقا في هذه الآراء، هو ما صوّره مؤرخ السينما التعبيرية الألمانية سيغفريد كراكور عن الفيلم، بأنه يحمل روحا مسبقة للنازية، فكثرة التدفق الجسدي للإنسان وإثبات وجوده في الفيلم، يناقض فلسفة ديكارت وتؤكد فلسفة فريدريك نيتشه في نظرته للإنسان المتفوق، الذي يجعل القيمة الجسدية هي الأساس للتفوق على كل شيء آخر.
ربما رأى كراكور، أن هذا الفيلم يفسر رؤية نيتشه، الذي يعتبر الواقع بأنه جريان وتدفق لا حدود له، وهذا الطابع التدفقي يجعله غير قابل للضبط أو الإمساك به، ويجعله ينفلت باستمرار من أي محاولة للذات للهيمنة عليه والسيطرة على صيرورته. وبما أننا نتحدث عن نيتشه فلابد من ذكر أن الأب الروحي للحزب النازي "أدولف هتلر" من أكثر المتأثرين بهذا الفيلسوف الكاتب، حتى اعتبر هتلر نفسه هو الإنسان المتفوق، الذي ذكره نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت). تأكيد بعض النقّاد على أن فيلم برلين يحمل نظاما مسبقا للنازية، يأتي ربما بسبب مساعدة والتر روتمان للمخرجة ليني ريفنستال في إخراج الفيلم الدعائي للحزب النازي "انتصار الإرادة" عام 1935.
في المقابل، وجد المؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول فضائل كثيرة لفيلم "برلين: سيمفونية المدينة الكبرى" لمجرد أن مخرجه أعلن دائما أنه ينتمي إلى نظريات الروسي دزيغا فيرتوف بالنسبة إلى أسلوب "السينما – العين"، والذي راج كثيرا في السينما السوفياتية وفي السينمات التقدمية في العالم أجمع.
بالنهاية، لا يقتصر مستوى الاهتمام الوجودي في الفيلم على الإنسان وحسب، بل برلين ككل، والبطل هنا هو برلين المدينة، التي عبّرت عن نفسها في أوائل القرن الماضي بالحداثة وبأنها مدينة العالم الديناميكي، فجميع عناصر الفيلم تؤكد على أن كل هذه الكائنات متدفقة ورافدة، وأن الباقي هي المدينة، وليس شرطا أن يتم تجريد الإنسان إلى شيء أعمق دون إعطاء مساحة مميزة، أن تكون حركة فلسفية مخصوصة للاشتراكية القومية، ربما هي فقط حياة يومية.
أما الأمر الذي يتفق عليه الجميع فهو أن فيلم برلين، من أوائل من عرض كيفية التعامل مع بعدين أساسيين من أبعاد العلاقة بين السينما والتحليل النفسي الجماعي من ناحية، ومفهوم ولادة المدينة الحديثة من ناحية أخرى. وهنا يمكن القول، إن الواقعية تجاه سينمائي يستمد مشروعيته وأفقه النظرية، باعتبار السينما تجسيدا خالصا للواقع في كامل تجلياته سواء الاجتماعية أو السياسية كذلك الأنطولوجية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فكر فی السینما هذا الفیلم فی الفیلم من خلال أن هناک على أن
إقرأ أيضاً:
مقدمة لدراسة صورة الشيخ العربي في السينما الأمريكية «24»
لما تقدم، فإنه تنبغي العودة إلى أفلام شبه منسيَّة، أو مفقودة حرفـيَّا فـي حالات، ومجازا فـي حالات أخرى (تجدر الإشارة هنا إلى ما هو حقيقة معروفة وقد تكون مثيرة لدهشة البعض، وهي أن من 70٪ إلى 90٪ من الأفلام الأمريكية الصَّامتة -خاصة تلك التي أنتجت قبل عام 1929- مفقود من الإرشيف السِّينمائي لأسباب متعددة، وليس هذا مقام الخوض فـيها)، أو غائبة عن النَّقد، بما فـي ذلك العديد من «أفلام الشَّيخ» التي أُنتجت فـي عشرينيَّات القرن الماضي مثل «حُب عربي» [Arabian Love] (جيروم ستورم Gerome Storm، 1922[، و«رمال حارقة» [Burning Sands] (جورج مِلفورد George Melford، 1922)، و«تحت عَلمين» [Under Two Flags] (تود براوننغ، Tod Browning، 1923)، و«ليلة واحدة مسروقة» [One Stolen Night] (روبرت إنزمِنجر Robert Ensminger، 1929)، وأيضًا فـيلم آخر بنفس العنوان: «ليلة واحدة مسروقة» (سْكوت آر دَنلاب Scott R. Dunlap، 1929)، و«أغنية الحُب» [The Song of Love] (فرانسِس ماريون Frances Marion، 1923)، و«ابن صحارى» [The Son of the Sahara] (إدوِن كيروEdwin Carewe ، 1924).
وسأعيد القول هنا انه فـي وقت مبكِّر من تاريخ السِّينما الأمريكيَّة (أعني تاريخ إصدار فـيلم «الشَّيخ»)، فإن «السرديَّات الشَّيخيَّة»، فـي طاعتها الخنوع لمقتضيات ومتطلَّبات الاستشراق، إنما كانت تعمل بوصفها استجابة لأنواع القلق المحلي، والدَّاخلي، الأمريكي. ولا شك أن العزف المشترك لأسئلة العِرق والجندر بوصفها مقولات للهويَّة والرَّغبة هو المظهر الأكثر بروزا فـي تلكم السرديَّات الشَّيخيَّة؛ فكما يحاجج دانييل بِرنانردي Daniel Bernardi فـي الأنثولوجيا المهمة التي حرَّرها عن البياض فـي السِّينما الهوليووديَّة الكلاسيكيَّة فإن «العِرق» هو «أداء يتعلَّق بالظُّهور» (1). إن السرديَّات الشَّيخيَّة.
كما تقدمها أفلام الشَّيخ فـي عشرينيَّات القرن الماضي (وحتَّى، بدرجات متفاوتة ومتباينة، ما بعد ذلك التَّاريخ) تعرض علينا طيفاً واسعاً من «التَّجريبيَّات» مع العِرق، والجندر، والرَّغبة، وذلك من خلال الشَّخصيَّات وأفراد الجمهور معاً؛ فالجندر، على سبيل المثال، يتبدَّى باعتباره ليس أقل ولا أكثر من مقولة مبدئيَّة، وتفاوضيَّة، ومتحوِّلة يجري تعقيدها، واللعب بها، بصورة نموذجيَّة، عبر تقنيَّات وأحابيل سرديَّة من قبيل التَّنكُّر، ونشر وتداول الأمكنة والأسماء، والمطاردات، وعمليَّات الإنقاذ الحَرِج التي تحدث فـي اللحظة الأخيرة أمام جمهور محبوس الأنفاس. وفـي هذا السِّياق، فإن الأنثى الغربيَّة تظهر باعتبارها مختلفة بصورة واضحة عن مثيلتها العربيَّة، وهذا ما ينبغي تحليله. ولذلك فإنه يجدر تفكيك أفلام من قبيل «بلاد العَرَب» [Arabia] الذي يُعرَف أيضا بعنوان «توم مكس فـي بلاد العرب» [Tom Mix in Arabia] (لِن رِنولدز Lynn Reynolds، 1922)، و«خِيام الله» [The Tents of Allah] (تشارلز أي لوغ Charles A. Logue، 1923)، و«خادمة فـي المغرب» [Maid in Morocco] (تشارلز لامونت Charles Lamont، 1925) و«سيِّدة الحريم» [The Lady of the Harem] (راؤول وولش Raul Walsh، 1926)، و«إنَّها شيخ» [She›s a Sheik] (كلارِنس جي باجر Clarence G. Badger، 1927).
وحين نتتبَّع الأمر بدقَّة، فإننا سنجد انه حتى فـي «الاستكتشات» البصريَّة الخام، بسبب بدائيَّة التَّعبير السِّينمائي عهدذاك، التي سبقت الظُّهور الأسطوري العارم لفـيلم «الشيخ»، فإن السرديَّات الشيخيَّة قد تضمنت بصورة نموذجيَّة حكايات وحكايات عن كل نوع من أنواع الاستعباد تقريبا. بمعنى معيَّن، أصبح «الشَّيخ» الشخصيَّة التي تُسقَط عليها، ويُتَفاوض من خلالها مع الإرث المشين للعبوديَّة فـي التَّاريخ الأمريكي نفسه، وذلك فـي نوع من «إعادة السَّيْقَنَة» (recontextualization) الأيديولوجيَّة والانتشار الاستراتيجي ثقافـيَّا، ولذلك فإنه ينبغي التَّركيز فـي الدِّراسة، مَثلاً وليس حصرا، على عمل مثل السِّلسلة الفـيلميَّة «المدينة المفقودة» [The Lost City] (هيري جي رِفَر Harry J. Revier، 1935)، والذي تدور أحداثه فـي داخل أفريقيا. يدور سرد الفـيلم حول تاجر عبيد، وهو شيخ عربي بالتَّأكيد، يستعبد ويعذِّب ضحاياه الأفارقة. وهذا الجزء من السرديَّات الشيخيَّة يتضمن أيضا أفلاما مثل «فـيلق الرجال المفقودين»Legion of Missing Men] [ (هاملتُن مكفادِن، Hamilton MacFadden، 1937)، و«انتقام طرزان» [Tarzan›s Revenge] (ديفد روس لِدرمن، 1938)، و«الرَّجل الأسد» [The Lion Man] (جون بي مكارثي John P. McCarthy، 1937)، و«الطَّريق إلى زنجبار» [Road to Zanzibar] (فِكتُر شرزنغر Victor Schertzinger، 1941).
عندما نُشرت رواية «الشَّيخ»، وكذلك عندما حوِّلت إلى فـيلم سينمائي، كانت الجزائر، موقع الأحداث، ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، ولكن هذه الحقيقة السياسيَّة والتاريخيَّة البسيطة يغفلها سرد العملين بطريقة مباشرة (وكذلك يفعل استقبالهما لدى القرَّاء والجمهور).
فـي الحقيقة، كلا العملين يرمنسان الكولونياليَّة، وفـي أفلام الشَّيخ العربي اللاحقة (خاصة تلك التي أُنتجت فـي الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن الماضي)، ازداد اعتبار الشَّيخ باعتباره «مواطنا» (national) (بالمعنى السيئ للمفردة) وليس مجرد شخصيَّة «رومانسيَّة»، ويتضمن عدد معتبَر من أفلام الشَّيخ العربي مواجهات عسكريَّة مباشرة بين أفراد أو بلدان عربية من ناحية، وأفراد أو قوى غربية من ناحية أخرى، ولذا فإنه تنبغي دراسة فـيلم «مغامرة فـي العراق» [Adventure in Iraq] (ديفِد روس لِدرمَن David Ross Lederman، 1943) بصورة مستفـيضة، فأنا أعتقد بأهميته بكل معاني الكلمة، ومن كافة النَّواحي.
كما أن بعض الاهتمام البحثي ينبغي أن يُمنح أيضا للسرديَّة الشَّيخيَّة فـي أفلام «مواجهة» أخرى مثل «تحت علمين» [Under Two Flags] (فرانك لويد Frank Lloyd، 1936)، و«الرَّجل الأسد» [The Lion Man] )جون بي مكارثي، 1937)، و«مُغِيرو الصَّحراء» [Raiders of the Desert] (جون راولنس John Rawlins، 1941)، و«يانكيٌّ فـي ليبيا» [A Yankee in Libya] (ألبرت هِرمَن Albert Herman، 1924)، و«حرب فـي بلاد العرب» [Action in Arabia] (ليونِد مغوي Leonide Moguy، 1944).
---------------------
(1): Daniel Bernardi, “Introduction: Race and the Hollywood Style,” Classical Hollywood, Classical Whiteness (Minneapolis: University of Minnesota Press, 2001), xxi.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني