ريم بين ركام غزة.. حين يصبح النسيان نعمة والذاكرة جحيما
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
في ليلة 27 رمضان، بينما كان سكان بيت لاهيا شمالي قطاع غزة يُحيون ليلهم بصلاة القيام، انفجر صمت السماء بصوت مدوّ حولت به قذيفة إسرائيلية منزل عائلة البلي إلى ركام، تاركة ريم حسام (16 عاما) محاصرة بين جثث أمها وأبيها وأختها الصغيرة.
ظلت الفتاة الفلسطينية 4 أيام بلا طعام، تشرب ماء قد توفر لها، وتستجدي الحياة بين رائحة الموت، قبل أن تخرج وتجدها إحدى قريباتها مذعورة وعاجزة عن النطق، وتلوح برأسها إجابة عن سؤال: "أنتِ ريم؟".
كانت أسرة المحامي حسام البلي تعيش بسلام قبل أن تنقلب موازين الوجود في لحظة قصف واحدة، فحين كان البعض يقيمون ليلهم بصلاة التراويح، ذهب القتلة إلى ما يتقنون -القتل- كما تقول مراسلة الجزيرة فاطمة التريكي في تقريرها عن الفتاة ريم.
تحكي ريم بوجه تظهر عليه آثار الحادثة، وهي تحاول استعادة شظايا ذاكرتها المبعثرة: "في الحرب جاءت أختي، بس هذا اللي متذكرة". تتوقف لحظات كأنها تبحث عن كلمات غارقة في بحر النسيان، ثم تستحضر صورة أختها صبا: "لما كنت أطلع كانت تزعل أختي وتبكي كتير بدها إياني (تريدني)، بتلزق (تلتصق) بي. أختي كانت كتير تحبني، وأنا كنت أحبها".
يروي التقرير مأساة هذه الفتاة التي فقدت نصف عائلتها في غارة إسرائيلية، فدويّ الانفجار الذي، كما تقول التريكي، "حين ينفث ناره، يصيب بصمم لحظي"، قد يكون سببا في فقدان ريم لأجزاء من ذاكرتها. "لا أتذكر كيف أصبت نهائيا، لا أتذكر شيئا قبل ذلك"، تقول ريم بصوت خافت.
إعلانانهار منزل آل البلي بقنبلة، لكن القدر ترك فسحة صغيرة عاشت فيها ريم مصابة وسط الأنقاض. "ضليت (ظللت) 4 أو 5 أيام… بقيت أشرب مي"، تقول ريم مختصرة رحلة بقاء استمرت أياما تحت الركام بجوار جثامين أحبتها.
حلم بعيد المنالوبعد أيام العزلة والألم، استطاعت ريم أن تخرج من تحت الأنقاض وتتحرك كالشبح نحو بيت جدها، حيث تتخيل أنها وجدت ماء ساخنا للاستحمام، وهو حلم بعيد المنال في غزة المحاصرة، ثم تراءت لها أشباح وأشخاص في رحلتها المشوشة، حتى عثر عليها أقارب بالمصادفة.
"أخو زوج خالتي كان مروح (ذاهبا) مع زوجته ولقاني… قالت زوجته: معقول هذي ريم؟ لما شافتني (رأتني) قالت لي: أنت ريم؟ فأومأت برأسي لأني لم أكن أقدر على الكلام،" تروي ريم لحظة إنقاذها بكلمات مقتضبة.
المفارقة الأكثر إيلاما في قصة ريم أنها، رغم معرفتها بفقدان والديها وأختها الصغيرة، لم تستطع البكاء إلا عندما رأت شيئا واحدا: "ترنجة (ملابس) أختي لما شفتها آخر مرة على الحبل"، فملابس طفلة معلقة على حبل الغسيل كانت كافية لتفجر نهرا من الدموع المكبوتة.
وتعلق التريكي "وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة"، مستشهدة بشاعر فلسطيني كتب هذه الكلمات قبل عقود، كأن المأساة تعيد نفسها ثم تتساءل: "أي زلازل نفسية في دواخلهم؟ أعقدة الناجي أم قسوة الظلم أم كسر حاجز الموت أم قهر الفقد الجماعي؟".
وريم نموذج لعشرات الآلاف من المدنيين، خصوصا الأطفال الذين يعيشون أهوالا تفوق الاحتمال في غزة، فتاة في مقتبل العمر حُرمت من أسرتها، وأُجبرت على مواجهة وحشية الحرب وقسوة الفقد وحدها.
ويبقى السؤال معلقا في نهاية التقرير: "ماذا فعلت غزة لتلقى كل هذا اللؤم؟ ماذا فعلت ريم وصبا وأسماء أخرى؟"، والإجابة المرة: "لا شيء… إنهم فلسطينيون في أرض محتلة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
حين يتحول الضابط إلى خلية نائمة: ماذا تقول لنا قضية أمجد خالد؟
في الحروب الكلاسيكية، كان العدو واضحًا. تقرأ وجهه في الخنادق، وتصوّب بندقيتك نحو صوته.
أما في حروب اليوم، فالعدو بلا وجه. يتحرّك بيننا، يوقّع محاضر الاجتماعات معنا، ويصافحنا وهو يخفي مسدسًا في جيبه.
الإعلان الذي خرجت به اللجنة الأمنية العليا في عدن لم يكن مجرد كشف عن خلية إرهابية، بل كان كشفًا عن واقع أخطر: أن الجبهة لم تعد هناك، بل هنا… في الداخل، في المدن التي نظنها آمنة، وفي المؤسسات التي نثق بها.
الخلية التي تم تفكيكها، وفقًا لما أُعلن، تنشط في تعز، ومرتبطة بثلاث قوى كبرى في مشهد الإرهاب: الحوثي، القاعدة، وداعش. ثلاث رايات تبدو متنازعة، لكنها تلتقي في الغرض: زعزعة ما تبقى من بنية الدولة، وإسقاط المناطق المحررة من داخلها.
على رأس الخلية يقف اسمٌ لافت: أمجد خالد، القائد السابق لما كان يُعرف بـ«لواء النقل». رجلٌ خرج من رحم المؤسسة العسكرية، ليقود لاحقًا شبكة تتهمها الدولة باغتيال مسؤولين أمميين، كـ مؤيد حميدي، وتفجير موكب محافظ عدن، والتخطيط لانهيار أمني في عمق المحافظات.
لم تكن الخلية تسكن الكهوف، بل الأحياء.
لم تكن ترتدي السواد، بل الأزياء الرسمية.
تتنقل بحرية، وتزرع العبوات، وتُوثّق العمليات بالصوت والصورة، وكأنها ترسل تقارير استخباراتية لا مجرد رسائل تهديد.
لكن ما يجب أن نتوقف عنده ليس حجم العملية فحسب، بل سؤال أعمق:
كيف نمت هذه الخلايا داخل المدن المحررة؟ ومن حماها؟ ومن صمت؟
إنّ ما فعلته اللجنة الأمنية خطوة مهمة، لكنها لا تكفي. فالمعركة الحقيقية لا تُخاض فقط بالبيانات ولا بالقبضات الأمنية.
الخطر لن يُهزم ما لم نستعد المعنى الأصلي لكلمة «وطن»؛ أن يكون شعورًا يوميًّا بالانتماء، لا يمرّره المال، ولا يُخترقه الخوف، ولا تُربكه الولاءات الصغيرة.
العدو، هذه المرة، لا يقف خلف المتاريس…
بل قد يكون على مقاعد الاجتماعات.
لا يزأر… بل يبتسم.
وبينما نغفو… يكتب فصول الانهيار بهدوء.
من صفحة الكاتب على منصة إكس