د. إبراهيم بن سالم السيابي
الهروب، في معناه الأعمق، لا يقتصر على الفرار من سجنٍ أو الهروب من مكانٍ معين إلى مكان آخر؛ بل هو فعل نفسي وروحي يلجأ إليه الإنسان عندما يشعر أن واقعه أصبح عبئًا لا يُحتمل، أو ما يسمى بالهروب من الواقع و هو محاولة لا إرادية للابتعاد عن حياةٍ لا ترضيه، أو ضغوطٍ تفوق قدرته على الاحتمال، أو حتى عن مشاعر تؤلمه ولا يجد لها حلًا؛ فهو ليس مجرد فعل مادي؛ بل حالة ذهنية معقدة، يختار فيها الإنسان- بوعي أو بدون وعي- أن يُغلق عينيه عن بعض الأمور التي هي في الحقيقة أمر واقع، بحثًا عن عالم بديل لربما أكثر اطمئنانا لروحه ونفسه أو لربما أكثر رحمة لراحة باله، لكن الإنسان في كثير من الأحيان، لا يدرك أن هذا الهروب قد يتحول إلى سجن جديد، أكثر قسوة مما هرب منه في البداية.
وتتعدد أشكال الهروب وتتنوع بين الظاهر والخفي، فهناك من يهرب بالانعزال، يبتعد عن الناس ويغرق في وحدته، كأنما يحاول الاختباء داخل قوقعته بعيدًا عن ضجيج العالم والناس أو ما يزعجه، وهناك من يهرب إلى الخيال، يخلق قصصًا داخل رأسه يعيشها وكأنها واقع، ينسج حكايات عن حياةٍ لم يعشها، أو يستعيد ذكريات ماضٍ جميل ليهرب من حاضرٍ مؤلم يعيشه، والبعض يختبئ خلف انشغاله المستمر، يغرق في العمل بلا هوادة، ليس حبًا في العمل بحد ذاته أو الإنتاج، بل خوفًا من لحظة فراغ تجبره على مواجهة ما يزعجه ويقض مضجعه، وآخرون قد يجدون مهربهم في السفر، يظنون أن الأماكن البديلة ستمنحهم الراحة المطلوبة، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنَّ ما يهربون منه يسافر معهم، يسكن داخلهم ولا يمكن التخلص منه بمجرد تغيير الجغرافيا أو البلدان.
وهناك مع الأسف من يهرب إلى الإدمان، سواء كان إدمان المخدرات، الكحول، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى النوم لساعات طويلة، بحثًا عن لحظات من النسيان، دون أن يدركوا أنَّ هذا النسيان مؤقت، وأن الألم سيعود أقوى كلما انتهى تأثير الهروب.
لكن، لماذا يهرب الإنسان؟ ما الذي يدفعه إلى الانفصال عن واقعه؟
الأسباب كثيرة ومتنوعة، لكنها جميعها تنبع من إحساس عميق بالعجز أو الألم، فقد يكون السبب حبًا لم يكتمل، علاقة انتهت قبل أوانها، أو مشاعر لم تجد طريقها إلى النور، وقد يكون ضغطًا ماليًا يُثقل كاهله، يجعله يشعر بأنه محاصر في دائرة لا مخرج منها، أو وظيفة مرهقة لا تمنحه أي شعور بالإنجاز أو الطموح، وربما قد يكون السبب بيئة أسرية غير ملائمة، أو مجتمعًا يضع أمامه معايير لا تتناسب مع طبيعته وأحلامه وهناك أسباب أخرى عديدة لا يُمكن حصرها؛ فيصبح الهروب خيارًا مغريًا، كأنما هو طوق نجاة من بحرٍ هائج، لكنه في الحقيقة قد يكون مجرد وهم يُغرق صاحبه أكثر.
لكن السؤال الأهم هو: هل الهروب حل؟ هل يمكن للإنسان أن يهرب من مما يؤرقه حقًا، أم أنه يؤجل المواجهة فقط؟ الواقع أن الهروب لا يمحو المشكلة، بل يجعلها تكبر في الظل، فتكبر وتتحول إلى شيء أكبر يصعب السيطرة عليه لاحقًا، فالمشاكل لا تزول بالتجاهل، بل بالمواجهة، والهروب المستمر يجعل الإنسان أضعف أمامها كلما عاد لمواجهتها من جديد، إنه يمنح راحة مؤقتة، لكنه في الوقت نفسه يسرق من الإنسان قدرته على التكيف، على إيجاد حلول حقيقية، لاستعادة السيطرة على حياته.
لكن، هل يمكن أن يكون الهروب إيجابيًا؟ ربما، إذا كان هروبًا مؤقتًا بهدف إعادة ترتيب النفس والتفكير بهدوء فأحيانًا يحتاج الإنسان إلى خطوة للخلف، إلى مساحة من العُزلة ليُعيد تقييم الأمور، ليجد طريقة أفضل للتعامل مع أزماته، لكن الفرق بين الهروب المؤقت والهروب المزمن هو أن الأول يمنح الإنسان فرصة للعودة أقوى، بينما الثاني يسلبه قدرته على العودة تمامًا.
وحتى نكون منصفين الهروب ليس دائمًا فعلًا سلبيًا، لكنه ليس حلًا أيضًا، فالمواجهة رغم صعوبتها، هي الطريق الوحيد للخروج من الأزمات، والتغيير الحقيقي لا يحدث بالفرار، بل بالقدرة على الصمود وإعادة تشكيل الواقع بوعي وإصرار فقد يكون الواقع مؤلمًا، لكن مواجهته هي السبيل الوحيد، بينما الهروب قد يبدو راحة، لكنه في النهاية مجرد وهم جديد يطارد صاحبه أينما ذهب فهو إغراءً مؤقتًا يشبه السراب الذي يمنحك الوهم دون أن يروي عطشك فكلما هربت وجدت أن المشكلات ما زالت تلاحقك، وربما أصبحت أكبر مما كانت عليه فالحياة لا تنتظر الفارين، بل تكافئ من يواجهونها بشجاعة.
ختاما.. المواجهة ليست مسؤولية فردية فقط؛ بل هي مسؤولية مشتركة علينا كأسرة أو مجتمع أن نمدّ يد العون والمساعدة قدر ما نستطيع لمن يشعرون أنهم عالقون في أي أمر يدفعهم للهروب منه، وأن نصنع لهم بيئة داعمة تساعدهم على الوقوف من جديد، فالحياة تصبح أيسر حين نواجهها معًا، لا حين نترك بعضنا يغرق في وهم الهروب!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جنبلاط: السلاح يجب أن يكون حصرًا بيد الدولة اللبنانية.. وما من شيء يدوم
أعلن الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، خلال مؤتمر صحفي، أن هناك صفحة جديدة فُتحت في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن السلاح يجب أن يكون حصرًا بيد الدولة اللبنانية.
وأوضح جنبلاط أنه في حال وجود أي سلاح لدى حزب لبناني أو غير لبناني، فإنه يتمنى أن يُسلَّم هذا السلاح إلى الدولة بطريقة مناسبة. واعتبر أن “السلاح الأنفع للأجيال المقبلة هو سلاح الذاكرة”، داعيًا إلى توريث ذاكرة البطولات والمقاومة ضد إسرائيل وعملائها.
وأشار إلى أنه أبلغ رئيس الجمهورية بوجود سلاح في موقع ما في المختارة، وطلب من الأجهزة الأمنية المختصة تولّي هذا الموضوع، وقد تمّ تسليمه بالكامل منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. وبيّن أن هذا السلاح كان قد جُمع تدريجيًا بعد أحداث 7 أيار 2008، خلال فترة التوتر بين “حزب الله” والحزب التقدمي الاشتراكي.
أخبار قد تهمك خسائر مباشرة تُقدّر بـ3 مليارات دولار لإسرائيل جراء الحرب مع إيران 26 يونيو 2025 - 3:06 مساءً رئيس وزراء إسبانيا: أوروبا مطالبة بتعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل فورًا 26 يونيو 2025 - 2:46 مساءًوأضاف جنبلاط أنه عمل على تجميع هذا السلاح بشكل مركزي، وهو سلاح خفيف ومتوسط، وقد تم تسليمه بالكامل إلى الدولة اللبنانية. وختم بالتأكيد على أن الجولة الحالية شهدت انتصار إسرائيل والغرب بتحالفهم مع الولايات المتحدة، لكن “ما من شيء يدوم”، بحسب تعبيره.