الترجمة والنقد السِّياق والمُنجْز

ناصر السيد النور *

تعدُ اللغة منطقة تقارب وتداخل بين الترجمة وأدواتها المتخصِّصة الفعليِّة والنقد وأدواته التحليلية التفاعلية في بنية النص اللغوي، إلا أن المسافة المتقاربة التي عادة ما تتخلَّلها ربما اختلافات منهجية تأسيساً للنص المعالج ترجمة أو نقدا. فالمرجعيات اللغوية داخل سياق المصطلحات وتراكيبها اللغوية تعمل في كل من الحقليِّن بوتيرة متشابهة وإن اختلفت المقاصد بين ترجمة تستهدف نقل النص إلى متن لغوي مقابل ونقد يتبحر في دراسة نص تتأوله مستويات متعدِّة من الكتابة (الأدبية، والشعر، والفكرية والفلسفية…الخ).

وتخضع نفسها للترجمة بتعدِّد مصادر هذه المحتويات. ولكن اختلاف السيِّاق لا يعني أن ثمة تباعداً يفضي إلى تناقض منهجي أو مفاهيمي. فاللغة في النقد لا تعبر مفصحة إلا بتفكيك اللفظ والمصطلح والمعني ودلالته وفق منطوق يستدعي مكنة وذائقة متبادلة على نفس مستوى النص؛ بينما الترجمة تحكمها ثنائية النقل والتفسير أي العمل بين مسارين يحتفظ كل منهما بقاعدته المنهجية لغوية كانت أم دلالية تحديداً للمعني اللفظي أو بحثاً عن مكنزماته المضمرة. وهذا التوافق لا يتُّم دون قاعدة علمية حاكمة وناظمة تستند إلى بنية نظرية عملية ورؤية إبداعية قادرة إلى الوصول إلى عمق النص. وعلى قدر ما استوعب وحمل النقد مَشّقَة سبر أغوار المعرفة العقلية على مرِّ العصور ازدادت الحاجة النظرية والتطبيقية لأدوات تستوعب للنص اللغوي كنصٍ يقرأ علامات اللغة والوجود.

وإذا كانت المدخل التعريفي لكل من الترجمة والنقد يختلفان في المفهوم ويتباعدان في الممارسة، فإن الترجمة قد استقرت بوصفها فعلاً تتم معالجته في النصوص ويتخذ من المادة المنفذة برهاناً عليه، أي تقابل نصاً بنص على خلاف النقد بتعريفاته المتعددة مجمعيا واصطلاحياً وربما ايدولوجيا. فالتعريف قد لا يشير إلى التداخل، ولكنه يقرَّب على مستوى الدلالات المشتركة لغوياً وإلى حدٍ ما منهجيا. وغني عن القول إن الترجمة Translation والنقد التطبيقي Critique أو حكماً نقديا Criticism مفاهيماً كما في تداول الخطاب النقدي العام يحيلان إلى نشاطٍ بعينه وينجزان باستيعاب طاقة النص واحالاته وترحليه إلى مستوى لغوي آخر. ولكل منهما نظرياته المرجعية وحساسيته الإبداعية في التعامل والمعالجة النصية. ولأن القراءة من بين تأويلات النص أو تقصياً مضامينه وإشاراته وما يداخله من موضوعات لغوية.  الأمر الذي يعود إلى تفكيك بنية النص مجدداً بما تستوعبه الطاقة النقدية احاطة بمقتضيات القراءة النقدية فيما يلزم من شروط تختلف درجة الحكم النقدي فيها عن محددات الترجمة ودقتها.

وليس من بعدٍ تاريخي يربط العلاقة بين الترجمة والنقد أكثر من تاريخ الكتابة النصيِّة نفسها في بعدها اللغوي التاريخي المُكِّون لتراكيبها المتوافقة وبينتها اللغوية، وبما تحدثه في بنية النص اللغوي. والنقد معالجة معرفية منحازةً إلى رؤى مسبقة في المنهج والرؤى والتطبيق؛ والترجمة بثبات حيادتيها التي لا تقبل التدخل بغير الاحالات اللغوية وفق منهج مُحكم تقيده معاني المفردات ودلالاتها. ولكن تبقى نظرية اللغة في كل من الترجمة والنقد متنازعة بين النص المستهدف بالترجمة أو النقد على المستوى المادة النصية المعالجة. والنقد طرح يقوم على التجاوز؛ وبداية قاسية لاختبار معينات الفكر ونتائج العلم في التمهيد لتمظهر رؤية لا تقتصر على ما يسود من علائق متداخلة بقدر ما في سياق التفكير الانساني. النقد هو الوعي بالتاريخ الذي هو وعي بالكتابة بوسيلة أخرى.

وبوجه من القول، فإن معايير الترجمة عند قياسها على المستوى النقدي والمنجز الكتابي تكون مقروءة داخل سياق التطور الحضاري للغة أمة ما. وكذلك تقتضي الترجمة التتبع على المستوى الشعري تقصياً للنص في مقابلاته الاصطلاحية وطاقته اللغوية وتصوراته الشعرية في فضاءات اللغة ومساراتها. وتقوم الترجمة التي تنقل الأفكار والسرد المتخيل إلى لغات عديدة في عملية تفاعلية بين الثقافات والفكر واللغات. واللغة لا تعمد إلى تفسير النص الروائي وتحليل نسق البناء اللغوي وعلاقات المفردات والدلالات المعجمية والتركيبية فحسب، بل تعمل بالتطابق والموافقة الموضعية بين مستوى اللغات التي تنطق بها الشخصيات في الرواية والعلامات الأخرى التي توجد بقوة الفعل اللغوي نفسه في النص. وبما أن الجدل النقدي قد احتدم حول مسوغات الاستخدام اللغوي ومستوى لغات الترجمات (ترجمة الأدب) ومدى مناسبة اللغة التي تنطق بها؛ خاصة إذا كانت اللغة المستخدمة لا تناسب طبيعة النص المترجم في أبعاده التخيلية واستعاراته المتضمنة في طبقات اللغة! وإن كانت بعض النظريات في الاتجاه الواقعي في الرواية في القرن العشرين قد برّرت لذلك بمبررات أيدولوجية لا تنتمي إلى النقد العلمي المنهجي بما لا يتوافق مع منهجيات الأدب المقارن.

إن التواصل اللغوي، وهو مبتغى اللغة في سكونها الراسخ بأدواتها التعبيرية ومنطقها اللغوي، وانتقالها بتغير دلالاتها إلى مجال يستنبط أدواته توافقاً مع ما تستدعيه الترجمة من إشارات مهمة؛ الأمر الذي جعل الترجمة تكتسب ما تصيغه اللغة من حيث الاستخدام والتطبيق. فاللغة محور مشترك بينما الترجمة مستويات متعددة من البحث لإيجاد صيغة توافق مرجعية تجميع بين خلفيات ثقافية متعددة. فالجهود النظرية في الترجمة أو في عملية الترجمة جعلت من الترجمة فناً لم يبلغ بعد درجة العلم رهنا بالنتائج المختلفة التي يتوصل إليها مختلف الأفراد المستخدمون للغة. فاللغة هي المنطوق والترجمة هي التفسير الذي يتعدى اللغة إلى التفسير المستخدم لغويا لإيصال المعلومة أو المعنى هي بمعني أشمل إعادة للتعبير والتفسير معًا.

إن اللغة ليست حالة منفصلة عن واقع التطبيق الفكري، كما أتجه اللغوي السويسري فريناند دي سوسير لدراستها في ذاتها ولذاتها، دون البحث عن مبررات علميّة بإضفاء الصبغة التطبيقية البحتة كأنثروبولوجيا اللغة والمباحث الفنولوجية والأدوات المنهجية الأخرى المجاورة للغة. وأن تترك في أفضل الأحوال ضمن حيز اللغة الاجتماعي. ولكنها، أي اللغة دائرة اتصال متعينة الوجود في التداول اللفظي المحدد، أحادي اللغة بينما الترجمة هي الحالة الثنائية للتتابع اللفظي بحثاً عن صيغة تكافؤ لغوي يقتصد الألفاظ ويبقي على المعاني. ومن هنا يكون النقد مصدراً مكوِّنا للرموز كما يقول في تشريحه النقدي الكلاسيكي يقول الناقد الكندي نورثروب فراي في ملاحظته النقدية: “عند قراءتنا لأي موضوع [نصّ] فإن انتبهنا يتحرك باتجاهين أحدهما الى الخارج ما نقرأ من كلمات، وما تعنيه هذه الكلمات أو عملياً بالعودة الى ذاكرتنا للربط بينهما. أما الاتجاه الآخر فإلى الداخل الجاذبية التي نحاول من خلالها نطور من الكلمات أو الإحساس. ففي كلا الحالتين نتعامل مع مرموزات، ولكن فيما يربط المعنى الذي لدينا، بالإضافة الى الرمز الشفاهي أو ما يمثله أو ترمز اليه”. وهو التفسير الذي يقارن بيِّن النص في الواقع ونقده.

ينجز كل من الترجمة والنقد بما تقتضيه المنهجية التحليلية المتبعة في التعامل مع النص اللغوي، ويكون مبلغ ذلك حالة الإجلاء أو البيان نقلاً للغة النص (ترجمة) أو تحليلاً لبنية النص (نقد). ويلزم ذلك السياق المعرفي أو التقني بما توفره آليات التحليل الذي يتقَّوم بمعطيات نصية أيٍ كانت من حيث التصنيف على المستوى الأدبي والفلسفي والفكري. وبما أن مقاربة الترجمة والنقد من الموضوعات التي لم يتمُّ مقاربتها بما يؤسس لنظرية تجمع بين مسارات الترجمة والسياقات النقدية إذ إن كلا منهما يتأسس على النص اللغوي. ولأن تباين المجالين بين أداة ناقلة للنص وأخرى تعيد قراءته ومن هنا يتاخم التأويل النقد أو يكون مكون من مكوناته الجوهرية في معالجة النصوص مما يوسع من دائرة الرؤية النقدية. وتبقى ثنائية الترجمة والنقد كفعل تقتضي ممارسته الإحاطة المعرفية الشاملة باللغة وعلومها – ترجمة ونقدا- التي   يتعذر بدونها تصور وجودها بدون لغة كوسيط تتكثف فيه الدلالات والمدلولات اللغوية، لتضع المنجزات اللغوية في الترجمة والنقد ببعدهما اللغوي الإبداعي والمعرفي. فالنسق الذي تعممه الدراسات الإنسانية والثقافية والمجالات المفتوحة يجعل من الترجمة والنقد مسارين يتلازمان بضرورة الفعل وتقصي المرامي اللغوية وإن تمت ممارستهما في حلقين منفصلين ظاهريًا.

 *  كاتب ومترجم سوداني

الوسومالأدب الأدب السوداني الترجمة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأدب الأدب السوداني الترجمة

إقرأ أيضاً:

ننشر النص الكامل لتوزيع الدوائر الانتخابية في جميع محافظات الجمهورية

كتب- نشأت علي:

ينشر مصراوي النص الكامل لمشروعي قانوني الانتخابات البرلمانية، التي أعدتها أحزاب مستقبل وطن، وتنسيقية الأحزاب والسياسيين، وحزب الشعب الجمهوري، وحزب حماة وطن.

وقال زعيم الأغلبية البرلمانية عبدالهادي القصبي، إن التعديلات تراعي التجاوز الجغرافي بين المحافظات في كل دائرة من الدوائر الانتخابية المخصصة للانتخاب بنظام القائمة، وفقا لأحدث الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء والهيئة الوطنية للانتخابات لعام ٢٠٢٥، حيث تم إعادة توزيع المقاعد على جميع دوائر الانتخاب بنظام القائمة بما يتماشى مع متوسط التمثيل النيابي ونسب الانحراف المقبولة، مشيراً أنه تم توزيع تقسيم الدوائر المغلقة المطلقة في (٤) دوائر انتخابية بواقع (٤٠) مقعد بدائرتين و(١٠٢) مقعد بدائرتين أخرتين، بإجمالي (٢٨٤) مقعد لنظام القوائم، أما بالنسبة لمجلس الشيوخ فتم إعادة توزيع مقاعد القوائم على أربع دوائر بواقع (١٣) مقعد لدائرتين و(٣٧) مقعد للدائرتين الأخرتين بإجمالي (١٠٠) مقعد لنظام القوائم.

وجاء نص القانون على النحو التالي:

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

قانون الانتخابات البرلمانية الدوائر الانتخابية حزب مستقبل وطن

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة أحمد الباز: "مستقبل وطن" يطلق قافلة طبية مجانية بكفر الزيات في هذا الموعد أخبار "مستقبل وطن" يطالب بإعادة النظر في مشروع قانون الإيجار القديم أخبار "مستقبل وطن" يطالب بإعادة النظر في القيمة الإيجارية ومدة الـ 5 سنوات بقانون أخبار زعيم الأغلبية: الرقم القومي للعقارات يساهم في تنقية سوق العقارات وحماية أخبار

إعلان

إعلان

أخبار

ننشر النص الكامل لتوزيع الدوائر الانتخابية في جميع محافظات الجمهورية

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

ننشر كراسة شروط سكن لكل المصريين 7 لحظات رعب داخل أسانسير الموت.. ناجٍ من حادث مصعد المستشفى الجامعي بالمنوفية يروي التفاصيل تغيير في القوائم والفردي.. ملامح تعديلات قانون انتخابات "النواب والشيوخ" رابط التقديم في وظائف المدارس المصرية - اليابانية 2025 من 15 إلى 45 يومًا.. اعرف حقك في الإجازة السنوية بقانون العمل الجديد بدء حجز سكن لكل المصريين 7.. كراسة الشروط إلكترونيا والمقدم في البريد 27

القاهرة - مصر

27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • تغيير أسماء الأشخاص الغريبة والمُحرِجَة
  • ننشر النص الكامل لتوزيع الدوائر الانتخابية في جميع محافظات الجمهورية
  • جوجل تكسر حاجز اللغة.. ترجمة صوتية فورية في Google Meet
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • صراعات القوى وصعود البدائل.. رؤى متنافسة لمستقبل النظام الدولي
  • شعر التفعيلة والنثر في النص الشعبي
  • جامعة القاهرة توقع مذكرة تفاهم مع مركز التبادل الدولي للتعليم اللغوي بالصين
  • إطار لجنائزية الصورة في مجموعة «وجه صغير يتكدّس في كل ظهيرة»
  • خطاب خارج النص
  • رئيس مجلس النواب: نعتز بالعلاقات الراسخة والمُتجذرة التي تربطنا بالسعودية