براغ وكارلوفي فاري.. اكتشف أسرار الحجارة العتيقة وهمسات الينابيع
تاريخ النشر: 15th, March 2025 GMT
براغ- في أزقة العاصمة التشيكية براغ القديمة، تنطق الحجارة بحكايات العصور الوسطى وتعلو روح التاريخ فوق أبراجها الشامخة. تمتد الرحلة في قلب هذه الدولة الأوروبية لتكشف معالم تعيد إحياء الماضي بلمسات حديثة، ومتاحف تجمع بين الغرابة والجاذبية الفريدة، وصولا إلى ينابيع مدينة كارلوفي فاري، التي تضفي على الاستجمام سحرا خاصا يجمع بين أصالة الماضي وروعة الحاضر، لتبقى رحلة خالدة في الأذهان.
عند وصولك إلى مطار براغ، قد تلاحظ محدودية خيارات المواصلات المتاحة، إلا أن سهولة التنقل تبقى مضمونة، فيمكنك استخدام تطبيق مخصص يمكن الوصول إليه عبر رمز "كي آر" (QR) موجود في المطار، فهو يتيح لك حجز سيارة مسبقة الدفع بتكلفة تبلغ 700 كرونة تشيكية (نحو 25 يورو)، كما يمكنك اختيار الحافلات العامة كخيار اقتصادي، حيث تبلغ تكلفتها قرابة 5 يورو فقط.
وأفضل أوقات لزيارة التشيك هي بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول، حيث المناخ المعتدل وسحر الخريف، وأما لمحبي الشتاء وأجواء الثلوج فإن فترة نهاية العام مع احتفالات عيد الميلاد هي الأمثل.
العاصمة براغ تُغنيك عن الحاجة إلى مرشد سياحي بفضل جولات منظمة عبر حافلات تاريخية مجهزة بمرشدين محترفين. كما يمكن بنفسك حجز معظم المعالم والأنشطة بسهولة عبر المواقع الإلكترونية المخصصة لكل وجهة.
التواصل في التشيك سهل بفضل إتقان الجيل الجديد للغة الإنجليزية، مما يجعل تجربتك أكثر سلاسة، وتوفر المواصلات العامة شبكة حديثة وفعّالة تغنيك عن استئجار سيارة، كما أن الإنترنت المجاني متاح في معظم الأماكن العامة، لضمان اتصال دائم خلال رحلتك.
عند تحويل عملة بلدك إلى الكورونة التشيكية، ستلاحظ أن كل يورو يعادل قرابة 25 كورونة. ومع ذلك احرص على تجنب تصريف العملة في الشارع، حيث تنتشر عمليات الاحتيال، إذ يستغل المحتالون، الذين غالبًا ما يتحدثون عدة لغات، ثقة السياح عبر تقديم أسعار تبدو مغرية، لكنها قد تنتهي بمنحك نقودا قديمة أو مزيفة تشبه العملة الأصلية.
ولضمان سلامة أموالك وتجربة سفر آمنة ماليا، تعامل دائما مع جهات معتمدة وموثوقة.
إعلان التاريخ والمتاحفابدأ رحلتك باكتشاف قلب براغ، حيث تأخذك ساحة المدينة القديمة إلى أبراج وشواهد تنبض بتاريخ العصور الوسطى. لا تفوّت زيارة ساعة أورلوي الفلكية، التي تعود جذورها إلى عام 1410، بتصميم من المخترع ميكولاش، فهي أحد أبرز معالم المدينة.
خذ وقتك لاكتشاف المتاحف الفريدة في براغ القديمة، مثل متحف الكاتب العالمي فرانز كافكا، الذي يعرض حياة هذا العبقري بكل تفاصيلها. ولا تفوّت أيضًا متحف الآلات الحديدية المعاد تركيبها بأسلوب فني مدهش.
مقابل المتحف الأخير، ستصادف متحف التعذيب البشري، الذي يكشف لك عن جانب مظلم من تاريخ البشرية من خلال أدوات التعذيب المستخدمة لانتزاع الاعترافات أو معاقبة المخالفين.
ولتكتمل تجربتك، زر المتحف الوطني، المتميز ببنائه الفريد وأجنحته المتنوعة التي تجسد دقة التأريخ وروعة العرض.
في اليوم الثاني من رحلتك لاستكشاف عاصمة الأبراج الذهبية المائة، استمتع بتجربة فريدة على متن حافلة تاريخية أعيد تصميمها بعناية لتأخذك في جولة مميزة.
يقود الحافلة سائق متمكن من اللغة الإنجليزية، ليكون مرشدك خلال الرحلة التي تمتد لأربعين دقيقة. تنطلق الجولة من قلب المدينة القديمة، مرورًا بأبرز معالم براغ التاريخية العريقة، وكل ذلك مقابل 85 يورو.
تبدأ رحلتك في اليوم الثاني من أعظم شواهد التاريخ، قلعة براغ التي تقف شامخة بصفتها أكبر قلعة في أوروبا وأحد أكثر مواقع العصور الوسطى حصانة. تأسست في القرن التاسع وتمتد على مساحة شاسعة تبلغ 70 ألف متر مربع، مما يجعلها أكبر قلعة قديمة في العالم.
كانت القلعة رمز القوة ومقرا للملوك التشيكيين، ولا تزال تحتضن مكتب الرئيس التشيكي حتى اليوم، حيث تستقبل رؤساء الدول وكبار الشخصيات العالمية.
تقع القلعة على هضبة عالية تطل على المدينة، لتوفر إطلالة تخطف الأنفاس وتكشف عن جمال براغ الساحر. داخل أسوارها تبرز كاتدرائية سانت فيتوس كواحدة من أهم المعالم، حاملة بين جدرانها أسرار الحكام التشيك مثل كارل الرابع. كما يمكنك استكشاف القصر الملكي القديم والشارع الملكي، حيث تتردد أصداء الماضي وتنبض الطرقات الحجرية بتاريخ مرمم بعناية.
اليوم، تعد القلعة رمزا ثقافيا وطنيا وموقعا لا غنى عنه في براغ. بفضل حفاظ بلدية المدينة على ترميمها المستمر، أدرجت القلعة ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) منذ عام 1992، لتظل شاهدة على فصول التاريخ وأحد أبرز معالم الحضارة الإنسانية.
المحطة التالية تنقلك عبر الطريق المرصوف بعناية نحو جسر كارل الشهير، الذي يشطر العاصمة التشيكية الى قسمين، حيث تكتشف حوانيت قديمة تحافظ على طراز البناء التقليدي، وتعرض سلعًا كانت تُباع في العصور القديمة.
إعلانهذه الجولة تمنحك فرصة فريدة للتعرف على الثقافة العريقة التي سادت في تلك الحقبة، ومن معالم هذه الثقافة "البيت الراقص" الذي سيذهلك جماله من بعيد، وكأنه يعانق السماء، بيد فتاة تضعها على خصرها.
في الطابق العلوي من هذا المعلم المعماري المذهل، يقع مطعم فاخر يتمتع بإطلالة رائعة على قلعة براغ ونهر فلتافا الذي يمر عبر قلب العاصمة ويقسمها إلى شطرين.
بعد ذلك، ستتابع الحافلة السياحية سيرها نحو مقهى "سلافيا" الشهير، حيث كان يجلس الشاعر العراقي الراحل مهدي الجواهري، ومؤسس التغيير في التشيك الرئيس الراحل فاتسلاف هافل، هناك ستستمتع بمنظر رائع على النهر، ولا تنسَ طلب مشروب ساخن يطبع في ذاكرتك تجربة لا تُنسى عن هذا المكان الفريد، والذي سيحضر في خاطرك كلما فكرت في براغ.
بين أحضان الطبيعة، وعلى بعد 120 كيلومترا من براغ، تُفتح بوابة إلى عالم يأخذك بعيدا عن صخب الحياة المعاصرة. بمجرد أن تستقل الحافلة العمومية المريحة، التي لا تكلف سوى 35 يورو، تبدأ رحلتك إلى كارلوفي فاري، المدينة التي تختزل جمال الماضي وسحر الطبيعة في لوحة واحدة.
عند وصولك، تلامس روحك عبق التاريخ وسط أجواء طبيعية خلابة. هنا ينبثق أكثر من 80 ينبوعا دافئا، تتراوح درجات حرارتها بين 30 و70.
وبين هذه الينابيع، يتفرد 13 ينبوعا بخواص علاجية فريدة، تُستخدم لعلاج الأمراض المستعصية، مما جعل المدينة وجهة عالمية للراغبين في الشفاء والهدوء.
وأما إذا كنت من عشاق السينما، فإن شهر يوليو/تموز يحمل لك تجربة لا تُنسى، فالمهرجان السينمائي الدولي في كارلوفي فاري، الذي انطلق عام 1946، يزيّن المدينة بأضوائه وأفلامه العالمية.
إعلانوعلى مدار عشرة أيام، تتحول المدينة -التي تتميز بمبانيها ذات المعمار الجميل الذي يرتبط بالطراز الباروكي والكلاسيكي الجديد- لمنصة ثقافية تُعرض فيها روائع السينما، وتُمنح الجوائز لألمع النجوم بحضور نخبة من صناع الأفلام.
أمسيات الموسيقى
لكن السينما ليست وحدها التي تضفي الحياة على هذه المدينة، فكارلوفي فاري تفيض بالموسيقى؛ من مهرجان "خريف دفورجاك" إلى أمسيات موزارت الكلاسيكية ومهرجانات الجاز.
في كل زاوية، تجد نفسك محاطًا بنغمات تأسر الروح وتعزز من سحر المكان.
وفي قلب هذا الجمال الطبيعي، وسط الغابات الكثيفة والحدائق المزهرة، يقف مبنى البريد الأثري شامخا. بواجهته المستديرة وتصميمه الكلاسيكي، الذي يعود إلى عام 1903 في عهد الإمبراطورية النمساوية-المجرية، يُعد هذا المبنى شاهدا حيا على تاريخ المدينة وتقاليدها المحفوظة بعناية.
كارلوفي فاري ليست مجرد مدينة؛ إنها تجربة، وحكاية تُروى بلسان الطبيعة والتاريخ والفن. هنا، يُمكنك أن تنسى كل شيء، وتعيش لحظات تملأ قلبك بالسكينة وروحك بالإلهام.
وسائل الترفيهتقدم المدينة وسائل الترفيه تلبي شغف الزوار؛ من مطاعم راقية ومسابح، إلى ملاعب الغولف والتنس ونوادي ركوب الخيل، مما يجعلها وجهة مناسبة للمصطافين والسياح وحتى الباحثين عن العلاج بمياهها المعدنية الشهيرة.
وإذا كنت تمتلك متسعا من الوقت، فلا تفوّت زيارة مدينة ماريانسكي لازني، التي تقع على مقربة من كارلوفي فاري. هذه المدينة الساحرة تعدّ واحدة من أبرز الوجهات السياحية في التشيك، حيث تمتزج المصحات العلاجية الفريدة مع المناظر الطبيعية الخلابة.
وتتميز ماريانسكي لازني بطابعها الأنيق والتنظيم الدقيق، بفضل تطوير بنيتها التحتية وتحسين خدماتها، مما يجعلها وجهة لعشاق الاسترخاء والطبيعة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات کارلوفی فاری فی براغ
إقرأ أيضاً:
أسرار الانتفاضة الأوروبية ضد الجرائم الإسرائيلية
مصير الإجراءات العملية.. وهل أصبحت علاقات الاحتلال مهددة بسبب حرب غزة؟
- ما علاقة المعركة الجانبية مع ترامب تجاريًا وأمنيًا؟ وهل تنتصر الإرادة والقدرة والسيادة الأوروبية؟
- هل توظّف القارة العجوز ورقة الاقتصاد واتفاقية الشراكة رغم انقسام الاتحاد حول العقوبات؟
- تحركات شعبية توجّه المواقف الرسمية.. والجاليات اليهودية ومواسم الانتخابات تحدد السياسات
ظلت أوروبا، تاريخيًا، تؤازر إسرائيل، بل شكّلت دولها ولاتزال عمقًا استراتيجيًا للسياسات الغربية المنحازة لتل أبيب، ومصدرًا أساسيًا للدعم السياسي والعسكري، فضلًا عن العلاقات التجارية والتكنولوجية.
غير أن التحولات الأخيرة في المواقف الأوروبية، التي تراوحت بين الإدانات العلنية الحادة، وبدء إجراءات عملية لمراجعة اتفاقيات الشراكة، تُهدد بما يشبه «انتفاضة دبلوماسية» لم تشهدها العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، منذ عقود.
فما سر التحول، مؤخرا؟ وما الذي دفع دولًا مثل فرنسا، إسبانيا، أيرلندا، وهولندا إلى المجاهرة بمواقفها ضد تل أبيب؟ هل المجازر في قطاع غزة؟ أم تصاعد الضغوط الشعبية؟ وما مستقبل هذه الإجراءات؟ وهل يمكن أن تتحول إلى قطيعة حقيقية تهدد العلاقات الدولية لإسرائيل؟
تعاطف وإدانةخلال العامين الأخيرين، بدأت ملامح تغيُّر حاد في المزاج الأوروبي تجاه إسرائيل تظهر بشكل واضح، ولم تعد الإدانات خجولة، بل صارت تتسم بالحدة والوضوح، خاصة في ظل التطورات الدموية للعدوان الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر عام 2023.
ومع تواصل المجازر، والحصار الخانق، والمجاعات الموثقة، تصاعد الغضب الشعبي الأوروبي، وخرجت عشرات التظاهرات في عواصم ومدن أوروبية كبرى تطالب بوقف الدعم لإسرائيل ومحاسبتها على انتهاكاتها.
لكن الأمر لم يتوقف عند حدود الرأي العام، بل تسلل إلى أروقة صناعة القرار السياسي الأوروبي، مؤخرا، فطالبت هولندا دول الاتحاد بمراجعة اتفاقيات الشراكة مع تل أبيب، وشددت الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج.
أما بريطانيا، فقد جمّدت المحادثات الاقتصادية الجارية مع إسرائيل، وأعلنت فرض عقوبات على بعض الحركات الاستيطانية بسبب أعمال عنف في الضفة الغربية، وفي سابقة غير مألوفة، أعربت 17 دولة من أصل 27 في الاتحاد الأوروبي عن دعمها لتقييم العلاقة التجارية مع إسرائيل.
مبررات رسميةوتستند التحركات الأوروبية إلى الممارسات الإسرائيلية الدموية في غزة، لاسيما منع دخول المساعدات الإنسانية، والمخالفات الصريحة للقانون الدولي الإنساني، لكن التحول الأهم، يتمثل في تصويت معظم وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي لصالح إعادة النظر في اتفاقية الشراكة.
وتعد اتفاقية الشراكة والتعاون الموقعة مع إسرائيل عام 1995، ودخلت حيز التنفيذ في يونيو 2000، الإطار القانوني للتعاون السياسي والاقتصادي بين الطرفين، وتشمل مجالات التجارة والبحث العلمي والطاقة والتكنولوجيا.
المراجعة الأوروبية تهدف إلى تقييم مدى التزام إسرائيل بالمادة الثانية من الاتفاقية، التي تنص صراحة على أن «احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية يمثل شرطًا أساسيًا للعلاقة بين الأطراف المتعاقدة».
الخطوة وجدت ترحيبًا واضحًا من دول مثل هولندا وبلجيكا، اللتين أكدتا ضرورة احترام «سيادة القانون الدولي». هذا الموقف عزز من مواقف الحكومات الأوروبية التي باتت تُحرَج أمام شعوبها إن هي استمرت في دعم دولة متهمة بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية».
وجه آخرلا يمكن اختزال رد الفعل الأوروبي تجاه إسرائيل في الأبعاد الأخلاقية أو الإنسانية وحدها، في ظل عوامل جيوسياسية واقتصادية تفرض نفسها بقوة، أهمها عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسياسات أقل التزامًا بالتعددية والتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين تظللها الإملاءات والصفقات.
ومن خلال موقفها تجاه، إسرائيل، تسعى أوروبا، حاليًا، إلى تأكيد قدر من السيادة السياسية والاقتصادية، لاسيما بعد أن فرضت الولايات المتحدة، رسومًا جمركية على السلع الأوروبية شملت السيارات والصلب والألومنيوم بنسبة وصلت إلى 25%.
ليس هذا فقط، لكنها تهدد برسوم إضافية بنسبة 20% ما لم يُقدِّم الأوروبيون تنازلات تجارية. رفض الاتحاد الأوروبي هذه الضغوط، مطالبًا باتفاقات متبادلة بدلًا من الامتثال الأُحادي، في إشارة إلى مساعٍ لتعزيز الاستقلال الاقتصادي عن الولايات المتحدة.
الجانب الأمني لا يقل أهمية، فمنذ فوز ترامب بالرئاسة مجددًا، تجددت الشكوك في العواصم الأوروبية بشأن مستقبل الضمانات الأمريكية لأمن القارة، ففي أكثر من مناسبة، عبّر ترامب عن استيائه من تحمّل الولايات المتحدة الجزء الأكبر من تكاليف حلف الناتو.
ويطالب الرئيس الأمريكي الأوروبيين بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 2% من ناتجهم المحلي، ومهددًا بخفض التزامات بلاده تجاه الدفاع المشترك. هذه الرسائل فتحت نقاشًا أوروبيًا جادًا حول جدوى إنشاء جيش أوروبي موحد.
تُظهر بيانات حلف الناتو (2023-2024) أن الولايات المتحدة ما زالت تسهم بنسبة تقارب 16% من ميزانية الحلف، بعد أن كانت 22%. هذا الانخفاض، إلى جانب أزمات مثل الحرب في أوكرانيا، دفع أوروبا إلى إعادة تقييم بنيتها الدفاعية.
ومع وعي تام بأن أي انسحاب أو تقليص أمريكي ستكون له كلفة باهظة، ليس فقط أمنيًا، بل اقتصادية أيضًا، نظرًا لاعتماد أوروبا الكبير على التكنولوجيا الدفاعية الأمريكية، تُشكِّل سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط عنصر توتر إضافي على الأوروبيين.
طرح ترامب لمقترحات مثيرة (تهجير سكانها، وتحويل غزة إلى منطقة سياحية) يضع دول الاتحاد الأوروبي في موقف حرج، فالشرق الأوسط ليس قضية إنسانية فقط، لكنه ملف أمني مباشر في ظل تدفقات اللاجئين، وتزايد المخاوف من التطرف وعدم الاستقرار.
كما أن تراجع الدعم الأمريكي التقليدي لإسرائيل، وتضاؤل حماسة ترامب لحكومة نتنياهو، يعزز من شعور الأوروبيين بضرورة صياغة مواقف أكثر استقلالية في هذا الملف، إلا أن الاتحاد لايزال عاجزًا عن اتخاذ خطوات جماعية حاسمة بسبب الانقسامات الداخلية.
هذا التحول في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل نتيجة تفاعل مركّب بين سلوك ترامب الاستفزازي، والضغوط الشعبية، والانكشاف الأمني، وتراجع الثقة في التحالفات التقليدية، لكن التحول تحكمه قيود الواقع السياسي، والروابط التاريخية مع إسرائيل، والانقسامات الأوروبية نفسها.
خلافات داخليةما نراه من مواقف أوروبية نقدية لا يعكس قطيعة مع إسرائيل بقدر ما يعكس محاولات لموازنة المصالح والالتزامات، وسط عالم يزداد اضطرابًا، وحليف أمريكي يزداد تقلبًا، رغم الانقسام الداخلي في منظومة دول الاتحاد.
هذا الانقسام يعوق القدرة على اتخاذ خطوات موحدة، مثل فرض عقوبات شاملة، لكنه لا يمنع تحرك بعض الدول فرادى، أو ضمن تحالفات مصغرة، لمحاسبة إسرائيل، بما فيها تعليق التعاون الأكاديمي والثقافي، ووقف تمويل بعض المشاريع المشتركة.
لا يمكن فهم التحول الأوروبي دون رصد تأثير الرأي العام، فصور الأطفال الذين يموتون جوعًا، وتوابيت الضحايا في غزة، أحدثت صدمة أخلاقية في المجتمعات الأوروبية، دفعت الأحزاب اليسارية والوسطية إلى مراجعة مواقفها، خاصة في ظل أجواء انتخابية محتدمة في فرنسا وألمانيا وإسبانيا.
يشمل التقييم الأوروبي تحليل الآثار المحتملة على التجارة والنمو والتوظيف والاستهلاك، وتحديد ما إذا كانت تل أبيب لا تزال مؤهلة للاستفادة من الامتيازات الأوروبية. دعّم هذا التحرك: النمسا، بلجيكا، الدنمارك، إستونيا، فنلندا، فرنسا، أيرلندا، لوكسمبورج، مالطا.
كما تدعم هذا المسار: هولندا، بولندا، البرتغال، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، إسبانيا، والسويد، وفي المقابل، تعارضه: ألمانيا، المجر، إيطاليا، التشيك، كرواتيا، ليتوانيا، قبرص، اليونان، وبلغاريا، معتبرة أن مراجعة الاتفاقية قد تعوق التعاون البناء، خاصة في المجالات الأمنية والبحثية.
تهديد حقيقيجاء قرار الاتحاد الأوروبي بمراجعة الاتفاقية مع إسرائيل ليشكّل خطوة سياسية بالغة الدلالة، دون أن يعني بالضرورة إلغاءها الفوري. إذ يفتح هذا القرار الباب أمام جملة من السيناريوهات المحتملة، من بينها تعليق الاتفاقية مؤقتًا، وفرض عقوبات اقتصادية تطال مستوطنات وصناعات عسكرية.
كما أن التحركات الأوروبية تفتح الأبواب أمام احتمال تجميد برامج التعاون الأكاديمي والعلمي بين المؤسسات الأوروبية ونظيرتها الإسرائيلية، غير أن تنفيذ هذه الإجراءات يظل رهنًا بإجماع الدول الأعضاء في الاتحاد، وهو ما يُعد تحديًا كبيرًا في ظل مواقف معارضة من بعض العواصم، وعلى رأسها المجر، التي قد تستخدم حق النقض «الفيتو» لإجهاض أي توجه لمعاقبة إسرائيل.
غير أن مجرد اتخاذ خطوة مراجعة الاتفاقية (وفقًا لتصريحات الممثلة العليا للشئون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس)، يمثل «ضربة سياسية قاسية» لتل أبيب، لما ينطوي عليه من مؤشرات واضحة على تآكل الغطاء الأوروبي التقليدي الذي طالما تمسكت به إسرائيل.
الاقتصاد الإسرائيليبلغ حجم التبادل التجاري بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي في العام 2024 نحو 42.6 مليار يورو، ما جعل أوروبا الشريك التجاري الأول لإسرائيل، متقدمة على الولايات المتحدة. وتشكل واردات الاتحاد الأوروبي ثلث واردات إسرائيل من الأسلحة.
وتسعى تل أبيب لدمج صناعاتها في برامج أوروبية متقدمة بمجالات التكنولوجيا والصناعات الدوائية، غير أن التوتر الأخير يهدد برفض تمديد خطة العمل المشتركة بين الجانبين لمدة عامين، وتعليق المشاريع المشتركة في قطاعات حيوية.
كما أن عدم مراجعة الاتفاقية سيحول دون إدماج منتجات إسرائيلية جديدة في السوق الأوروبية، وهي نقطة مركزية في رؤية إسرائيل الاقتصادية، وتصدرت فرنسا، أيرلندا، وإسبانيا قائمة الدول الدافعة نحو اتخاذ مواقف أكثر حزمًا تجاه إسرائيل.
وأعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو دعم بلاده لإعادة النظر في الاتفاقية، واصفًا سياسات إسرائيل بـ«المهينة للقيم الأوروبية»، كما طالبت إسبانيا بفرض عقوبات على إسرائيل بسبب المجازر في غزة.
بدورها، أعلنت بريطانيا (رغم كونها خارج منظومة الاتحاد) وقف المحادثات بشأن اتفاقية التجارة الجديدة مع تل أبيب، وأكدت أن الاتفاقات القديمة ستظل قائمة، لكنها لن تُحدث أو تُوسع، وحاولت إسرائيل الالتفاف والتحايل على الضغوط الأوروبية.
وأعلنت حكومة الاحتلال السماح بدخول شحنة مساعدات إنسانية محدودة إلى غزة، للمرة الأولى، بعد ثلاثة أشهر من الحصار التام، غير أن هذه الخطوة لم تقنع الأوروبيين، إذ بقيت مئات الشاحنات عالقة على المعابر، بينما لم تحصل الأمم المتحدة على التصاريح اللازمة للتوزيع.
محاولات مفضوحةورغم المحاولات الإسرائيلية المفضوحة للإيحاء بـ«تحركات إنسانية»، إلا أن عجزها عن ضمان وصول المساعدات، وسط استمرار العمليات العسكرية، قوّض مصداقية رئيسها بنيامين نتنياهو، ووزراء اليمين المتطرف أمام العواصم الأوروبية، والعالم.
الاتهامات الموجهة لإسرائيل بانتهاك القانون الدولي (خاصة استهداف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، ومنع المساعدات)، لم تعد مجرد اتهامات سياسية، بل دخلت مرحلة قانونية دولية، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف ضد مسؤولين إسرائيليين بارزين.
وباتت الحكومات الأوروبية أكثر حساسية تجاه الشارع الداخلي، الذي يطالبها باتخاذ موقف واضح من الجرائم في غزة، بعدما كانت تكتفي بتبريرات إسرائيل عن «حق الدفاع عن النفس»، وإن كانت الإجراءات الأوروبية حتى الآن لا تزال في إطار المراجعة والتقييم.
مؤشرات المستقبل تُنذر بمزيد من التدهور، فإذا أثبتت المراجعة أن إسرائيل تنتهك التزاماتها الحقوقية، فقد يُفتح الباب لتعليق الاتفاقية بالكامل، أو فرض قيود تجارية، أو حتى حظر تصدير الأسلحة.
وإذا قررت محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية توجيه اتهامات مباشرة للحكومة الإسرائيلية، فإن الحكومات الأوروبية ستكون مضطرة قانونيًا لإعادة النظر في كل أوجه التعاون، كون أوروبا لم تعد كما كانت.
التبرير الأخلاقي الذي اعتمدت عليه إسرائيل لعقود بدأ يتآكل، والحصانة السياسية التي طالما تمتعت بها في المؤسسات والمحافل الأوروبية لم تعد مضمونة كما في السابق، فيما معظم العواصم الأوروبية تضع إسرائيل في موضع المساءلة.
اقرأ أيضاًالجامعة العربية تدين الغارات الاسرائيلية على محيط القصر الرئاسي في سوريا
«مفيش حاجة حيبقى اسمها اسرائيل بعد كدة».. تحذير ناري من مصطفى بكري لدولة الاحتلال بعد تحرشها بمصر
جيش الاحتلال الاسرائيلي يواصل عدوانه على جنين ومخيمها لليوم الـ65