"على السوريين أن يفعلوا كذا وكذا".. هذه جملة تفيض على التحليلات وتزعم معرفة ما يجب أن يكون، خاصة أنها تصدر في الغالب عن قوم فشلوا وأفشلوا ثوراتهم. لذلك نقف أمام الثورة السورية ولا نجرؤ على أن نحدث رجالها حديث تعليميا فالقوم حملوا السلاح وانتصروا، ومن الأدب أن لا نطلب من الثورة السورية أن تحرر البلدان/ الشعوب التي فشلت.
البناء من الصفر
يكفي أن نرى الخرائب التي دمرتها البراميل لتحترق عقولنا بتخيل إعادة البناء المادي، فالقوم يسكنون في العراء والأساسيات من ماء وكهرباء وطرقات شبه معدومة، أما البناء المعنوي للإنسان السوري المحطم فمعركة أكبر. معركة الترميم المادي تشمل كل شيء، المدرسة والبنية الصناعية والطرقات شبكة الخدمات والزراعة الفاشلة. كلها معارك تسير بالتوازي ولا يعرف المرء أيها أكثر أولوية ليضخ لها المقدرات المتاحة وهي محدودة حتى الآن. إنها معركة تبدأ من الصفر، لتصعد جبالا من الهموم.
فإذا أمكن البدء في هذه المسارات فإن ترميم الإنسان سيظل أم المعارك. إننا نتابع المطالبة المكلومة بالمحاسبة ونلتقط مؤشرات حرب أهلية، وكل الذين أجرموا نراهم يدفعون البلد إلى حافة الاحتراب الأهلي وهو الوضع الوحيد الذي ينجيهم من المحاسبة، وهو نفس الوضع الذي عاشته الثورة التونسية بما أفشل مشروع العدالة الانتقالية وحوّل الضحايا من جديد إلى متهمين حتى سكتوا حفاظا على سلامة البلد.
سلامة البلد الظاهرية أم المحاسبة والتنظيف؟ هذه معركة كبرى. درس الفشل التونسي والمصري والليبي تعني أن كل تردد أمام فلول البعث المسلحة سيفتت مجهود الثورة، وسيكون وضع سوريا كوضع من يعالج سرطان الدم بمرهم جلدي. إن جملة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" التي منحت الحياة لفلول نظام بن علي (ومبارك طبعا) تهدد مستقبل سوريا لو أعيد رميها في شارع فقد أكثر من مليون شهيد. ننصح الثوار ولا نعلمهم؛ كل تسامح مع القتلة يقتل الثورة، فبناء الإنسان السوري الجديد يبدأ من إشعاره بأنه يملك حقوقه وأولها محاسبة قتلته.
المتربصون والأصدقاء المزيفون
مؤتمر العقبة كان حركة عدائية تجاه الثورة السورية، فقد أطلق قائمة الاشتراطات دون حياء. المؤتمرون/ المتآمرون في العقبة (باستثناء دولة قطر) يتقاطرون الآن على دمشق لكنهم فعلوا ذلك بعد أن أذن لهم السيد الأمريكي، هؤلاء هم الأصدقاء المزيفون الذين سيلدغون الثورة السورية ويسممون أحلامها. فالحرية والديمقراطية تخيفهم وقد أفشلوا الثورة التونسية والمصرية متسترين بإعلانات مساندة وتعاطف في البداية. سوريا الثورة المسلحة ترعبهم ولذلك سيكون كيدهم لها أكبر، فهم يظنون أنهم قد قتلوا ما سبقها واستتب لهم الأمر، وسوريا تظهر لهم كحالة منفردة أو وصلت متأخرة أو هكذا يصرون/ يتوهمون. الحذر من الأصدقاء المزيفين يسبق في تقدير من فشلت ثورته الاحتياط من أعداء معروفين وفي مقدمتهم دولة الكيان.
إيران المطرودة من المنطقة عدو مكشوف ويحتفظ بقدرة عالية على التخريب من الداخل، وقد عاد المرشد إلى التحريض. تقييمات الشهر الأول من نجاح الثورة أنها الثورة التي حررت ثلاثة بلدان (سوريا ولبنان والعراق) وهذا يضاعف الكيد الإيراني في البلدان الثلاثة. فالتململ الذي نطالعه في دولة العراق منذر بمزيد من دحر إيران، والأمر نفسه في لبنان حيث يضيق الخناق على من تبقى حيا من حزب الله. التقية الإيرانية سم زعاف في كأس ماء الثورة السورية، وهذا تذكير لا درس.
ومن النصيحة أيضا أن نقول للسوريين الثائرين أن لا يهتموا بأيتام بشار من العرب وهم يملأون الآن السوشيال ميديا والتلفازات، فهؤلاء "فاغنر إعلامي" يعيش بذلة مرتزقة فقد مشغّله، إنهم ينوحون على بشار وفي الحقيقة هم ينوحون على المصروف الذي انقطع. إن الاهتمام بهم مضيعة للوقت والجهد، ويكفي أن تصدر قوائم بأسمائهم مشابهة لقوائم كوبونات النفط التي كان يوزعها صدام حسين على أبواقه العربية ليخرسوا إلى الأبد. هذا طلب إلى الثورة السورية عسى أن تجد له فجوة من وقت.
الوعد السوري
التركة ثقيلة والمال قليل لكن الأمل السوري كبير، وشت لنا بذلك الوجوه والأقوال. لكن بعد انتهاء الاحتفالات بالنصر ستكشف الصعوبات عن وجهها. يملك السوريون قيادة ونخبا وشعبا، وورقات/ دروس مهمة هي دروس الفشل العربي وهذا أوان قراءتها لتجاوزها. وجب التنويه بأننا من خارج سوريا نعيد اكتشاف التنوع السوري المخيف (والمخصب في آن واحد)، لقد كنا نسمع عن سوريا المتعددة حتى اكتشفنا التعدد الحقيقي. كيف يتحول التعدد والتنوع (الإثني والطائفي والمذهبي) إلى عنصر قوة في محيط من التجاذبات غير البريئة؟ هذه معجزة سورية برسم المستقبل، فتوليف هذا التنوع في سياق سياسي وتحويله إلى عنصر قوة فعالة تعتبر مهمة جبارة.
اشتغل نظام البعث بالتفريق ليسود، والثورة تقف أمام مهمة إعادة بناء التنوع ضمن سياق لا يمكن إلا أن يكون ديمقراطيا.
الديمقراطية هي الكلمة المفتاح وفيها الخلاص لسوريا ولجوارها الجغرافي والإثني والطائفي. وترجمة هذا على الأرض أن سوريا وهي تعالج أدواءها تقدم حلا/ علاجا لأكثر من سوريا. "سوريا عربية" كانت عبارة تغمط حق غير العرب فيها، وسوريا مسلمة جملة أخرى ستغمط حق غير المسلمين فيها (إذا عنَّ للإسلاميين السُّنة فرض لونهم المذهبي)، فحتى إسلامها كشف لنا تنوعا عجيبا. مظلة الخطاب القومي سقطت إلى الأبد ومظلة الخطاب الإسلامي لن تغطي التنوع؛ وحدها الديمقراطية تغطي هذه الفسيفساء العجيبة.
هل يتسع الخيال السياسي السوري لتوليفة سياسية غير إثنية وغير مذهبية تخترق التنوع وتؤلف منه كتلة على أساس ديمقراطي؟ دون تقديم دروس من المتفرج إلى المقاتل هذا مفتاح مستقبل سوريا والمنطقة، ودون الحاجة إلى تصدير الثورة، الديمقراطية ستصدر نفسها.
النقاش الدستوري القريب سيوضح لنا الاتجاه، وفي الأثناء لنتواضع لشجاعة من حرر نفسه. هناك أمل، فذات يوم كانت دمشق عاصمة العالم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الثورة سوريا البناء الديمقراطية سوريا بناء ثورة ديمقراطية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك اقتصاد من هنا وهناك سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة السوریة
إقرأ أيضاً:
تحقيق استقصائي لرويترز.. كيف حصلت مجازر الساحل السوري وما دور الإدارة الجديدة فيها؟
في سياق المرحلة الانتقالية في سوريا، كشف تحقيق لرويترز نُشر في يونيو/ حزيران 2025 عن مذبحة مروعة قُتل فيها نحو 1500 مدني علوي بين 7 و9 مارس/ آذار، على يد قوات حكومية وميليشيات موالية للرئيس أحمد الشرع. اعلان
والمجزرة، التي وصفها التقرير بأنها "رد انتقامي" على تمرد محدود من موالين سابقين للأسد، أدت إلى مقتل نحو 200 عنصر أمني، لتكون الشرارة التي أطلقت موجة عنف غير مسبوقة في منطقة يُفترض أنها تشكل القاعدة الاجتماعية والسياسية التاريخية للنظام.
وتُظهر الشهادات التي استند إليها التقرير، إلى جانب مقاطع مصوّرة تم التحقق من مصداقيتها، أن عمليات القتل اتّسمت بطابع طائفي صريح. فالمهاجمون، بحسب إفادات الناجين، كانوا يسألون الضحايا عن انتمائهم الطائفي قبل تصفيتهم ميدانيًا.
إحدى العبارات التي كُتبت على جدران القرى المنكوبة كانت: "كنتم أقلية، والآن أنتم نادرة"، ما اعتبره مراقبون دليلاً على وجود نية للتطهير الطائفي، لا مجرد رد فعل أمني ميداني.
أما على مستوى البنية العسكرية التي نفذت المجزرة، فقد أشار تقرير رويترز إلى أن الفصائل المتورطة تضم تشكيلات مسلحة تنتمي إلى أطياف مختلفة من المعارضة المسلحة، أبرزها وحدات سابقة من "هيئة تحرير الشام" (الفرع السوري السابق لتنظيم القاعدة)، مثل كتيبة عثمان وجهاز الأمن العام، الذي تحوّل لاحقًا إلى وزارة الداخلية.
كما شاركت في العمليات فصائل مدعومة من تركيا، من بينها "فرقة السلطان سليمان شاه" و"فرقة الحمزة"، إضافة إلى فصائل سنية المذهب وتتصف بالتطرف مثل "جيش الإسلام" و"جيش الأحرار"، و"جيش العزة"، فضلاً عن مقاتلين أجانب من الإيغور والشيشان والأوزبك.
ووفقًا للتقرير، فقد شارك في عمليات القتل أيضًا مدنيون من أبناء الطائفة السنية، دفعهم الانتقام لمجازر سابقة ارتكبتها قوات الأسد بحقهم.
مظاهرة في واشنطن أمام البيت الأبيض تنديدًا بالمجازر ضد العلويين في الساحل السوري!والخطير في ما كشفه التحقيق أن العديد من الوحدات المتورطة في المجزرة أصبحت لاحقًا جزءًا من الأجهزة الرسمية للدولة الانتقالية. وتحديدًا، أظهر التقرير أن الناطق باسم وزارة الدفاع المؤقتة، حسن عبد الغني المعروف بلقب "أبو عهد الحموي"، كان يدير غرف العمليات الميدانية عبر تطبيق تليغرام، ويُنسق تحركات القوات المتقدمة، مستخدمًا عبارات تشجيعية مثل "جزاكم الله خيراً"، ما اعتبره معدّو التقرير دليلًا على تورط رسمي مباشر.
وعلى الرغم من تعهد الرئيس أحمد الشرع في تصريحاته العلنية بفتح تحقيق في الحادثة، إلا أنه حتى تاريخ نشر التقرير لم تصدر نتائج رسمية، ولم يُحاسب أي من المسؤولين عن المجزرة.
وقد خلّفت المجزرة آثارًا كارثية على المستوى الإنساني، إذ نزح آلاف المدنيين العلويين من قراهم نحو مناطق أكثر أمنًا، أبرزها مخيمات مؤقتة في محيط قاعدة حميميم الجوية. وقد تحوّلت قرى بأكملها إلى مدن أشباح، فيما يعيش من تبقى من سكانها في حالة ذعر مستمر.
وعلى المستوى السياسي، فإن ترقية عناصر متورطة في الجرائم إلى مناصب داخل المؤسسات الرسمية الجديدة، أضعف الثقة الشعبية في مسار العدالة الانتقالية، وطرح تساؤلات جوهرية حول مدى جدية مشروع الدولة ما بعد الأسد في إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري.
من جانب آخر، بقي ردّ الفعل الدولي، رغم خطورة المجزرة، محدودًا. وقد أشار تحقيق رويترز إلى أن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات رمزية على بعض الفصائل المدعومة من أنقرة، مثل "الحمزة" و"السلطان شاه"، بينما لم تُصدر الولايات المتحدة أي موقف رسمي أو عقوبات مرتبطة بالمجزرة حتى الآن.
Relatedشكوى أمام الجنائية الدولية ضد أحمد الشرع على خلفية المجازر ضد العلويين وأقليات أخرىفرحة رحيل الأسد ينغّصها الخوف والقلق مما هو آت.. توجس في أوساط الطائفة العلوية من حكام دمشق الجددمهمة شاقة تنتظر أردوغان لاستمالة الأقلية العلوية الكبيرةويفسر بعض المراقبين هذا الصمت الدولي بالحسابات الإقليمية المعقدة، والخشية من انهيار الحكومة الانتقالية، لا سيما في ظل الانقسام الحاد داخل المجتمع السوري، واستمرار تهديد الجماعات المتطرفة.
ما توصل إليه التحقيق – الذي اعتمد على مقابلات مع أكثر من 200 من ذوي الضحايا و40 من المقاتلين والمسؤولين، إلى جانب تحليل مقاطع فيديو وبيانات حكومية – يضع القيادة السورية الانتقالية أمام اختبار مصيري. فالمجزرة لم تكن عملاً عشوائيًا أو معزولًا، بل جريمة ممنهجة ذات تسلسل قيادي واضح، بحسب التقرير، ما يضع البلاد أمام معضلة عميقة: كيف يمكن التأسيس لمسار عدالة حقيقية في ظل استمرار الإفلات من العقاب؟ وكيف يُمكن تحقيق مصالحة وطنية شاملة في بلد لم يشفَ بعد من جراح الطائفية والعنف المنظّم؟
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة