إيكونوميست: أوروبا تفكر في المستحيل لأجل القنبلة النووية
تاريخ النشر: 14th, March 2025 GMT
تناول مقال في مجلة إيكونوميست البريطانية بالتحليل قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الخامس من الشهر الجاري، فتح نقاش إستراتيجي حول إمكانية استخدام بلده قوتها الرادعة لحماية حلفائها في أوروبا في ظل التهديدات التي تواجه القارة من قِبل روسيا.
وفي خطاب متلفز في ذلك اليوم، أكد ماكرون التزام بلاده بحلف شمال الأطلسي (ناتو) والشراكة مع الولايات المتحدة، لكنه شدد في الوقت ذاته على ضرورة أن تبذل أوروبا جهودا أكبر لتعزيز استقلالها الدفاعي والأمني، ونقلت عنه قناة فرانس 24 القول "يجب ألا يُحدّد مستقبل أوروبا في واشنطن أو موسكو".
لكن إيكونوميست تقول إن النقاش الذي أعلن عنه الرئيس الفرنسي يواجه مشكلتين تتعلقان بالمصداقية والإمكانيات، مشيرة إلى أن أوروبا ظلت تعتمد طيلة ما يقرب من 80 عاما على المظلة النووية الأميركية.
حريق دبلوماسيوقد التقط رئيس وزراء بولندا دونالد تاسك الفكرة بعد يومين من خطاب ماكرون، حيث قال في كلمة أمام البرلمان "سنكون أكثر أمنا إذا كانت لدينا ترسانتنا النووية الخاصة بنا"، مبررا ذلك بـ"التغيير العميق الذي يحدث في الجغرافيا السياسية الأميركية"، وهو تعبير مخفف لما تصفه إيكونوميست بـ"الحريق الدبلوماسي" الذي أشعله رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب.
إعلانوجاء في المقال أن تاسك لم يكن يقترح أن تمتلك بلاده قنبلة نووية، بل كان يستجيب لدعوة رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني فريدريش ميرتس، إجراء محادثات مع بريطانيا وفرنسا حول "إضافة قوة مكمِّلة للدرع النووي الأميركي".
ومع ذلك، تصف المجلة البريطانية الردع النووي الموسّع بأنه أمر غريب وغير طبيعي، لأنه يتطلب من دولة ما التعهد باستخدام قواتها النووية وما قد يترتب عليها من إبادة، نيابة عن دولة أخرى.
ووفقا للمجلة، فإن صعوبة الوفاء بمثل هذا الوعد هو ما دفع أميركا إلى بناء ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية ونشرها في جميع أنحاء العالم، كما أن القوات النووية البريطانية، على الرغم من تواضعها، مكلَّفة هي الأخرى بالدفاع عن حلف الناتو.
ردع نوويولدى فرنسا -القوة النووية الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا منه- علاقة أكثر تعقيدا بالردع الموسع، فقد تبنت رادعا نوويا خاصا بها في خمسينيات القرن الماضي، افتراضا منها أن المظلة الأميركية لا يمكن الاعتماد عليها.
ولم تنضم فرنسا ولا تزال لا تشارك في مجموعة التخطيط النووي (NPG)، وهو منتدى لحلف شمال الأطلسي (الناتو) تناقش فيه الدول الأعضاء السياسة النووية.
وفي عام 1995، اتفقت بريطانيا وفرنسا على أن "المصالح الحيوية لإحداهما لا يمكن أن تكون مهددة دون أن تكون المصالح الحيوية للطرف الآخر معرضة للخطر بالقدر نفسه"، وهو ما عدّته إيكونوميست توسيعا مواربا لأفق الردع الفرنسي.
غير أن الرئيس ماكرون صرح في 2022 بأنه لن يرد بالمثل إذا استخدمت روسيا الأسلحة النووية في أوكرانيا، زاعما أن مصالح بلاده "لن تكون على المحك إذا كان هناك هجوم باليستي نووي في أوكرانيا أو في المنطقة".
وبدا أنه بهذه العبارة يستبعد من الحماية دول أوروبا الشرقية الحليفة للاتحاد الأوروبي والناتو، وفق المجلة البريطانية التي أشارت إلى أن ماكرون اتخذ -منذ ذلك الحين- منحى متشددا ونجح في إعادة بناء العلاقات مع تلك الدول.
إعلان تعاون نوويويتساءل الحلفاء الأوروبيون الآن عن المدى الذي قد يكون ماكرون على استعداد للذهاب إليه، إذ قال رئيس الوزراء البولندي للصحفيين إنه يريد أن يعرف تفاصيل ما يعنيه الرئيس الفرنسي في خطابه من إمكانية استخدامه الأسلحة النووية.
وفهمت المجلة من تصريحات دونالد تاسك تلك أنه ربما يلمّح إلى صيغة تمنح بلاده بعض الصلاحيات في إطلاق تلك الأسلحة.
ولكن ماكرون استبعد على ما يبدو أي احتمال لمنح دول أخرى مثل تلك الصلاحيات، مؤكدا بشكل جازم أن الرادع النووي الفرنسي "سلاح سيادي وفرنسي من بدايته إلى نهايته".
وثمة عقبات قانونية في هذا الصدد، فإذا أرادت بريطانيا أو فرنسا نقل الوصاية والسيطرة على أسلحتهما النووية، أو إذا رغبت دول غير نووية بناء أسلحة نووية جديدة، فسيتعين عليها الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو انتهاكها.
وهناك مسار آخر -كما ورد في المقال- يتمثل في الاقتباس من النهج الأميركي للردع الموسع، فقد نشرت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة 180 قنبلة نووية تكتيكية من طراز (بي 61) أو نحو ذلك في أوروبا، ولا تزال هذه القنابل تحت السيطرة الأميركية.
ليس سهلالكن القوات الجوية في بلجيكا وألمانيا واليونان واليونان وإيطاليا وهولندا وتركيا تتدرب على حملها وتوصيلها باستخدام طائرات ذات قدرة مزدوجة.
ولعل أسوأ الاحتمالات -وهو ما يرجحه عدد قليل من المسؤولين- أن تقطع أميركا الدعم، وفي هذه الحالة يمكن لبريطانيا أن تحتفظ بالصواريخ التي بحوزتها، ربما لبضع سنوات.
بيد أن إيكونوميست تعتقد أن خطط بريطانيا المستقبلية للرؤوس الحربية والغواصات لن تكون قابلة للتطبيق، ولذلك فإن أحد الخيارات المتاحة أمام لندن هو إحياء فكرة التعاون مع فرنسا.
ولا يزال النقاش الإستراتيجي الذي يجريه ماكرون في مراحله المبكرة، كما تقول هيلواز فاييه من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس، مضيفة أنه "لا حديث عن نشر الأسلحة النووية الفرنسية خارج الأراضي الفرنسية".
إعلانوخلصت المجلة إلى أن هذا الكلام قد يحبط أمثال رئيس الوزراء البولندي، الذي يرى أن هناك أزمة على وشك الحدوث.
وختمت بالقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثار أكثر النقاشات عمقا حول استخدام القدرات النووية منذ خمسينيات القرن الماضي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان ترجمات الأسلحة النوویة
إقرأ أيضاً:
الطواقم الطبية في غزة.. بين الموت البطيء والإنقاذ المستحيل
غزة «عمان» - د.حكمت المصري:
في أحد أروقة مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، يجلس الطبيب سعيد يحيى (35 عامًا) مستندًا إلى الحائط، بعد نوبة عمل استمرت لأكثر من 24 ساعة متواصلة. عيناه المثقلتان بالإرهاق ترفضان النوم، وأذناه ترقبان نداءات الإسعاف المتكررة، فيما معدته الخاوية لم تنل سوى قطعة خبز صغيرة محشوة بقرصين من الفلافل.
يقول الطبيب سعيد: «ما نعيشه فاق كل تصورات الطب والإغاثة الإنسانية؛ نخيط الجروح دون مخدر، ننعش القلوب بلا أجهزة، ونتناول ما يتوفر... وأحيانًا لا نتناول شيئًا». هكذا ينهي الطبيب يومه، تاركًا سطرًا موجعًا جديدًا في دفتره عن غزة، التي لا تسقط مرة واحدة، بل تسقط ألف مرة كل يوم... وتقف رغم الجوع، رغم الحصار، رغم كل شيء.
في غرفة عمليات ضيقة داخل مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، يقف الطبيب رائد مصلح (59 عامًا) يحاول إنقاذ أحد المصابين في قسم الكلى والمسالك البولية، يتصبب العرق من جبينه، وتبدأ الرؤية في التلاشي تدريجيًا من أمام عينيه. يقول: «وصلت بالأمس من غزة، ودوامي يستمر لثلاثة أيام متتالية بسبب بُعد المسافة وغلاء المواصلات. لا أذكر متى تناولت آخر وجبة، لكنني أعلم أنني مرهق جدًا.
ربما السبب هو قلّة الطعام وغياب القهوة التي اعتدت عليها. الإصابات لا تتوقف، لكن جسدي لم يعد يحتمل، وجبة واحدة من الأرز أو العدس يوميًا، وأحيانًا أقل. الجوع والإرهاق... كارثتان مزدوجتان تواجهان الطواقم الطبية في غزة، فالجسد الذي يُفترض أن يقود غرفة العمليات، بات عاجزًا عن الوقوف لساعات.
ويضيف الدكتور رائد بأسى: «أفكر في عائلتي أثناء وجودي في المستشفى: هل أكلوا؟ هل وجدوا طعامًا؟ يبقى قلبي مشغولًا. أقتنص الفرص للاتصال بهم، ويؤلمني عندما يخبرني طفلي الصغير بأنه جائع». في مستشفى ناصر نفسه، الذي يُعدّ المستشفى الحكومي الوحيد العامل في جنوب القطاع، يدير الطبيب أحمد الفرا (55 عامًا) قسم الأطفال، بينما تهتز جدران المستشفى على وقع الغارات المتواصلة.
صوت الانفجارات لا يغيب، لكنه ليس الأقسى. ففي الأيام السابقة، وأثناء جولة اعتيادية على المرضى، استهدفت غارة إسرائيلية غرفة داخل المستشفى. ركض الطبيب الفرا برفقة زملائه نحو مصدر الانفجار، ليجد الطفلة دنيا محسن، التي كانت ترمز للأمل، غارقة في دمائها وقد فقدت ساقيها.
يقول الطبيب الفرا بصوت متهدّج: «تأثرت نفسيًا جدًا. رأيت أحلام الطفلة تتبخر في لحظة، لكن الأصعب من الإصابة، هو أن ترى أطفالًا عالجتهم بأقصى جهد، يموتون لاحقًا جوعًا». يضيف وقد أنهكته الشهور الطويلة: «أعاني من صداع مزمن ونوبات نسيان. أتناول وجبة واحدة يوميًا منذ أربعة أشهر، بالكاد تكفي طفلًا صغيرًا. أحاول البقاء يقظًا لإنقاذ حياة الأطفال، لكن الجوع ينهشنا، والإرهاق بات أقوى منا». ما يعانيه الفرا هو واقع مئات الأطباء والممرضين، الذين يعملون في ظروف غير إنسانية داخل مستشفيات مدمرة، بأجهزة شبه معطلة، ونقص حاد في الأدوية والغذاء، تحت وطأة القصف المتواصل.
بات الطبيب، الذي اعتاد إجراء العمليات المعقّدة تحت الضغط، يخشى اليوم من انهياره الذاتي أكثر من أي مضاعفات جراحية. فالأعصاب مشدودة حدّ الانفجار، والماء شحيح، والطعام شبه مفقود.
في مستشفى القدس بمدينة غزة، أنهى الطبيب ناجي القرشلي (60 عامًا) عملية جراحية دقيقة استمرت لساعات. جلس بعدها على كرسي قرب غرفة العمليات، يلتقط أنفاسه الثقيلة. كان جسده يصرخ طلبًا لاستراحة لم تُمنح منذ شهور.
يقول الطبيب الذي يعمل في قسم النساء والتوليد: «أعاني من إرهاق شديد أثناء العمليات التي تتطلب تركيزًا عاليًا. أحيانًا أكاد لا أرى بوضوح. ورغم ذلك نواصل العمل، وسط القصف، في غرف مظلمة، وبدون تخدير كافٍ، ولا حتى قطعة خبز نسند بها أنفسنا. ومع ذلك نُكمل». منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر الماضي، فرض الاحتلال حصارًا خانقًا على أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في القطاع، حارمًا إياهم من الغذاء والماء والدواء، ضمن سياسة أطلق عليها الغزيون «هندسة الجوع»، تهدف إلى كسر إرادة الناس عبر التجويع المتعمّد.
منظمة الصحة العالمية حذّرت من أن النظام الصحي في غزة على شفا الانهيار الكامل، حيث يعاني أكثر من نصف الأطفال من سوء تغذية حاد. ومع استمرار الحصار، توقفت خطوط الإمداد الإنساني بشكل شبه كامل، وفرغت الأسواق من السلع الأساسية.
يقول مدير مجمع الشفاء الطبي، الدكتور محمد أبو سلمية: «لا طعام لدينا، لا ماء نظيف، لا كهرباء مستقرة، ولا حتى رواتب. نعيش فقط على الإرادة والصمود... لكن حتى الإرادة تحتاج إلى ما يُبقي الجسد واقفًا». وبحسب بيانات رسمية، فقد استشهد منذ بداية الحرب 1590 من أفراد الطواقم الطبية، وأُصيب المئات، واعتُقل أكثر من 360 طبيبًا وممرضًا.
ويؤكد الدكتور رأفت المجدلاوي، المدير العام لجمعية العودة الصحية، أن الاحتلال يتعمد استهداف القطاع الصحي ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيل المولدات، ما أدى إلى تدمير أو توقف 94% من المرافق الصحية، فيما لا تغطي الإمدادات الطبية التي تدخل غزة سوى 5% من الاحتياجات العاجلة.
ويحذّر المجدلاوي: «الاحتلال يتعمد إخراج المنظومة الصحية عن الخدمة بهدف تأزيم الوضع الإنساني. أكثر من 15 ألف مريض وجريح توفّوا بعد منعهم من العلاج خارج القطاع». ورغم مناشدات منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الإغاثية، لا يزال الصمت الدولي يُخيّم، بينما تنهار أعمدة النظام الصحي واحدًا تلو الآخر. فحتى الطعام البسيط الذي كانت تُحضّره المشافي داخليًا للطواقم، لم يعد موجودًا.
اليوم، يواجه الأطباء في غزة خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يواصلوا أداء مهامهم الإنسانية حتى الإنهاك...أو يسقطوا جوعًا في ممرات المستشفيات، التي باتت تضم الموتى أكثر من الأحياء.