صحيفة التغيير السودانية:
2025-05-28@03:22:36 GMT

السودان وحرب اللا حل

تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT

السودان وحرب اللا حل

 

السودان وحرب اللا حل

ناصر السيد النور

عادة ما تنشأ الحروب وفق تعقيدات غالبا ما يكون تقديرها مختلف عليه ويكون تفسير دواعيها مهمة يضطلع بها من غير مشعلوها من محللين وخبراء ومؤرخين وبعض من الجنرالات كما في العالم الثالث. والبعد الاستراتيجي للحرب الذي تتأسس عليه الرؤية والعقيدة العسكرية كما في استراتيجية الحرب التقليدية، ومنها حروب موطنها العالم الثالث تتساوى مع استراتيجيات الحروب الأخرى مؤداها قتل الانسان بالدرجة الأولى.

ولكن تظل المنطلقات والأهداف والسياسات للحرب إذا كانت ممارسة سياسة وسياسة لأن سياسية إدارة الحرب نفسها هي ما يحدد أهداف. وتأثير الحروب على السياسة أو العكس تجسيدا لمقولات الجنرال الصيني سون تزو في فن الحرب أو باعتبارها استمرارا للسياسية في مقولة المنظر البروسي كلاوزفتز الشهيرة. والحرب أكبر من أن تترك للجنرالات على قول رجل الدولة الفرنسي جورج كلمنصو؛ مع أن كل الحروب بتجربة التأريخ أو بمنطق العسكرية يقودها جنرالات تخطيطا وتنفيذا.

إن الحرب الجارية في السودان فيما بات يعرف بالـ”الأزمة السودانية “ظلت منذ انطلاقها منذ عام ونصف في العام الماضي في الخامس عشر من ابريل/نيسان 2023م قد انتجت نمطا جديدا من حروب البلاد المتعددة لا سوابق لها وبالتالي تعقدت أزمتها في إدارة عملياتها أو توصلا لحل يضع حدا لمآسيها الإنسانية. والواقع أن تجاوزاتها على كافة مستويات انتهاكاتها وجرائمها الإنسانية ما عرفته نزاعات الدولة الداخلية، ولأنها جسدت صراع ونوازع في السلطة والدولة والمجتمع كان من الطبيعي أن تستعصى على الحل على نحو الحلول التي يتم التوصل إليها في نهايات كل الصراعات. فما الذي يقف عائقاً أمام محاولات الحل بعد أن استنفذت الحرب كل أهدافها في التدمير ووصولا إلى ما تصنفه القوانين والأعراف من إبادة عرقية ومذابح على نحو غير مسبوق؟ ولكنها مع ذلك تواصلت وتيرتها بين طرفيها الجيش وقوات الدعم السريع وما تبع ذلك من ظهور مكونات عسكرية للطرفين على أساس قبلي وجهوي زاد من حدتها وباعد بينها وبين محاولات حلها على ما تعهده نهايات النزاعات من حوار وتفاوض وتسوية واتفاق.

وإن أكثر ما شغل السودانيين حول هذا الحريق الكبير السؤال حول من أطلق الرصاصة الأولى؟ وهو تساؤل على اجتهادات البعض من خارج دارة الطرفين وغيرهم في الإجابة عليه إلا أنه ظل تساؤلا عالقا يبحث عن إجابة عن أهمية الأسباب غير المرئية التي أدت إلى إطلاق النار ابتداء. ومع أن التساؤل نفسه يكشف عن الاستعداد والتخطيط الذي كان يعد لشن الحرب من قبل الطرفين إلا أنه بدا تساؤلا ميتافيزيقيا ينطوي على غموض أكثر منه مدعاة للبحث عن جذور الصراع. ويتضح أيضا إن من وراء السؤال نفسه طبيعة تفكير المكونات العسكرية وتوغل الأطراف السياسية على مؤسساتها. وقرار الحرب أو تعجيل المواجهة التي كانت حتمية وقتها كان لابد له من قوة عسكرية وقرار مدني سياسي أو حزبي في السياق السياسي السوداني يمثل غطاء شرعيا تلك التي تقتضيها الحرب. وما أن طالت الاتهامات الحركة الإسلامية بوقوفها خلف الجيش حتى تحول الصراع بين ما هو عسكري وأيديولوجي وبالضرورة سياسي يأخذ بكل الأسباب المنطقية منها والواهية في تبرير كل طرف موقفه في مواصلة الحرب أو الدفاع عن النفس. وبالنتيجة اتخذت الأبعاد المدنية المتحولة عسكريا من كيانات اجتماعية وقبلية وواجهات سياسية مواقف تعكس الطرق المسدودة التي توصلت الأزمة السودانية والتي باتت خارج مألوف مفاوضات السلام وتقنياتها المعرفة لها في حدود مبادئ التفاوض واعرافه.

مداخل الحل للأزمة السودانية المعقدة في طبيعتها وتوصيفها لا تختلف عن طبيعة الحرب نفسها، ودائما كان تعدد الأطراف المشاركة في الحرب، فقد جاءت الحلول بذات التعدد من اختلاف المنابر واجندات التفاوض. فالإسناد الإقليمي والدولي لطرفي الحرب باعد بين محاور الحلول باختلاف الرؤى المؤدية إلى مسارات الحلول. ولم يقتصر هذا التدخل في اطاره الإقليمي العربي والأفريقي بل شمل قوى دولية مؤثرة مما يشيء بتوازنات القوة على مستوى محور النظام العالمي، وما جرى في مجلس الأمن في الثامن عشر من الشهر الماضي بشأن مشروع القرار الذي تقدمت المملكة المتحدة وسيراليون لوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الذي أبطله تصويت روسيا باستخدام حق النقض “الفيتو”.  وبهذا يكون تدخل المجتمع الدولي على المستوى الأممي قد وصل بالفيتو الروسي إلى نهاية غير متوقعة مما زاد من تباعد الأزمة السودانية من طرق الحل الدبلوماسي الدولي. ويتبع كل فشل في مبادرات الحلول التي عادة ما يكون تحت رعاية أطراف خارجية ضراوة في المواجهات العسكرية بين الطرفين كما لو كان فشل في التفاوض يعني ضوء اخضرا للطرفين للمضي قدما في الانتهاكات التي يرتكبها الطرفان بحق المواطنين.

والموقف الداخلي للحرب هو ما يجرى على صعيد المواجهات العسكرية بين الطرفين ويأمل كل طرف في سحق الطرف الآخر كآخر مراحل الحل العسكري، وهو أمر فيما بدا يصعب على الطرفين تحقيقه. وعلى ما شكله اجتياح المدن والقرى خروج مدن وولايات بكاملها عن سيطرة الدولة المفترضة وسياداتها وأصبحت تحت السيطرة المباشرة لقوات الدعم السريع وفشل الأخيرة في إدارة أو التعامل مع هذا الواقع المحقق عسكريا وفق منظومة إدارة مؤسسات الدولة. وهذا الواقع العسكري انسحبت تأثيراته على الموقف من التفاوض منذ بدايته في منبر جده بعيد اندلاع الحرب برعاية سعودية أميركية. ولم تكن الاستجابة السياسية للطرفين انحيازا لسلام تقتضيه الحالة الإنسانية التي احدثتها الحرب بقدر خضوعها للضغط الدولي خاصة من الدول التي تتحكم إلى حد ما بمجريات الأمور في أزمة السودان.  ويبقى الحديث عن حل عسكري في ظل الواقع الجغرافي والاستقاطابات الاجتماعية للحرب حلا بعيد المنال وثمنه أفدح من أن تحتمله الأوضاع القائمة بالبلاد.

ومن ثم فإن الحل السياسي بما يعني المحاولات المدنية للضغط على الطرفين للقبول بمبدأ التفاوض السلمي وحملها بالتالي للتنازل عن طموحهما السياسي او العسكري لصالح مصلحة وطنية عليا في وقف الحرب، فيبدو أمرا غير واقعي أو متصورا في المناخ العسكري للحرب.  فلا وجود لمكونات مدنية بالبلاد على نحو ما كان قبلها والمتبقية منها في الداخل تعمل من وراء التشكيلات العسكرية التي تدعم استمرار الحرب. ولا تزال القوة المدنية ممثلة في الحركة الإسلامية بهيمنتها على الجيش وإدارة المعركة القوة المدنية الوحيدة التي لا تقبل حوارا او تفاوضا مع الأطراف المدنية الأخرى التي تقيم بالخارج مثل تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) الفصيل المدني الوحيد الذي يطرح مبادرة وقف الحرب في مواجهة الأصوات الداعمة لاستمرار الحرب. ولم يعد المجال مهيأ في الداخل على تبنى حلولا يكون مسارها مخرجات حوار مدني بخروج كافة التيارات السياسية من دائرة الفعل السياسي بخلاف تصريحاتها على وسائل الإعلام.

فهل تركت الأزمة السودانية التي تشكل المواجهة العسكرية العنيفة لتحل نفسها بنفسها؟ فإذا ما تركت الحرب تفرض واقعها الجديد الذي تزداد معه معاناة المواطنين والنازحين في الداخل والخارج دون أن تتمكن الدولة أو المجتمع الدولي بمبادراته الكثيرة من وقفها فالراجح استمرار المعاناة وتحول مظاهرها من مجاعة وامراض تفتك بالمواطنين إلى حرب إبادة كارثية.  والإشكال الآخر في مسار الأزمة أن كل الأطراف المتقاتلة تفتقد إلى رؤية أو مشروعا للوقف الحرب ومستقبل السلام فما نتجت عنها من واقع لم يكن قائما يخشى الكثير من العسكريين والسياسيين تقبله أو الاعتراف به فأصبح السلام بالتالي نفسه كابوسا لما يأتي بعده. فإذا فرضت الحرب حلولها على انتهت إليه من نتائج مؤثرة على الخارطة البلاد الجغرافية فإن حلولا مقارنة في نزاعات السودان قد تعود للظهور مرة أخرى مثلما حدث في حرب الجنوب التي انتهت بانفصال جزء 2011 من القطر كحل أخير. ومن المفارقات التأريخية أن تكون الخرطوم التي احتضنت مؤتمر القمة العربية في اعقاب نكسة حرب يونيو/تموز 1967 الذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث: لا صلح لا اعتراف ولا تفاوض مع الكيان الصهيوني أن تظل هذه اللاءات مرفوعة ولكن هذه المرة في حرب أهلية.

 

 

الوسومالسودان حرب الجيش والدعم السريع قمة اللاءات الثلاث نكسة يونيو

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان حرب الجيش والدعم السريع نكسة يونيو

إقرأ أيضاً:

حول قضية الأسلحة الكيميائية والعقوبات الأمريكية

خالد عمر يوسف أصدرت الخارجية الأمريكية عقوبات على السودان إثر اتهامات باستخدام القوات المسلحة لأسلحة كيميائية في العام ٢٠٢٤ خلال الحرب الدائرة بينها وقوات الدعم السريع، وتشمل العقوبات قيوداً على الصادرات الأمريكية للسودان إضافة لعقوبات اقتصادية أخرى. اتخذ الفريق الداعم للقوات المسلحة وجهة نفي هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً دون تثبت، واستعار بعضهم تعبيرات المخلوع البائسة مثل “امريكا تحت جزمتي”، وقال وزير إعلام بورتسودان أن أمريكا قد نحت هذا المنحى لتخفي آثار استخدام الدعم السريع لأسلحة أمريكية خلال الحرب الحالية. هذه الوجهة ليست مفيدة وضررها أكبر من نفعها، حيث أن الأمر أكثر خطورة ويحتاج لتناول موضوعي من كافة جوانبه، يضع حياة البشر وكرامتهم وأمانهم أولاً وفوق كل شيء، وهنا أريد أن أتحدث عن جانبين من هذه القضية، هما الاتهام نفسه والعقوبات المترتبة عليه. الحقيقة هي أن هذه ليست المرة الأولى التي تصدر فيها تقارير تتهم القوات المسلحة باستخدام أسلحة كيميائية، فقد صدرت من قبل تقارير عديدة منها تقرير منظمة العفو الدولية في سبتمبر 2016، تحت عنوان “الأرض المحروقة، الهواء المسموم”، والذي أورد أدلة على استخدام القوات المسلحة لأسلحة كيميائية في منطقة جبل مرة خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2016، أدناه رابط التقرير: ‏ https://www.amnesty.org/…/sudan-credible-evidence…/ إضافة لتقارير أممية وحقوقية عديدة في الفترة منذ العام ٢٠٠٥، وأخيراً جاء تقرير نيويورك تايمز في ١٦ يناير الماضي، والذي أشار لاستخدام القوات المسلحة لأسلحة كيميائية في بعض المناطق الطرفية ضد قوات الدعم السريع، ووجود مخاوف من استخدامه في مناطق مكتظة بالسكان في الخرطوم، كما هو موضح في رابط الخبر ادناه: ‏https://www.nytimes.com/…/sudan-chemical-weapons… الغريب حقاً أن بعض من يقفون إلى جانب القوات المسلحة الآن وحاولوا التشكيك في الحادثة، هم ذات من تولى كِبر التسويق لتقرير منظمة العفو آنذاك، وهو سلوك مثير للغثيان إذ أنه يفتقر للحد الأدنى من الأخلاق للتعاطي مع قضية بهذه الخطورة، فلا يمكن أن تدعم اتهام استخدام هذه الأسلحة حين يوافقك سياسياً وتنبري للتشكيك فيه حين تغير موقعك السياسي! السودان دولة عضو في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية منذ العام ١٩٩٩ وهذه القضية خطيرة ولها عواقب مستقبلية وخيمة، ووفقاً للمؤشرات العديدة التي استندت عليها هذه الاتهامات سابقاً والآن فإن المطلب الصحيح هو ضرورة ابتدار تحقيق دولي مستقل وشفاف ومهني للتحقق من هذه الاتهامات وتمليك الرأي العام نتائجه دون أي تدخلات سياسية. الجانب الثاني من هذه القضية هو العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على السودان، وهي تمثل انتكاسة كبيرة للبلاد التي قطعت مشواراً طويلاً للتخلص من تركة نظام الإنقاذ الذي كبل السودان بالحصار الدولي جراء سياساته الإرهابية الإجرامية. حققت الحكومة المدنية الانتقالية نجاحات مهمة في فك الحصار عن السودان وتطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي، توجت ذلك برفع السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، ونجحت في تأهيل السودان لبرنامج إعفاء قسط وافر من ديونه وتسوية متأخراته، والحصول على دعم تنموي دولي وانفتاح البلاد على السوق العالمي، مما يسهم مباشرة في تحسين معاش الناس وحياتهم. قطع الانقلاب هذه المسيرة وعكس مجرى الإصلاحات التي جاءت بعد ثورة ديسمبر المجيدة، وتوالت العقوبات على قادة الدعم السريع والقوات المسلحة ومؤسساتهم، ولكن الفرق النوعي في العقوبات الأمريكية الأخيرة هي انها فرضت على البلد نفسها وليس على الأفراد، وهو ما يعيد السودان تدريجياً لظلام سنوات حكم الإنقاذ. إن هذا الأمر يتطلب انتباهة حقيقية وجهد وطني مخلص لمخاطبة الأسرة الدولية لاتخاذ مقاربات أكثر إحكاماً، بحيث لا تضر العقوبات بسائر أهل السودان الذين يعانون الأمرين جراء الحرب وتبعاتها. أخيراً فإننا لن نمل من تكرار ما هو معلوم بالبداهة. هذه الحرب ستقود بلادنا كل يوم من سيء لأسوأ. الخير في ايقافها اليوم قبل الغد، وهو أمر متاح متى ما توافرت الإرادة الوطنية لذلك. أرجو أن نبلغ ذلك قبل فوات الأوان، فكل يوم يمضي يزيد من تعقيد المشهد بصورة أكبر بكثير. الوسومخالد عمر يوسف

مقالات مشابهة

  • حول قضية الأسلحة الكيميائية والعقوبات الأمريكية
  • المصافحة التي لم تتم.. خلافات عميقة تعوق التوصل لاتفاق في غزة برعاية أمريكية
  • السودان وفروقات الوعي السياسي
  • الإعيسر: أمريكا سارعت باتهام السودان في الوقت الذي تم فيه ضبط أسلحة أمريكية بيد المليشيا المتمردة
  • استفزاز ودي وحميد للقوى المدنية السودانية
  • الحرب على كرسي السلطة الخالي
  • سوال : هل نظام الجباية الذي اسسه المستعمر صالح ليكون نظاما للتنمية الوطنية ؟!
  • وهم اسمه السودان !
  • الفكرة لا تموت: تأملات في تشظي الدولة واستدعاء الوطن
  • إدارة ترامب تطلب من إسرائيل تأجيل عمليتها العسكرية في غزة