لجريدة عمان:
2025-05-15@18:55:58 GMT

حرق المصحف.. والأخلاق الليبرالية

تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT

يونيو 2023م.. شهد حرقا للمصحف في السويد والدنمارك، فأحدث ردود فعل غاضبة من قِبَل بعض المسلمين، لاسيما من العراق، لكون مَن أحرقه في السويد عراقيا مهاجرا إليها، ثم قامت جماعة يمينية تُدعى داينش باتريوت «الوطنيين الدنماركيين» بحرقه خارج السفارة العراقية بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن. وحرق الكتب الدينية خط قديم جدا، يرجع إلى التعصب الديني والصراع السياسي، أما هذه الأعمال فتستند إلى ما منحته الليبرالية بأداتها القانونية من حرية وحماية لمَن يقوم بها.

وحديثي هنا عن الصراع في حلقته الأخيرة؛ وبالذات بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وهي حلقة ابتدأت منذ أن شاع الترويج للنظام العالمي الجديد ومشارف سقوط الشيوعية، وتفرّد الرأسمالية الغربية بالمشهد العالمي، وقد دشن ذلك الهندي سلمان رشدي بإصدار روايته «آيات شيطانية» عام 1988م. ثم تواصلت الإساءات لمقام النبي الكريم محمد والقرآن الحكيم، وقد شكّل هذا الخط انحدارا سيئا؛ إذ بدأ عملا أدبيا، لينتهي بنشر رسمات مسيئة عن النبي، ثم تدنيس المصحف وحرقه.

هذا يجعلنا أمام مشكلة أخلاقية، تتعدى الحالات الفردية إلى المنظومة الفكرية التي تقف خلفها، لأننا إذا نظرنا إلى هذه الممارسات نجدها تحدث في الغرب تحت ذريعة الحرية؛ صلب النظرية الليبرالية، بمعنى؛ أنه ينبغي دراسة ظاهرة الإساءة إلى الإسلام في إطار هذه النظرية.

المقال.. يقف على هذا البُعد دون أن ينسى العوامل الأخرى المؤثرة، ومن أهمها: التراث الإسلامي المشوب بروايات لا يجوز أن تسند للنبي أو تلصق بالقرآن، والوضع الحضاري والمدني المتخلّفين الذي يعيشه الآن المسلمون، والصراع المستمر بين الفكرين الإسلامي والغربي، ولكن علينا أن نقرر بأن معضلة الغرب ليست مع الإسلام فحسب، بل هي أعمق؛ فهي مع الدين ذاته. والصراع بين الليبرالية والدين لم يبدأ مع الإسلام، وإنما مع المسيحية التي لم تستطع أن تصمد في هذا الصراع، فانكمشت أمام الفكر الليبرالي الصاعد، بل أصبحت تستجدي بقاءها منه، وهو صراع ليس مقصودا به الإسلام وحده بل الدين عموما، ولا أقصد ذات الفعل من الإساءة؛ فهو فعلا متوجه نحو الإسلام، إلا أنه فرع عن مشكلة أكبر؛ هي الأخلاق الليبرالية.

إن المشكلة الأخلاقية عموما بالنسبة للأديان لم تكن فيها، فما من دين إلا ويدعو إلى الأخلاق، وإنما في تطبيقاتها، وربما في فهمها وتحديد أولوياتها، وهنا قد يصح القول: إن ما نراه من أفعال شائنة تصدر من المتدينين لا تعبّر عن الدين ذاته؛ لأن هناك إرادة للإنسان مختلفة عن التعاليم، وهناك فهوم نسبية وأعمال متباينة لدى معتنقي الأديان.

وأما بالنسبة لليبرالية فالمشكلة في ذاتها، ونقدي لها لا يعني نكران كل وجه إيجابي فيها، فقد حررتْ الفرد من «الجبرية الاجتماعية»، ودفعت به نحو الحرية، فكرا وعملا وجزاء، وقامت عليها الحضارة المعاصرة التي نعيش في كنفها، وكفلت التنوع الإنساني بكافة مجالاته، بيد أن هذا لا يعمي أبصارنا عن المشكلة، وهي جذرية وخطِرة، وقد تودي بالحضارة التي بنتها؛ فيما لو تمادت في ممارسة الحرية دون معالجة الجانب الأخلاقي فيها، مثل: توحش الرأسمالية، وتشريع المثلية الجنسية والإجهاض، وتقنين المخدرات، والأخطر من ذلك تبني النيوليبرالية، وهي عولمة الليبرالية وتشريعها عبر القوانين الدولية، وفرضها على العالم، خاصة فرض السوق الحر والخصخصة، مما شكل الربح هدفا أسمى، ضاربة عرض الحائط بالرحمة الإنسانية.

إن ما نراه من استقرار في الغرب، ليس راجعا إلى ذات النظرية الليبرالية، فالنظرية.. لو أُرخي لها العِنان لأصبحت وحشا، لا يعرف من الحرية إلا أن يعدو بطباعه السبُعية لإشباع غرائزه، وهي ليست جسدية فحسب، وإنما غرائز تفور من قعر النفس الإنسانية كالأنانية وحب التملك. الاستقرار الاجتماعي في الغرب.. فُرِض من خارج النظرية الليبرالية، فهو عائد إلى القانون «المقدس» لديهم، فالغربي عموما لا يتصرف بحس أخلاقي بمقدار تصرفه بوازع قانوني. لا أجرد الغربي من الأخلاق فهو كغيره من البشر، ولكن الليبرالية التي بُني بها هيكل الاجتماع الغربي جنت عليه، ولا يتعذّر عليه أن يتصرف أخلاقيا فيما لو وجد نفسه داخل منظومة أخلاقية. وكذلك، ما نجده لدى الفرد الغربي من استقرار نفسي.. ليس منشؤه الحرية الليبرالية، وإنما عامل خارجي أيضا، وهو انتشار الطب والإرشاد النفسيين، وتقدم العلم لديهم في مجالات الصحة البدنية والنفسية.

أما الإسلام وسائر الأديان فهي لا تعاني من هذا الانفصام، فهي مع كونها رسالة أخلاقية، مكتنزة بالمضامين النفسية والاجتماعية، التي هي عمدة استقرار الفرد والمجتمع معا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّة وَرَحْمَة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:21-22].

إن النظرية الليبرالية تقوم على عمود الحرية في المعتقد والرأي والتعبير والتملك. والحرية.. عندما ننظر إلى بُعدها الفلسفي نجدها ليست خُلُقا، بل قيمة، أي أنها تتركب من عناصر عدة؛ منها الأخلاق، والعنصر الأخلاقي.. الذي تقوم عليه هذه القيمة هو «أخلاق السوق»؛ أي الأخلاق التي تحقق لصاحبها الربح والمنفعة، ولأنها «أخلاق السوق» فهي كالمعاملات التجارية، يدخل فيها الفرد أولا لتحقيق مصلحته، وتبعا قد تتحقق مصلحة الطرف الآخر، وربما لا تتحقق، وهي -بطبيعة الحال- لا تقوم على خُلُق الإيثار، الذي تحض عليه الأديان. ولمعرفة مزيد من العلاقة بين الليبرالية والأخلاق انظر كتاب «نقد الليبرالية» للطيّب بوعزة.

إن الممارسات السيئة تجاه الإسلام كحرق مصحفه والإساءة إلى نبيه، ينبغي أن يواجهها المسلمون بفهم النظرية الليبرالية وفهم مرتكزاتها وآليات عملها، ولا يكفي إعلان المقاطعة الاقتصادية. لا أنكر أن مقاطعة الدول التي تسمح بهذه الإساءات تأثر عليها سلبا، بل إنها ضربٌ في صميم النظرية، التي معيارها الأخلاقي الربح، إلا أنها تظل مواجهة «غير أخلاقية» بنحو ما تقوم عليه الليبرالية، وإن كانت أخلاقية بحسب منطلقنا الإسلامي، لكن علينا أن ندرك أنهم يحتكمون إلى فكرهم وليس إلى فكرنا.

وإذا كان علينا أن ندرس المقاطعة الاقتصادية من حيث مدى تحقيق المنفعة في «معركتنا الأخلاقية» مع الليبرالية؛ فمن باب أولى علينا أن نرفض ممارسة أي عنف تجاه مَن يخوض في ديننا بالإساءة إليه، نرفضه بوازع أخلاقي من القرآن الذي يأمرنا بالإعراض عنهم: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام:68]، ونرفضه بحساب المنفعة، إذ إن الليبرالي المسيء ينظر إلى رد فعلنا العنيف مكسبا في تشويه صورة الإسلام عالميا.

إن الواجب الذي يقتضي على المسلمين فعله في هذا السجال الطويل.. هو تفكيك النظرية الليبرالية معرفيا، وكشف عيوبها بميزان العلم والموضوعية. ثم طرح نظرية عالمية قائمة على العدل والرحمة بين جميع الناس: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه) [النساء:58]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. وهذا يقتضي مراجعة نظرياتنا المعرفية القادمة إلينا من التراث الذي شكّله الصراع بين المسلمين أنفسهم، ثم بينهم وبين غيرهم. لن تحل المعضلة على المدى القريب؛ فالليبرالية الآن في أوج قوتها وهيمنتها، بل وتمددها، ولكن على المدى البعيد فبالإمكان تقديم نظرية ذات محتوى أخلاقي تحل محل الليبرالية. خاصة أنها الآن بدأت تتكشف عيوبها، وأخذ العالم يعاني منها؛ وهناك قطاعات تثور عليها بين الحين والآخر، وتملأ شوارع أوروبا -قبل غيرها- بالاحتجاجات.

ختاما.. إن الزمن كفيل بأن يحسم الصراع بين الأديان الغنية بنداوتها الروحية والليبرالية المعتصمة بقوتها المادية.. وسيبقى القرآن يغذي الناس بروح الإيمان وقيم الأخلاق.

خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علینا أن

إقرأ أيضاً:

علي جمعة: الإسلام ليس دين حرب ولم ينتشر بالسيف

أكد الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي الجمهورية الأسبق، أن المغازي النبوية كانت من دلائل النبوة وليست أمرًا يُستحى منه أو يُنتقص به من السيرة النبوية، مشيرًا إلى أن ما تعرض له النبي من أحداث وغزوات لم يكن إلا جزءًا يسيرًا من سيرته، وجاء دومًا في سياق الدفاع لا العدوان.

علي جمعة: الإسلام علّم الإنسانية مبادئ الحرب الرحيمةحكم التضحية بالأبقار المستنسخة .. علي جمعة يجيب

وقال عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الجمهورية الأسبق، خلال تصريح اليوم الثلاثاء: "نحن أمام شيء معجز؛ كيف يكون النبي في قلب الحدث ويدير الأمور بكل هذا التوازن، أليس هذا دليلًا أن القرآن من عند الله؟"، مشيرًا إلى أن عبارة "ولكم في القصاص حياة" تتجلى فيها البلاغة الإلهية والمعنى الإنساني العميق في كلمتين فقط.

وشدد على أن الدين الإسلامي ليس دين حرب أو قتال، بل هو دين سلام في جوهره، مستدلًا بآيات القرآن الكريم: "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا"، و"لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، وقال: "الدين نفسه اسمه الإسلام من السلام، تحية المسلمين السلام، لا القتال ولا الحرب".

وأشار جمعة إلى أن كثيرًا من الناس يختزلون السيرة النبوية في الغزوات، رغم أن هذه الغزوات لم تكن إلا في السنوات العشر الأخيرة من عمر الرسالة، ولم تتجاوز 27 غزوة حضرها النبي، ولم يقع قتال فعلي إلا في سبع منها، سقط فيها حوالي ألف قتيل من الطرفين.

وأضاف: "في سنة واحدة فقط في باريس، ضحايا حوادث الطرق بلغوا أضعاف هذا الرقم، فهل يُعقل اتهام الإسلام بالعنف بينما تزهق الأرواح يوميًا في غير قتال؟".

وفي سياق متصل، أكد الدكتور علي جمعة أن الشبهات التي تُثار حول الإسلام كل يوم، إنما تزيد المؤمنين يقينًا وتثبتًا، قائلاً: "كل شبهة لما بنبحثها علميًا، بهدوء ومنهج واستقراء، بتتحول لدليل جديد على عظمة هذا الدين، الشبهات تقوينا، لأنها تكشف زيف ما يُقال وتُظهر وجه الإسلام الحق".

وأوضح: "لما يُقال إن الإسلام بُني على السيف، نعود إلى القرآن فنجد أن الرفق زينة، والعنف مذموم، وأن العلاقة مع الآخر مبنية على الرحمة، ووصايا القرآن كانت دائمًا تدعو للعفو والصفح: 'فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره'".

وتابع: "نحن لسنا في موضع دفاع، بل نحن نُعلّم البشرية مبادئ الحرب الرحيمة التي استفادت منها لاحقًا اتفاقيات جنيف، الإسلام لم يُشعل الحروب بل علّم العالم كيف يُنهيها بكرامة وعدل ورحمة، المغازي سُمّيت بهذا الاسم لأنها كانت الأشق على النبي، لكنها كانت أرقى دروس الإنسانية".

طباعة شارك علي جمعة الدكتور علي جمعة الأزهر السيرة النبوية غزوات

مقالات مشابهة

  • المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن عن فتح باب التقديم لمسابقتي المقال النقدي والدراسة النظرية في دورته الـ18 لعام 2025
  • علي جمعة: بعض الناس يريدون أن يجعلوا كلام الله محلا للمناقشة بدعوى الحرية
  • ملتقى التأثير المدني: الأخلاق والدستور ضمانتا المواطنة الفاعلة
  • للمرة الثانية.. إعادة احتجاج الوحدة ضد النصر إلى الانضباط
  • غزة تحت الحصار.. مأساة إنسانية تتفاقم والمجتمع الدولي أمام اختبار الأخلاق
  • علي جمعة: الإسلام ليس دين حرب ولم ينتشر بالسيف
  • بعد تحذير مفتي القدس.. كيف يتعامل الأزهر مع أخطاء المصاحف المعروضة بالمكتبات؟
  • الحرية على طاولة النار… نصف الأسرى ثمن لهدوء مؤقت
  • عيدان ألكسندر يعود من غزة.. هل تفتح الحرية بابها لسكان القطاع؟
  • الشؤون الإسلامية.. 5000 نسخة من المصحف الشريف لزوار معرض الدوحة للكتاب