(1)
د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
مقدمة
تحديداً، وفي الربع الأخير من حياة القرن العشرين، عاشت حركات راديكالية، ملأت الوجود، وشغلت الناس، وأشعلت العقول. وبدأ الناس كلهم أو معظمهم، أو كلهم ومعظمهم، وفي جميع اركان كوكبهم وأنحائه، يشعرون بقرب الجديد، وانبلاج الحديث، يحسونه فيما حولهم من موجودات، ويسمعون همساته في مجتمعاتهم الناشئة.
كما أنها أثرت على المفهوم القديم للفلسفة، تلك الفلسفة التي تسعى جاهدة، وراء معرفة أسرار الوجود، واكتشاف كنه الواقع. وتأثرت أيضاً، بالتقدم العلمي الحديث، الذي أثار نظريات وأفكار فلسفية تجاه التحليل اللغوي، والمحتوى العقلي، وبعد ذلك دراسة العلوم المعرفية والنفسية.
وتحاول الفلسفة فعلياً، الكشف عن طبيعة الحقيقة وجوهرها، ونوع المعرفة وكنهها، والحصول على ما هو ذو قيمة أساسية، وهامة في الحياة. كما تحاول دراسة العلاقات المتبادلة بين عالم البشرية وعالم الطبيعة المحيطة، وبين الفرد والمجتمع الذي يضمه.
وتنبثق الفلسفة وتتفتح من ثورة الشك، ورحم التعجب، وجوع الفضول، وحب المعرفة، والاستعداد للفهم. الفلسفة إذن هي نوع من البحث – عملية دراسة ونقد وتفسير وتأمل. إنها تساهم في عملية التقدم البشري منذ العصور القديمة، ومروراً بالقرون الوسطى، وحتى الوصول الي نقطة نهاية غير ملحوقة.
تبدأ طريقة أو عملية التنمية البشرية بالمفاهيم، وتستمر طوال نبضات الحياة البشرية. إنها تأخذ العديد من الدورات التدريبية، طالما يتطور كل إنسان بطريقة معينة ومحددة، تختلف عن طرق الأخرين، تُغرس أو تُزرع في تربة بيئته أو بيئتها.
ومع ذلك، ليس من السهل تحديد تاريخ دقيق لميلاد هذه الانتفاضة العلمية، والثورة الفلسفية. ويمكننا القول، مثل كل شيء آخر له بداية، أنها بدأت، ولا سيما مع أعمال أرسطو، مع مدرسة الإسكندرية، ثم تدفقت العلوم الطبيعية وانسابت باتجاه المصب "أوروبا الغربية" من ينابيع وعيون العرب والمسلمين.
وإذا كان لابد من تسليط الأضواء على زمان معين، لجعله نقطة تجميع أو مركز تجمع، فيجب أن يكون ذلك، -على مدار القرنين السالفين- عندما كان العقل البشري يتحرك، ويعمل تحت شرائع وقوانين بيكون، ومفاهيم وأفكار ديكارت، واكتشافات جاليليو.
بعد هؤلاء كلهم، كانت روح الفلسفة الوضعية (the positivism) حاضرة، وهي التي حلقت عالياً، في اتجاهات معاكسة لتيارات الخرافة والاسطورة، والمدارس الفلسفية الأخرى، تلك التي أخفت بالفعل الطابع الحقيقي لكل العلوم الطبيعية والانسانية.
وقد كان نمو الفلسفة الوضعية بايناً، لكل صاحب عينين، ولكل من له لسان، ويتمتع بشفتين، ولا يوجد عقل عقلاني متفتح، يشك، ولو للحظة مقدارها غمضة عين وانتباهها، في أن هذه الثورة مقدر لها أن تصل إلى نهاياتها، قريباً أو بعد حين.
وحتمياً، سيتم إدخال كل فرع من فروع المعرفة، عاجلاً كان أم آجلاً، في عملية الفلسفة الوضعية. بالطبع هناك البعض الذين ما زالوا يسعون عراة حفاة غرباء في شتاء الخارج، ولم تتم دعوتهم بعد. وتتمتع الفلسفة الوضعية بميزة الشعور بالشعبية، وهو أمر ضروري لقانونها ولتكوينها الشفاف.
ويبدو أن الفلسفة الوضعية بمثابة جهد مكمل للجهود السابقة، أو أنها خطوة أساسية مهمة في السلم الفلسفي؛ إنها محاولة فلسفية معاصرة لإلغاء التنوع والاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وذلك من خلال تطبيق نفس الآلية المستخدمة في العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية. وباختصار، الفلسفة الوضعية تتبنى مقاربات تطبق المنهج العلمي على الشؤون الإنسانية.
ووفقاً "لأغوست كونت" (Auguste Comte)، يستخدم العقل البشري بشكل طبيعي في تطويره وتطوره ثلاثة مناهج للفلسفة وهي: المنهج اللاهوتي والمنهج الميتافيزيقي ومنهج الفلسفة الوضعية. وتختلف طبيعة كل واحده منهن عن رفيقاتها بصورة جذرية، وبشكل اساسي، حتى أنهم أو انهن متعارضات تماماً، بدون ان يكون بينهما اي نوع من أنواع التقاطعات أو التشابهات، ولو تلك الشاحبة.
الأولي، علم اللاهوت، هو نقطة انطلاق مهمة في المعرفة البشرية التقليدية، والثالثة، ونعني بها الفلسفة الوضعية، فهي تعتبر حالتها القوية والنهائية والحاسمة، بل تعتبر قمة القمم في هذا المدرج الفلسفي الشامخ. أما الثانية، الميتافيزيقيا، فهي ليست سوى حالة انتقالية أخذت لها حيزاً لا باس به بين الأولي والأخيرة.
فالفلسفة الوضعية في موقفها الأيديولوجي الأساسي هي دنيوية وعلمانية ومعادية للاهوتية ومعادية للميتافيزيقية، ومحبه للعلم، فهي منه وهي اليه.
وهناك نظير تشابه، كما رآه "كونت"، بين تقدم أنماط التفكير في تاريخ الإنسان كله؛ من جهة؛ وفي تاريخ تطور الشخص من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ؛ من جهة أخرى.
ففي المرحلة اللاهوتية الأولى أو المعروفة باسم المرحلة اللاهوتية، تكون الظواهر الطبيعية والأحداث الطبيعية الكبرى نتاج عمل وأفعال قوى خارقة للطبيعة أو قوى إلهية. ولا فرق هناك بين الدين الذي يؤمن أفراده فيه بتعدد الآلهة أو الدين التوحيدي الذي يؤمن افراده بإله واحد، فكلاهما سيان.
وفي كلتا الحالتين، يُعتقد أن القوى الخارقة هي التي تولد أو تخلق تلك الأحداث المشهودة. وقد ألقى "كونت" باللوم على هذه المرحلة باعتبارها مرحلة تجسيمية أو تشخيصية، أي أنها تستند إلى جميع المقارنات البشرية أيضاً.
أما المرحلة الثانية، والمسماة بالميتافيزيقية هي في عدة حالات وأحوال، مجرد علم لاهوتي منزوع الشخصية والهوية. ويفترض أن عمليات الطبيعة التي يمكن ملاحظتها تنبثق من قوى غير شخصية أي قوي خارقة غير مرئية. ونوع الإثمار أو الثمار المفقودة في هذه المرحلة، يمكن أن يتم تحقيقها وجنيها في المرحلة الثالثة، مرحلة الجانب العلمي أو الوضعي.
فوظيفة العلوم والمعرفة بشكل عام، هي دراسة الوقائع والنظاميات وتحليلها، حيث لا يمكن للقوانين أو التوضيحات أو التفسيرات للظاهرة أو للظواهر أن تتكون إلا في حالات معينة تحت مظلة القواعد العامة. وقد وصل الجنس البشري إلى النضج الكامل لتفكيره، فقط، بعد أن ترك وركل وراءه التفسيرات الزائفة للمراحل اللاهوتية والميتافيزيقية، وتناوب الولاء غير المشروط للمنهج العلمي.
عفواً، هناك ملحوظة تقول بأن المرحلة التي تعقب مرحلة كان لها السيادة الزمانية والفكرية قبلها أو تلك التي سبقتها في هذا المضمار، لا تعني فناء هذه السالفة وتلاشيها وتشييعها الي مثواها الأخير، ولكن تعني بان السيادة انتقلت لتلك المرحلة اللاحقة الجديدة، مع وجود تأثيرات ضعيفة وواهنة للسابقة التي سبقتها.
ولاحقاً، سنتناول هذه المراحل الثلاثة، بشيء من الاستفاضة الضرورية، وبشيء من التفصيل الممل كماً، والممتع نوعاً. وستنال كل واحدة منهن نصيبها كاملاً من الشرح، ومن التوضيح، ومن التفسير، وسنلتزم في ذلك جانب الحياد التام والموضوعية السافرة، فلن نؤثر في مزاج أي منهن أو نخدش حيائهن.
توضيح مهم
ذكر "أوغست كونت" (Auguste Comte) وهو يشرع في القاء دروسه "دروس الفلسفة الوضعية"، قائلاً: "ستنال الفلسفة الوضعية، بسبب قيام وتأسيس علم الاجتماع وانشائه، طابع العموم الذي مازالت تبحث عنه بلهفة محمومة وهو ما ينقصها حقيقة، وبهذه الطريقة ستصبح هي مؤهلة للتربع والاستواء على عرش الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقية. ويعتبر هذا العموم أو طابعه الخاصية الحقيقية الوحيدة لها في الوقت الاني الحالي." وقال كونت:
"ان انشاء علم الاجتماع قد جاء اليوم لتحقيق الوحدة الأساسية في المذهب الكامل للفلسفة الحديثة."
ويعزو تاريخ تأسيس هذا العلم، الذي تتوقف عليه بقية المذهب، الي ذاك اليوم أو تلك اللحظة الذي/التي كشف فيه أو فيها كونت عن القانون المسمى بقانون الحالات الثلاث (اللاهوتية والميتافزيقية والعلمية أو الوضعية)، لأنه متى ما أخذ هذا القانون له حيزاً في الساحة وثبت أقدامه فان "علم الطبيعة الاجتماعي" لا ولن يظل مجرد فكرة فلسفية، بل يصبح علماً وضعياً.
وها هي ذي الطريقة التي تبعها واتبعها "كونت" في تعريف وفي تحديد صيغة هذا القانون في رسالته المسماة "خطة البحوث العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع" والتي كانت عام 1822م:
"بناء على طبيعة العقل الإنساني نفسها لابد لكل فرع من فروع معلوماتنا من المرور في تطوره بثلاث حالات نظرية مختلفة ومتتابعة: الحالة اللاهوتية أو الخرافية، والحالة الميتافزيقية أو المجردة، وأخيراً الحالة العلمية أو الوضعية."
وبعد أن أعاد "كونت" صياغة هذه الصيغة في الدرس الأول من قرطاسه "دروس الفلسفة الوضعية" أضاف لها:
"وبعبارة أخري يستخدم العقل الإنساني بطبيعته، في كل بحث من بحوثه، ثلاث طرق فلسفية متتابعة تختلف اختلافاً جوهرياً، بل قد يكون مضاداً: وهي أولاً الطريقة اللاهوتية، ثم الطريقة الميتافيزيقية، وأخيراً الطريقة الوضعية.
ومن هنا تنشأ ثلاثة أنواع من الفلسفة، أو من المذاهب الفكرية العامة عن مجموع الظواهر. وتتنافى هذه الأنواع الثلاثة بعضها مع بعض. و"الفلسفة" الأولى نقطة بدء ضرورية للذكاء الإنساني، وأما الثالثة فهي حالته النهائية الثابتة، وأما الثانية فقد قدر لها أن تستخدم فقط كمرحلة انتقال."
ويستعمل كونت هنا كلمة اللاهوت وكلمة الميتافيزيقيا بمعنى خاص وممعن في الخصوصية جداً، وايضاً محدد تحديداً دقيقاً. يطلق "كونت" عنوان اللاهوت على طريقة تطبق في فهم وإدراك مجموعة الظواهر الطبيعية بإرجاعها الي إرادة الآلهة وقوتها الخارقة للعادة. فهو هنا لا يعني الجدل النظري حول المسائل وحول الشؤون الإلهية على النحو الذي يفهمه الناس عادة. أي باعتباره علم عقلي أو مقدس.
وعندما يردد هذا النعت فهو بعيد جداً، وأبعد ما يكون عن التفكير في التحقيق في الحقائق المنزلة، ولا يستعمل أو يستخدم هذه التسمية الا فقط للدلالة على شرح وتفسير ظواهر الطبيعة التي تظهر بسبب من الأسباب الخارقة للعادة وتلك القائمة على التعسف أو بسبب المعجزات.
فكلمة لاهوتي في نظره أي في نظر كونت تعني "خرافي" وفي مكان غير هذا المكان، يطلق "كونت" على هذا النوع من التفسير اسم "خيالي" أو "أسطوري". وبهذا المعنى استطاع أن يسأل ويقول:
ألا يتذكر كل أمريء منا فيما يتعلق بأهم ما يشغل عقله من مسائل أنه كان لاهوتياً في طفولته، وميتافيزيقياً في صباه، وعالم طبيعة في مرحلة نضجه؟
ولا يوحي ايحاءً أو يشير "كونت" ولو مجرد إشارة هنا الي التقاليد الدينية التي يتعلمها الطفل أو يتلقاها عن والديه، ولكنه يميل ميله الفطري الذي يشجعه ويدعوه في أول الأمر الي تفسير الطبيعية وظواهرها ببعض الارادات لا ببعض القوانين. فكلمة لاهوتي هنا تعني ان الفرد الانسان يعزو الي الآلهة رغبات وتصرفات وسلوكيات إنسانية، ويرجع اليها في شرح وتفسير أسباب الظواهر، ويُطلق على هذه الظاهرة في التفكير اسم "مذهب التشبيه" .
وعلى نفس الإيقاع ومواله، لا يستخدم او يستعمل "كونت" مصطلح أو كلمة ميتافيزيقيا في معناها المألوف عادة والمتداول دائماً. فلا علم الوجود من حيث هو وجود، أو علم الظواهر، أو علم المبادئ الأولى هو المنشود وهو المقصود هنا بطريقة مباشرة في الأقل، ولكن المقصود هنا نوع خاص من شرح وتفسير الظواهر التي توقفنا عليها، ومثالاً لذلك فأن فرض الأثير الذي يستخدم في "علم الطبيعة" لتفسير الظواهر الضوئية أو الكهربائية يعتبر فرضاً ميتافيزيقياً. وأيضاً مثال ذلك فرض المبدأ الحيوي في علم وظائف الأعضاء، وفرض الروح في علم النفس، ويقول "كونت" انه تفسير ميتافيزيقي أو تفسير مجرد.
حقيقةً وفي الواقع، ليس هذا النوع من التفسير الا النوع السالف، وقد جُرد جانب كبير من صبغته فبدا شاحباً باهتاً. وهكذا يمكننا القول بأنه يختفي ولا يُرى بالقدر الذي لا يرجع فيه الشخص الظواهر الطبيعية التي يشاهدها ويلاحظها مشاهدة وملاحظة أفضل الي ارادات وقوي تتقلب مع الهوى الي قوانين ثابتة.
فيجب علينا اذن أن نكون حذرين وواعين كفاية، وألا نستعمل أو نتناول هنا لفظي "ميتافيزيقيا" و"لاهوت" بالمعني التام الكامل لكل منهما، فاذا قرا واستنبط البعض منا من قانون الحالات الثلاث، أن تطور الإنسانية سيبتعد بها دائماً عن اللاهوت، لكي يفضي بها الي حالة نهائية لا يجد فيها الدين موقعاً ولا مكاناً له، كان معني ذلك أنه يخطئ خطأ غريباً وعجيباً وكبيراً في فهم "نظرية كونت"، ان تقدم الانسان يقودها، على خلاف ذلك، الي حالة ستكون دينية بالتمام والكمال، وفي هذه الحالة سيرتب وسينظم الدين حياة الانسان باسرها. وربما لم يعترض ولم يرفض "كونت"، تعريف الانسان بأنه حيوان ديني، كما عُرف على هذا النحو في بعض الأحيان وفي كثير من الأحايين.
فبمعني ما، يمكننا ويمكن للجميع ان يتصور تاريخ الإنسانية كما لو كان تطوراً تبدأ حركة سيره بالديانة البدائية (الوثنية) وينتهي الي الديانة النهائية (الوضعية). ولكن أبداً ليس موضوع هذا القانون هو أن يعبر عن التطور الديني للإنسانية. وهو لا يتعلق الا بتقدم الذكاء الإنساني، وهو على علاقة بذلك فقط، وهو يبين الفلسفات المتتابعة التي وجب أن يرتضيها هذا الذكاء في تفسير الظواهر الطبيعية، فهو باختصار القانون العام لتطور التفكير، لا غير ذلك ولا زيادة على ذلك.
... للسيرة سلسلة متتابعة من الحلقات...
bakoor501@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الظواهر الطبیعیة العلوم الطبیعیة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى ميلاده.. أحمد خالد توفيق العرّاب الذي غيّر وجه الأدب العربي
"نحن نكتب لأن هناك من يُصغي، حتى وإن لم نرَه... نكتب لأن الكلمات تخلق العالم، وتنقذنا من قسوته"، بهذه الروح، عاش الدكتور أحمد خالد توفيق، وبهذه الروح كتب، فصار للعربية جسرٌ جديد إلى قلوب الشباب، وصار هو العرّاب الذي قاد أجيالًا كاملة في رحلات بين السطور، بين الرعب والفانتازيا، بين الطب والحياة، بين الموت ومعناه الحقيقي.
وُلد أحمد خالد توفيق في 10 يونيو 1962 بمدينة طنطا، محافظة الغربية، نشأ في أسرة مصرية عادية، ودرس الطب في جامعة طنطا حتى حصل على الدكتوراه في طب المناطق الحارة، لم يكن الطب نهاية الطريق، بل كان بداية موازية لمسارٍ آخر، سلكه بشغف أكبر: الكتابة.
دخل عالم الأدب من أوسع أبوابه في التسعينيات، حين كتب أولى سلاسله الشهيرة "ما وراء الطبيعة" عام 1992، بعد أن رفضت المؤسسة العربية الحديثة روايته الأولى، لتعود وتطبعها بعد إصراره ومثابرته، كانت تلك البداية فقط، سرعان ما تبعتها سلاسل مثل "فانتازيا" و"سفاري"، التي أسرت القلوب وأطلقت الخيال من قيوده.
في زمنٍ كانت فيه المكتبات تمتلئ بالكتب المترجمة ويفتقر الشباب العربي لأدب يعبر عنهم، جاء أحمد خالد توفيق ليمنحهم بطلاً يشبههم، بأسلوب سهل عذب، يحمل عمقًا خلف بساطته، وروحًا ساخرة خلف وقاره، لم يتعالَ على القارئ، ولم يتكلف الفلسفة، بل خاطب القلوب قبل العقول، فتعلّق به القرّاء كأنهم وجدوا صوتهم في كلماته.
كتب أكثر من 500 كتاب بين سلاسل، وروايات، ومقالات، وترجمات، لكن روايته "يوتوبيا" التي صدرت عام 2008 كانت علامة فارقة، إذ خرج بها من إطار أدب الشباب إلى ساحة الرواية العربية الجادة، وتُرجمت إلى أكثر من لغة، لتُعرف كواحدة من أجرأ الروايات في نقد الواقع المصري.
ومع الوقت، تحوّل "العرّاب"- كما أطلق عليه قراؤه- إلى ظاهرة ثقافية، لم يكن فقط كاتبًا يروي قصصًا، بل كان أبًا روحيًا لجيلٍ بأكمله، منحهم الأمل حين ضاق الواقع، وفتح لهم أبواب الخيال حين أُغلقت النوافذـ، كان صوتًا حنونًا في زمنٍ صاخب، وخفيف الظل في عتمةٍ ثقيلة.
ولم تكن حياته تخلو من مواقف إنسانية، فقد عُرف بتواضعه الشديد، وحرصه على التواصل الدائم مع قرائه، لا سيما على الإنترنت، حيث كان يجيب على أسئلتهم، ويشاركهم مخاوفهم وطموحاتهم، حتى باتوا يشعرون بأنه صديق حقيقي لا مجرد مؤلف.
روى أحدهم مرة أنه التقاه مصادفةً في معرض الكتاب، وكان يرتدي ملابس بسيطة ويحمل حقيبة ظهر، كأي زائر عادي، لم يكن يحيط نفسه بهالة نجومية، بل بتواضع العلماء ودفء المعلمين، حكى له الشاب عن تأثره بسلسلة "ما وراء الطبيعة"، فابتسم العرّاب وقال: "الحمد لله إن الكلام ده نفعك.. أنا كنت بكتبه لنفسي في الأول."
رحل أحمد خالد توفيق في 2 أبريل 2018، عن عمر ناهز 55 عامًا، لكن وفاته لم تكن نهاية، بل بداية فصل جديد من الحب والوفاء، شيّعه الآلاف، وذرف القرّاء الدموع، وكأنهم فقدوا قريبًا لا كاتبًا، ومنذ ذلك اليوم، تحوّلت صفحاته ومؤلفاته إلى مزارات أدبية، يعود إليها الناس بحثًا عن الدفء، والفهم، والحنين.