كيف نفهم رسوم ترامب الجمركية؟
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
ترجمة: قاسم مكي -
كيف يمكن للمستثمرين فهم الطريقة التي يضع بها دونالد ترامب سياساتِه. هذا هو السؤال الحارق مع تهاوي الأسواق بعد إعلان الرئيس الأمريكي يوم 2 أبريل عن رسوم جمركية تفوق حتى تلك التي تعود إلى حقبة الثلاثينيّات الحمائية في القرن الماضي.
إذا نظرنا إليها عبر عدسة التيار الرئيسي للفكر الاقتصادي في القرن العشرين سواء ذلك الذي كان يمثله جون مينارد كينز أو دعاة حرية السوق من أمثال ميلتون فريدمان تبدو مثل هذه الرسوم الجمركية إيذاء للنفس على نحو غريب.
في الواقع «يوم التحرير» الذي أعلنه ترامب يوحي بنوع من الجنون الاقتصادي الذي ربما علماء النفس أفضل في تفسيره من خبراء الاقتصاد.
على أية حال أنا أزعم أن ثمة اقتصاديا لأبحاثه صلة وثيقة بما يحدث في هذه الآونة. إنه البيرت هيرشمان. وهو مؤلف كتاب لافت نشر في عام 1945 بعنوان «القوة الوطنية وبنية التجارة الخارجية».
في العقود القليلة الفائتة لم ينتبه الناس إلى هذه الدراسة، كما ذكر جيريمي ايدلمان المؤرخ بجامعة برنستون وكاتب سيرة هيرشمان - ولا غرابة في ذلك.
لقد عانى هيرشمان الألماني من صدمة الحرب الأهلية الإسبانية وألمانيا النازية وهذا ما جعله يقرر عند وصوله إلى جامعة كاليفورنيا كباحث اقتصاد دراسة الاكتفاء الذاتي (الاستقلال الاقتصادي).
بتحديد أكثر استخدم هيرشمان سياسة «الحمائية» الكارثية التي سادت خلال ثلاثينيات القرن العشرين في تطوير إطار لقياس الإكراه الاقتصادي وممارسة القوة المهيمنة (وهذه الأخيرة هي العبارة الأكاديمية لمفهوم التنمُّر).
لكن التحليل الذي أنجزه تجاهله اقتصاديو التجارة إلى حد بعيد لتعارضه مع الأفكار الاقتصادية للكينزيين والليبراليين الجدد على السواء.
تجسد الأثر الرئيسي لكتاب هيرشمان في تحليل محاربة الاحتكار. فقد استخدم الاقتصادي أوريس هيرفيندال أفكار هيرشمان لاحقا لإيجاد مؤشر يقيس تركز نفوذ الشركات (بهدف تحديد مدى احتكار أو سيطرة عدد محدود من الشركات على قطاع في السوق أو السوق بأكمله - المترجم). تبنت هذا المؤشر وزارة العدل الأمريكية وجهات أخرى (لأغراض من بينها قبول أو رفض اندماج الشركات بناء على الأثر الاحتكاري الذي يمكن أن ينجم عن الاندماج المقترح - المترجم).
لكن إذا كان هيرشمان حيا اليوم ورأى ترامب وهو يكشف عن استراتيجية رسومه الجمركية في حديقة الورد بالبيت الأبيض هذا الشهر لن يُدهش. فالمفكرون الليبراليون الجدد كثيرا ما ينظرون إلى السياسة كاشتقاق أو فرع من الاقتصاد. لكن هيرشمان ينظر إلى الأمر بطريقة معكوسة. فهو يقول: «طالما يمكن للدولة ذات السيادة وقف التجارة مع أي بلد بإرادتها فالمنافسة من أجل اكتساب المزيد من النفوذ تتخلل العلاقات التجارية». وهو اعتبر التجارة «نموذجا للإمبريالية التي لا تحتاج إلى الغزو لإخضاع الشركاء التجاريين الأضعف» - بحسب ايدلمان.
هذا قريب من الكيفية التي يفهم بها مستشارو ترامب الاقتصاد. لكنه مختلف جدا عن الكيفية التي كان ينظر بها آدم سميث أو ديفيد ريكاردو إلى التدفقات التجارية (والتي افترضا أنها تحدث بين أطراف متكافئة في القوة والنفوذ).
ينشط بعض الاقتصاديين في تعزيز هذا التحول في الفكر الاقتصادي. فبعد حديث ترامب نشر ثلاثة اقتصاديين أمريكيين هم كريستوفر كلايتون وماتيو ماجوري وجيسي شريجر ورقة ترسم الخطوط العريضة لحقل «الجيو اقتصاد» الناشئ والذي أوحت به أفكار هيرشمان. عندما بدأ هؤلاء الثلاثة أجندة هذا البحث قبل أربعة أعوام «لم يكن هنالك أحد تقريبا مهتما» بهذه الأفكار لتناقضها مع الأطر الفكرية الحالية، كما أقر بذلك ماجوري. لكنه يقول: الاهتمام بها يزداد الآن ويتوقع تحولا فكريا وشيكا ومماثلا لذلك الذي حدث بعد الأزمة المالية العالمية.
على سبيل المثال اشتمل اجتماع الجمعية المالية الأمريكية لهذا العام على جلسة جديدة حول «الجيو اقتصاد» قدم فيها موريس اوبستفلد كبير الاقتصاديين السابق بصندوق النقد الدولي (وأحد المعجبين بهيرشمان) خطابا بليغا.
طرح هذا البحث ثلاث أفكار رئيسية يجب أن يهتم بها المستثمرون. فأولا وهذه هي الفكرة الأكثر وضوحا يظهر تحليل الباحثين الثلاثة أن من الخطورة للبلدان الصغيرة الإفراط في الاعتماد على أي شريك تجاري كبير. ويقدمون أدوات لقياس مثل هذه الهشاشة.
ثانيا، يحاجج الباحثون بأن مصدر القوة المهيمنة للولايات المتحدة اليوم ليس الصناعة التحويلية (بما أن الصين تسيطر على سلاسل التوريد الرئيسية) ولكن مصدرها مالي ومبني حول نظام يرتكز على الدولار. لذلك رسوم ترامب هي بالضرورة محاولة لتحدي دولة مهيمنة أخرى (الصين)، لكن سياساته المتعلقة بالمال مسعى منه للدفاع عن الهيمنة الأمريكية الحالية. (في اعتقادي الهيمنة في مجال القوة التقنية ما زالت خاضعة للتنافس) وهذا التمييز مهم للبلدان الأخرى التي تحاول أن تردّ.
ثالثا، يحاجج الباحثون الثلاثة بأن القوة المهيمنة لا تمارس هيمنتها بنفس القدر في كل الأحوال. فإذا كانت لدى الدولة المتنمرة حصة سوقية بنسبة 80% مثلا فإنها غالبا ما تكون مسيطرة بنسبة 100%. لكن إذا تراجعت نسبة هذه الحصة إلى 70% ستتهاوى سيطرتها بوتيرة أسرع لأن الدول الضعيفة يمكنها أن تجد بدائل.
هذا يفسر سبب فشل الولايات المتحدة في إخضاع روسيا عبر العقوبات المالية. وقد يسود هذا النموذج على نطاق أوسع إذا ردَّت البلدان الأخرى على رسوم ترامب العدائية بتصوُّر وتطوير بدائل للنظام المالي الذي يرتكز على الدولار. فالدول المتنمِّرة تبدو منيعة إلى أن يتضح خلاف ذلك.
هل هذا التحليل محبط؟ نعم. (تقصد الكاتبة التحليل الذي يتحدى الافتراض برسوخ هيمنة أمريكا خصوصا على النظام المالي - المترجم). لكن يجب عدم تجاهله. وإذا رغب المستثمرون وواضعو السياسات الذين يعوِّلون على استمرار هذه الهيمنة في التخلص من هذا الإحباط ربما عليهم أن يلاحظوا شيئا آخر. فهيرشمان رغم كل المصاعب التي واجهها كان متفائلا طوال حياته. لقد كان يعتقد أن البشر يمكنهم التعلم من الماضي لبناء مستقبل أفضل.
ترامب يتجاهل هذا الدرس الآن مع ما يترتب على ذلك من عواقب بائسة. لكن لا ينبغي لأي أحد آخر أن يفعل ذلك
جيليان تيت .. كاتبة رأي ورئيسة هيئة التحرير بصحيفة الفاينانشال تايمز
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«البرازيل ليست حديقة خلفية».. بين تحدي الهيمنة وصعود القوة الناعمة في الجنوب العالمي
منذ عودته إلى سدة الحكم، رفع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا شعار «البرازيل أولًا»، ليس كنسخة مقلّدة من شعارات قومية أخرى، بل كتعبير صادق عن رغبة وطنية لكسر حلقة التبعية والهيمنة، وإعادة تعريف موقع البرازيل على الخريطة العالمية.
في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتفكك فيه مراكز القوة التقليدية، قررت برازيليا أن تكون أكثر من مجرد قوة إقليمية: أن تصبح لاعبًا عالميًا له موقف مستقل، ورؤية مختلفة للعالم، بعيدًا عن الوصاية الغربية.
تسعى البرازيل اليوم لتكون رافعة جديدة للاقتصاد العالمي من خلال دورها المحوري في مجموعة «بريكس»، وتوسيع نفوذها في ملفات التنمية، والطاقة النظيفة، والمناخ، والغذاء، وأيضًا عبر سياسة خارجية متوازنة تراعي العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
في هذا السياق، برز موقفها المتقدم من قضايا الشرق الأوسط، وخصوصًا في دعمها لحل الدولتين في فلسطين، ورفضها القاطع لأي تدخل عسكري أجنبي في سوريا، وإدانتها للحصار على غزة، ما جعل منها صوتًا جنوبيًا حرًا يعيد التوازن في خطاب العلاقات الدولية.
ولا يمكن تجاهل الدور المتنامي للجاليات العربية في الداخل البرازيلي، لا سيّما من أصل لبناني وسوري وفلسطيني، التي تجاوزت عدة ملايين من السكان، وساهمت في تشكيل المزاج العام والسياسات، سواء في البرلمان أو الإعلام أو التجارة.
لقد أصبحت هذه الجاليات جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، يعزّز من روابط البرازيل بالمنطقة العربية، ويجعلها في قلب الحسابات الجديدة لما بعد عصر الهيمنة.
ترامب ونظرة التسلط المستمرةفي هذا الإطار، يبرز موقف الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، الذي لا يزال يتعامل مع أمريكا اللاتينية بعقلية الحرب الباردة. يعتقد ترامب أن البرازيل مجرد "حديقة خلفية"، وأن بإمكانه توجيه قراراتها، أو على الأقل ليّ ذراعها اقتصاديًا من خلال فرض ضرائب وعقوبات غير معلنة على صادراتها تحت ذرائع بيئية أو سياسية أو تجارية.
لكن هذه النظرة الفوقية تصطدم بواقع مختلف: البرازيل لم تعد تلك الدولة التي تُدار من واشنطن، بل باتت أكثر جرأة في رفض الإملاءات، وأكثر وعيًا بمصالحها القومية، كما ظهر في ملفات كبرى تتعلق بعلاقاتها مع الصين وروسيا، ورفضها التدخل في نزاعات لا تعنيها إلا من منظور العدالة الدولية، وليس الاصطفاف السياسي.
صراع الضرائب.. أم صراع السيادة؟في الأشهر الأخيرة، تصاعد التوتر التجاري بين البرازيل وبعض القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في شكل ضغوط مالية وضرائبية تمس قطاعات استراتيجية في الاقتصاد البرازيلي، مثل الزراعة والتعدين والطاقة.
هذه "الإتاوات الجديدة" ليست مجرد أدوات ضغط تجارية، بل هي شكل من أشكال تقييد القرار السيادي، وإجبار البرازيل على إعادة تموضعها الجيوسياسي.
البرازيل من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل بدأت في تعزيز شراكاتها مع دول الجنوب العالمي، والانخراط بعمق أكبر في مبادرات بديلة للنظام المالي الغربي، سواء عبر بنك التنمية التابع للبريكس، أو في تعزيز التجارة بالعملات المحلية بعيدًا عن الدولار.
هل تستطيع البرازيل المواجهة؟الجواب نعم، ولكن بشروط، فالبرازيل تملك مقومات القوة: اقتصاد كبير ومتنوع يُعد من أكبر 10 اقتصادات في العالم، وموارد طبيعية هائلة تؤهلها لتكون قوة غذائية وطاقوية عظمى، وتحالفات استراتيجية مثل «بريكس+»، تمنحها بدائل للنظام الغربي، فضلًا عن رأي عام محلي بات أكثر وعيًا ورفضًا للهيمنة الأجنبية.
وفي المقابل، تحتاج إلى تحصين مؤسساتها السياسية ضد محاولات زعزعة الاستقرار، وإصلاح داخلي جاد يعالج التفاوت الاجتماعي ويعزز الثقة، وإعلام مستقل يستطيع أن يعبّر عن الرؤية الوطنية دون الوقوع في فخ الدعاية.
البرازيل والتاريخ المعاد كتابتهتخوض البرازيل اليوم معركة رمزية كبرى، ليست فقط على مستوى التجارة أو المناخ أو السياسة، بل على مستوى سردية «من يملك الحق في القرار».
لم تعد مستعدة لأن تكون تابعًا، بل شريكًا متكافئًا في كتابة فصول النظام العالمي الجديد.وكما قال أحد المحللين البرازيليين: «الاستقلال لا يُستعاد فقط من الاستعمار، بل من كل وصاية جديدة تتخفى خلف خطاب ديمقراطي أو بيئي أو أمني».
البرازيل إذن، ليست حديقة خلفية لأحد، بل غابة سيادية كثيفة، فيها ما يكفي من الجذور والأغصان لتقاوم الرياح القادمة من الشمال.
كاتب وباحث في الشؤون الجيوسياسية والصراعات الدولية. [email protected]
اقرأ أيضاًوزير الخارجية يلتقي نظيره البرازيلي في نيويورك لبحث جهود وقف إطلاق النار بغزة
رئيس البرازيل يرفض تهديدات ترامب: لن نخضع للضغوط