احتكار «جوجل».. تهديد للإبداع الرقمي!
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
منذ سنوات تتربع «جوجل» على عرش العالم الرقمي، إذ أنها من يحدد لملايين البشر في العالم المحتوى الذي يصلون عليه ويستهلكونه على شبكة الويب. اليوم، ومع اندماج تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في أدوات البحث، يتعزز احتكار «جوجل»، ليشمل ليس فقط بوابات الوصول إلى المعلومات، بل أيضًا صناعة المحتوى نفسه، إذ يشعر صناع المحتوى المستقلون، والناشرون والمنصات الإعلامية وحتى المؤسسات الإعلامية العريقة، بالقلق من المستقبل الغامض الذي ينتظرهم.
كانت «جوجل» ومازالت تمثل بوابة العالم إلى الإنترنت. بنقرة واحدة على محركها، يحصل المستخدم على قائمة بروابط تقوده إلى مصادر ، بما يضمن تنوعًا وفرصا للناشرين لاستقطاب الزوار وتحقيق الإيرادات، سواء عبر الإعلانات أو الاشتراكات. غير أن إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ضمن محرك البحث غيّر هذه المعادلة جذريًا.
لم تعد «جوجل» تقتصر على توجيه المستخدمين نحو مواقع الويب، بل باتت تقدم لهم إجابات مباشرة، مولدة بالذكاء الاصطناعي، دون الحاجة إلى مغادرة محرك البحث. وبذلك، تقلصت فرص المواقع الإلكترونية في جذب الزوار، ما يعني انخفاضًا محتملا في الإيرادات. وتشير التقديرات إلى أن حركة المرور على الإنترنت سوف تنخفض بنسبة 25% بحلول عام 2026 نتيجة لهذا التغير، وذلك بسبب اكتفاء غالبية المستخدمين بإجابات الذكاء الاصطناعي التي تظهر مباشرة على صفحة نتائج البحث، دون الحاجة إلى زيارة المواقع الإلكترونية التي أنتجت هذا المحتوى. ووفقًا لتقرير شركة الأبحاث والاستشارات التقنية الشهيرة «غارتنر»، فإن الناشرين الرقميين والمبدعين المستقلين الذين يعتمدون على محركات البحث لجذب الزوار وتحقيق الأرباح سوف يتضررون كثيرا من هذا التحول، كما أن نظام شبكة الويب، الذي كان يعتمد على علاقة متبادلة بين محركات البحث ومقدمي المحتوى، أصبح مهددًا بسبب تحول محركات البحث إلى مصادر معرفية مستقلة عبر الذكاء الاصطناعي التوليدي.
يدعم الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرات «جوجل» الجديدة، حيث يقوم بقراءة وتحليل المحتوى من مختلف المواقع الإلكترونية، ثم يقدم إجابات متكاملة للمستخدمين. بمعنى آخر، تقوم «جوجل» بإعادة صياغة المعلومات، مستفيدة من جهود آلاف الكتّاب والصحفيين والخبراء، دون تقديم تعويض عادل لهم. هنا يبرز الخطر الأكبر المتمثل في تحول المحتوى على الشبكة إلى محتوى يسيطر عليه عدد صغير من شركات التكنولوجيا العملاقة، بينما يفقد المنتجون الصغار والناشرون المستقلون حوافزهم للاستمرار في تقديم محتوى عالي الجودة. فبدون زيارات لمواقعهم ولا إيرادات من الإعلانات، لن تكون هناك دوافع وراء الكتابة أو إنتاج محتوى جيد.هيمنة «جوجل» المتزايدة على الفضاء الإلكتروني أثارت موجة من الدعاوى القضائية والانتقادات، لم تعد تقتصر على الناشرين والمبدعين المستقلين، بل وصل إلى عمالقة التعليم الرقمي مثل شركة «شيج»، التي تأسست عام 2005، ويقوم نموذج عملها الرقمي على الاعتماد على حركة المرور القادمة من بحث «جوجل»، ووجدت نفسها بعد إدماج «جوجل» للذكاء الاصطناعي في محرك البحث، في صراع قانوني مع «جوجل». وأقامت دعوى قضائية تتهم «جوجل» بإساءة استخدام احتكارها لمحركات البحث من خلال تقديم ملخصات لمحتواها عبر الذكاء الاصطناعي، ما ألحق بها خسائر فادحة، بعد أن أصبح المستخدمون يحصلون على إجابات مباشرة من «جوجل» دون الحاجة إلى زيارة موقعها، وهو ما يمثل تهديدا وجوديا لها.
وعلى مستوى أوسع، رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى مكافحة احتكار ضد «جوجل»، تتهمها بالسيطرة غير القانونية على قطاع البحث، ما يضر بالمنافسة ويخنق الابتكار. ويعتقد خبراء القانون أن احتكار «جوجل» يجعلها هدفًا لمثل هذه الدعاوى، في حين أن شركات أخرى للذكاء الاصطناعي التوليدي لا تزال بمنأى عن هذا الخطر القانوني.
لم تكن المؤسسات الإعلامية الكبرى بمنأى عن هذا الصراع. وعلى سبيل المثال أقامت صحيفة «نيويورك تايمز»، دعوى ضد شركتي «أوبن أيه آى»، و«ميكروسوفت» بسبب استخدام محتواها المحمي بحقوق النشر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون إذن أو تعويض. وفي ذات السياق، فرضت مئات المؤسسات الإعلامية قيودًا تقنية لمنع شركات التقنية من سحب محتواها، لكنها تواجه صعوبات في حماية أرشيفها السابق. وتسعى «جوجل» إلى تهدئة هذا الغضب الإعلامي من خلال توقيع اتفاقيات مع بعض الناشرين، كما فعلت مع بعض الصحف والمجلات ووكالات الأنباء العالمية، بهدف استخدام محتواها بشكل قانوني مقابل رسوم متفق عليها. غير أن هذا لا يعالج جوهر المشكلة، إذ تظل الأغلبية من صناع المحتوى خارج هذا النظام التعويضي.
وفي رد فعل مباشر على استنزاف محتواها، فرضت مئات المؤسسات الإعلامية حول العالم، من بينها صحيفة «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«رويترز»، قيودًا تقنية صارمة لمنع شركات التقنية وشركات الذكاء الاصطناعي، بما فيها «جوجل»، من سحب محتواها دون إذن، بما في ذلك استخدام أدوات «حجب البيانات» على مواقعها الإلكترونية، بهدف منع الزحف الآلي الذي تستخدمه الشركات لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي بالمحتوى. وتتضمن هذه القيود استخدام ملفات تمنع البرامج المملوكة لشركات الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى أرشيفات المواقع الصحفية والإعلامية، واستخدام أنظمة التحقق الرقمي، لإيقاف الوصول التلقائي للموقع من البرمجيات غير المصرح به، بالإضافة إلى استخدام برمجيات التتبع، التي تكشف عمليات السحب غير القانوني للمحتوى.
في تقديري أن استمرار هذا التوجه من شركات التقنية العملاقة وشركات الذكاء الاصطناعي يهدد فكرة الإنترنت المفتوح الذي عرفناه لعقود، والذي كان يضمن، إلى حد كبير، تعدد مصادر المعلومات وتنافس المواقع على تقديم محتوى غني ومتنوع. بدلًا من ذلك، يتجه العالم إلى نظام إنترنت مغلق تهيمن عليه حفنة من الشركات الكبرى، التي تتحكم ليس فقط بالبحث، بل أيضًا بالمحتوى نفسه. إن خسائر الناشرين والمبدعين والتي قد تصل إلى ملياري دولار بسبب دمج «جوجل» بين البحث والذكاء الاصطناعي، قد يؤدي إلى انهيار المنظومة الاقتصادية التي يقوم عليها إنتاج المحتوى، حيث لم يعد هناك حافز كافٍ للإبداع والنشر في بيئة تسيطر عليها خوارزميات لا تمنح سوى جزء يسير من العائدات للمنتجين. ففي الوقت الذي تواصل فيه «جوجل» تحسين أدواتها القائمة على الذكاء الاصطناعي، تظل الأسئلة المطروحة حول عدالة هذا النظام وشفافيته قائمة وتحتاج إلى إجابات. إن الأسئلة المطروحة الآن لا يجب أن تقتصر فقط على مستقبل أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيرها على الصحافة ووسائل الاعلام، ولكن أيضا ما إذا كانت «جوجل» كعملاق تقني خارج السيطرة قادرة على تحقيق التوازن بين مصلحة المستخدمين وحقوق الناشرين والمبدعين؟ وهل يمكن لقوانين مكافحة الاحتكار أو التشريعات الرقمية أن تحد من نفوذها الرقمي؟
إن الموقف الحالي يتطلب تقييمًا شاملًا لمستقبل الإنترنت يستند الى حوار عالمي حول نظام الإنترنت الذي نريده: هل نريد أن يبقى كما عرفناه مساحة مفتوحة للجميع، أم حقلًا خاصًا تديره حفنة من الشركات التكنولوجية العملاقة؟ إن رهان المستقبل يبقى معتمدا على وعي المستخدمين، وتحركات المبدعين، ودور الحكومات في الحفاظ على فضاء رقمي مفتوح وعادل.
من المؤكد أن صراع «جوجل» مع «نيويورك تايمز»، وغيرها من صناع المحتوى، والقيود التقنية التي فرضتها مئات المؤسسات الإعلامية، ليس سوى بداية معركة أكبر حول ملكية المعرفة الرقمية. هذه المواجهة سوف تحدد إلى حد كبير مستقبل الإنترنت: إما كفضاء حر وديمقراطي، أو كسوق مغلق يُدار بواسطة الخوارزميات ويحقق فقط مصالح الشركات الكبرى.
أ.د. حسني محمد نصر أكاديمي فـي قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التولیدی المؤسسات الإعلامیة
إقرأ أيضاً:
«شرطة دبي» تنظم ورشة تعريفية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي
دبي (الاتحاد)
نظمت الإدارة العامة للذكاء الاصطناعي في شرطة دبي، ورشة عمل تعريفية متخصصة حول رؤية الذكاء الاصطناعي (AI Vision) و(Copilot)، بالتعاون مع شركتي مايكروسوفت وPulses، بحضور مساعدي القائد العام ومديري الإدارات العامة ومراكز الشرطة. وأكد اللواء الدكتور عبدالقدوس عبدالرزاق العبيدلي، مساعد القائد العام لشؤون التميز والريادة، أن هذه الورشة تأتي في إطار جهود شرطة دبي الرامية إلى دراسة والاطلاع على أبرز التقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي المعمول بها عالمياً، بما يضمن استدامة تطوير منظومة العمليات وفق أفضل الممارسات العالمية، وبما يدعم التوجهات الاستراتيجية لشرطة دبي في تعزيز الأمن والأمان. من جانبه، قال اللواء خالد ناصر الرزوقي، مدير الإدارة العامة للذكاء الاصطناعي، في كلمته الافتتاحية: «نهدف من خلال هذه الورشة إلى تبادل المعرفة والخبرات في هذا المجال الحيوي، وتقديم أحدث التطورات والابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعريف المشاركين بكيفية استخدامها في عملياتهم، كما نركز على تمكين العمليات الأمنية الذكية، وتعزيز استراتيجية التحول من خلال رواد التكنولوجيا، وتوظيف كافة الممكنات لتعزيز الكفاءة التشغيلية، إلى جانب توفير فرصة للتعلم والتفاعل مع أحدث الابتكارات». وتابع: «إن الإدارة العامة لإدارة الذكاء الاصطناعي، تسعى للوصول إلى فهم عملي متقدم لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيفية الاستفادة منها في تحسين الكفاءة التشغيلية، وإعداد خريطة طريق تقنية متكاملة لتوظيف مختلف الممكنات في مختلف الإدارات، بما يعزز جاهزية شرطة دبي لمواجهة التحديات الأمنية المستقبلية بمنهجية استباقية». كما تم تسليط الضوء خلال الورشة، على الاستخدام الفعلي للنظام في مجالات متعددة، مثل رصد الحوادث المرورية، وإعادة بناء تسلسل الأحداث في التحقيقات الجنائية.
تحليل البيانات
استعرض فريق شركة مايكروسوفت، خلال الورشة، أحدث تطبيقات منصة Copilot المعززة بالذكاء الاصطناعي، وركز العرض على كيفية توظيف Copilot وسبل تسريع تحليل البيانات واتخاذ القرار في بيئات العمل الأمني، بالإضافة إلى دعم العمل التعاوني بين الإدارات عبر أدوات متقدمة لإصدار التقارير، والردود التلقائية، وتلخيص الاجتماعات. كما استعرض الفريق مجموعة من الحلول الذكية، شملت التعرف على الوجوه، واكتشاف المشاعر، والتتبع البصري المتعدد، وتحليل الحشود، والمراقبة الحرارية والمرورية، إلى جانب أنظمة الإنذار المبكر المرتبطة بمنصة تحليل موحدة.